Skip to main content

Full text of "أعداد سلسلة عالم المعرفة"

See other formats


: سلسلة كتب تقاقية شهرية بصذرهها 
وه 
لمجنننن الوطرنى للزقاقة والعرون والاد بجعوالب 









ظ 1 
, 


صناعة السّعادة 
كيف باعت لنا الحكومات 
والشركات الكبرى الرفاهية؟ 
ا تأليف: ويليام ديفيز 


البجلس الوحطني 
للأفافة, والفنون والآداب 


06 سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها 
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت 
ا سا 


صدرت السلسلة في يناير 1978 
أسسها أحمد مشاري العدوافٍ (1990-1923) ود. فؤاد زكريا (2010-1927) 


صناعةٌ السعادة 
كيف باعت لنا الحكومات 
والشركات الكبرى الرفاهية؟ 


تأليف: ويليام ديفيز 
ترجمة: مجدي عبد المجيد خاطر 


أل 


للنبثمبر 2018 
404 





أيه 
سلسلة شهرية يصدرها 
المجلس الوطني للثقافة 
والغنون والآداب 
أسسسيها 
أحمد مشاري العدوائي 
د. فؤادزكريا 
المشرف العام 
م. علي حسين اليوحة 
د. محمد غانم الرميحي 
حرمء.لتقحمع © عتسنطته تنا 
هيئة التحرير 
أ. جاسم خالد السعدون ترسل الاقتراحات على العنوان التالي: 
أ. خليل علي حيدر 3 السيد الأمين العام 
د. سعداء سعد الدعاس للمجلس الوطني للثقافة والفئون والآذاب 
د. علي زيد الزعبي ص. ب: 28613 - الصفاة 
د. عيسى محمد الأنصاري الرمز البريدي 13147 
أ. منصور صالح العنزي دولة الكويت 
أ. د. ناجي سعود الزيد هاتف: 22431704 (965) 
مديرة ال ما ده .عند لناع انه انما اياي 
عالية مجيد الصراف التنضيد والإخراج والتنفيذ 
حصمء بووالمععو © طكتعةتصلة.ة وحدة الإنتاج في المجلس الوطني 
سكرتيرة التحرير 7 - 602 - 0 - 99906 - 978 1518131 








هلل فوزي المجيبل 


العنوان الأصلي للكتاب 


:10105117! 55ع7أمم جل ©7111 


سا8 -لاء18 5تآ 5010 ووعصتوه8 نظ لسة اشعسدصسى :60 عط بوكر 


/ا8 
11111075 
,17121250 


5 قننع7 نإما لعطئتاطنام أومز] 
5 و5غ030716آ حمة 1/711 © 
لععوع وأاطعنه الى 


طبع من هذا الكتاب ثلاثة وأربعون ألف نسخة 





3 الحجة 1439 ه ‏ سبتمبر 2018 





المواد المنشورة في هذه السلسلة تعبر 
عن رأى كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس 


الفصل الأول 


قياس الإحساس 


الفصل الذانٍ 


ثمن اللذة 


الفغصل الثالث 


في مزاج الشراء 


الفصل الرابع 


الموظف السيكوسوماتي 


11 


23 


45 


/1 


101 


الفصل الخامس 


أزمة السلطة 31] 


الفصل السادس 


أفثلة اجتماعنة 69] 


الفصل السابع 


الحياة داخل المخْتبر 1099 


الفصل الثامن 


حيوانات إشكالية 225 





مسزد أهم المصطاحات الواردة في الكئاب 253 


الهوامش 261 








7 
«ليس في استطاعة الافتتان الذي 
لا هوادة فيه بكميات المشاعر الذاتية 
إلا أن يحول الانتباه النقدي بعيدا 
عن المشكلات الاقتصادية والسياسية 

الأوسع» 





منذْ تأسيس المنتدى الاقتصادي العامي!*) 
(1885) في العام 1971 صار اجتماعه الذي 
ينعقد سنويا في دافوس 297056 بمنزلة مؤشر 
مفيد لروح العصر الاقتصادي العالمي؛ إِذْ 
تستقطب هذه الاجتماعات, التي تستمر بضعة 
أيام في أواخر يناير. مديرين تنفيذيين» وكبار 
السياسيينء وممثلين لمنظمات غير حكومية, 
وقلة من المشاهير المهتمين بمعالجة القضايا 
الرئيسة التي تواجه الاقتصاد العالمي» وصناع 
القرار المعنيين بتلك القضايا. 

م تكن اهتمامات المنتدى في سبعينيات 


القرن ا منصرمء حين كان لايزال معروفا باسم 


(«) ”8751؟”: اختصار ل ”تارم1 عتتعم دمع 8010" [المحرر]. 


11 





صناعة السعادة 

«منتدي الإدارة الأور وبي» (صنده8 ااعصعع 2صدلة مدعممنناظ ع6ط1): تتجاوز 
تدهور نمو الإنتاجية في أوروبا. وفي الثمانينيات. أصبح شغله الشاغل إزالة قيود 
السوق. وفي التسعينيات برز الابتكار والإنترنت. ثم بحلول العقد الأول من القرن 
الجديد وحالة الانتعاش التي شهدها الاقتصاد العالمي» بدأ المنتدى بتبني اهتمامات 
أكثر «اجتماعية» إلى جانب هاجس الأمن الذي شغل العالم بشكل واضح عقب 
أحداث الحادي عشر من سبتمبر. أما خلال السنوات الخمس التي تلت الانهيار 
المصرفي في العام 2008, فقد انصبت اهتمامات اجتماعات دافوس على كيفية 
استعادة حالة الانتعاش التي كان الاقتصاد العالمي قد شهدها من قبل. 

لكن في اجتماع 2014 كان من بين الحضورء الذين هم مليارديرات ونجوم 
بوب ورؤساءء. مشارك مختلف؛ كان راهبا بوذيا. وقد سنحت الفرصة للوفود كل 
صباح: قبل بدء وقائع الاجتماع, للتأمل برفقة الراهب وتعلم تقنيات الاسترخاء. 
«لست عبدا لأفكارك»؛ هكذا نبه الرجل ذو الثياب الصفراء والحمراء سامعيه 
أثناء إمساكه لوحا ذكياء وأردف قائلا: «إحدى الطرق هي الاكتفاء بالتحديق 
إليهم؛ كراع يجلس وسط العشب يراقب خرافه»”". على الأرجح أن بضع مئات 
من الأفكار الخاصة بمحافظ الأوراق المالية ورشا للمسؤولين ببلادهم قد تسكعت 
عبر المراعي العقلية لجمهور الراهب. 

م يلجأ منظمو دافوسء امتثالا لمبادئ التجارة التنافسية, إلى أي راهب فقط. إِذْ كان 
هذا الرجل راهبا نُخبويا حقيقيا؛ عام بيولوجيا فرنسيا اسمه ماثيو ريكارد ناءنطة84 
لموءن8 صاحب شهرة محدودة صنعها بنفسه. يعمل مترجما عن الفرنسية للدلاي 
لاما ويُعطي دروسا عن موضوع السعادة ضمن مؤتمرات71510 '*؛ وهو الموضوع 
الذي يحظى ببراعة استثنائية في الحديث عنه استنادا إلى صيته بوصفه «أسعد 
رجل في العالم». شارك ريكارد عدة سنوات في دراسة خاصة بعلم الأعصاب في 
جامعة ويسكونسين متقصمء كللا1 01 170197615167 تسعى إلى فهم كيف تحفر وثر ى 
مستويات مُختلفة من السعادة داخل الدماغ. تطلب إجراء تلك الدراسات تثبيت 
(م 588" اختصار للكلمات: ترود ادصدك»7 وادعهرونهة :علد ومهنةء. وتعني: تقانة وترفيه وتصميم. وهو 


عنوان لسلسلة مؤتمرات عالية تُعقد سنوياء وترعاها مؤسسة سابلنغ الأمربكية (صهذاهقصداه8 ومنامه5): تهدف إلى 
التعريف بالأفكار الجديدة ونشرها مجانا على الويب من خلال الرابط: حدمء.4ع]م؟ [المترجم]. 


12 





مقدمة 
6 مجسا في رأمن المفحوص مدة ثلاث ساعات في كل مرةء توضع بعدها النتائج 
على مقياس يتدرج من «تعيس» (0.3+) إلى «نشوان» (0.3-). حقق ريكارد (0.45-) 
وهي درجة م يسبق للباحثين مصادفتها من قبل قط. اليوم» يحتفظ ريكارد في 
حاسوبه المحمول بنسخة من مُخطط النقاط الذي رسمه علماء الأعصاب. حيتُ 
يختال اسمه تيها باعتباره الأسعد©. 
كان حضور ريكارد اجتماعات دافوس في العام 2014 تعبيرا عن تحول 
أعم في النبرة مقارنة بالسنوات السابقة. كان المنتدى مشغولا بأحاديث عن 
الاستغراق العقلي 55ع0112ه841: وهي تقنية للاسترخاء تشكلت من توليفة 
من علم النفس الإيجابي والبوذية والعلاج المعرفي السلوي وعلم الأعصاب, 
وتمركزت خمس وعشرون جلسة في اجتماعات 2014 حول مسائل تتصل 
بالصحة العقلية والبدنية. وهو عدد يزيد على ضعف الجلسات المخصصة لهذا 
الشأن في اجتماعات 92008. 
أطلعتُ جلسات بشأن «إعادة توصيلات الدماغ السلكية». كمثالء من 
حضروها على آخر التقنيات التي يمكن من خلالها تحسين فعالية الدماغ. وسَيرت 
جلسات «الصحة ثروة» مسارات يمكن من خلالها تحويل مزيد من الرفاهية إلى 
شكل أكثر ألفة من رأس امال. لذلك م يكن مدهشاء نظرا إلى الفرصة الفريدة 
التي وفرها حشد هذا العدد الهائل من كبار صناع القرار في العام في مكان 
واحد, أنْ تتحول هذه الاجتماعات أيضا إلى مشهد ضم عروضا تسويقية ضخمة 
لشركات تبيع أجهزة وبرمجيات ونصائح تستهدف دعم مزيد من الاستغراق 
العقلي وأنماط حياتية أقل إرهاقا. 
إلى الآن يبدو الوضع مفهوما. لكن الاجتماعات تجاوزت مُجرد الحديث؛ إِذْ 
تسلم كل مُوفد أداة تُلصق بجسده وتزود هاتفه الذي بتحديثات مستمرة لتقييم 
نشاطه الصحي الراهنء حيتٌ يُنقل هذا التقدير إلى المستخدم في حالة ما إذا كان 
لا يمشي أو ينام بالقدر الكافي مثلا. وقد تمكن الحاضرون في دافوس من استبصار 
مفاهيم جديدة بشأن أنماطهم الحياتية وحالاتهم الصحية, بل استطاعوا إلقاء نظرة 
خاطفة على مستقبل يمكن فيه تقييم أي سلوك من ناحية أثره على العقل والجسم. 
لقد أمكن جمع أشكال من المعرفة لم تكن متاحة في السابق إلا داخل مؤسسة 


13 





صناعة الشعادة 
متخصصة كمختبر أو مَصّحةء أثناء طواف الأفراد بأرجاء دافوس على مدار أربعة 
أيام هي مّدة الاجتماعات. 

هذا هو ما يستحوذ على تفكير نخبنا العالمية. فلم تعد السعادة بمختلف 
مظاهرها مجرد إضافة سارة إلى العمل الأهم وهو جني امالء ولا اهتماما 
من اهتمامات ذوي تلك المرحلة العمرية التي تتيح لمن وصلوا إليها الوقت 
الكافي ليعدوا لأنفسهم الخبزء بل هي الآنء بوصفها كيانات مرئية يمكن قياسها 
وتحسينهاء قد اخترقت قلعة إدارة الاقتصاد العالمي. إذا كان المنتدى الاقتصادي 
العالمي يشكل مرشدا ما - ولطاما أراد أن يكون كذلك في الماضي - فإن مستقبل 
الرأسمالية الناجحة يتوقف على قدرتنا على التصدي للضغوط النفسية والبوؤس 
والمرضء. ووضع الاسترخاء والسعادة والصحة بامكانة اللائقة. لقد أصبحت 
التقنيات والمقاييس والتقانات متاحة الآن لتحقيق ذلك: وهي تغزو مقر العمل 
والشارع الرئيس والمنزل وجسم الإنسان. 

يمتد هذا البرنامج إلى أبعد مما تصل إليه قمم الجبال السويسرية. وقد طفق 
يستدرج على مدى سنوات. شيئا فشيئا في واقع الأمرء صائعي القرار السياسي 
وا لمسؤولين. حيثٌ يَنشّر عدد من الوكالات الإحصائية الرسمية حول العام بما فيها 
الوكالات العاملة في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وأسترالياء تقارير دورية 
عن مستويات «الرفاهية القومية». كما استثمزت مدن بعينها مثل سانتا مونيكا في 
كاليفورنياء في نسخهم الخاصة من هذا البرنامج". وتّروج حركة علم النفس الإيجابي 
لتقنيات وشعارات قد يستطيع الناس من خلالها تحسين إحساسهم بالسعادة 
خلال حياتهم اليومية: وغالبا ما يكون هذا عبر تعلم عرقلة الأفكار والذكريات 
غير المفيدة. وقد اختبرت بالفعل فكرة إضافة بعض تلك الطرائق ناهج المدارس 
لتدريب الأطفال على السعادة©. 

يوظف عدد متزايد من الشركات «مديرين للسعادة», في حين يوجد داخل 
غوغل (000816) معلم تنمية روحانية 5110 04مع :إ[ا0[(*) لنشر الاستغراق 





(:*#) ملاع 0004 ترلأه ه 115 .ه80 أغنية شعبية تُغنى في المناسبات السعيدة كالزواج والميلاد. ربما تعود أصولها 
إلى بدايات القرن الثامن عشر. [المترجم]. 


14 





مقدمة 
العقلي والتعاطفب©. وينصح مستشارو السعادة المتخصصون أرباب العمل 
بخصوص طريقة إبهاج موظفيهم., والعاطلين عن العمل حول كيفية استعادة 
حماستهم للعملء وفي لندن تحديدا يُسدون النصح لأولئك الذين يُشردون عنوة 
من منازلهم: بشأن كيفية الانتقال عاطفيا©. 
تتقدم العلوم حثيثا في دعم هذا البرنامج. ويثبت علماء الأعصاب كيف أن 
السعادة والتعاسة تحفران فيزيائيا داخل الدماغ كما فعل باحثو ويسكونسين 
مع ماثيو ريكارد. ويتلمسون تفسيرات عصبية لبيان السبب وراء تحسين الغناء 
والخضرة لرفاهيتنا العقلية. كما يزعمون اكتشاف الأجزاء الدقيقة بالدماغ 
المسؤولة عن توليد الانفعالات الإيجابية والسلبية بما في ذلك منطقة تُحرض 
«الإحساس بالرضا» حين تُحفزء و«مفتاح التحكم في شدة الألم»". ويراقب 
التحديث داخل حركة «الذات المكممة تماء5 251664دد0» التجريبية الأفراد 
وهم يُباشرون تعقبا شخصيا للمزاج من خلال كتابة اليوميات وتطبيقات 
الهواتف الذكية”. ومع تراكم الأدلة الإحصائية في هذه المنطقة ينمو حقل 
«اقتصاديات السعادة» ليستفيد من كل تلك البيانات الجديدة في بناء صورة 
دقيقة تبين أي المناطقء وأي أنماط الحياة وأشكال التوظيف. أو أي أنواع 
الاستهلاك هو ما يولد الرفاهية العقلية العظمى. 
إن آمالنا تلوى استراتيجيا صوب هذا السعي الموضوعي والموجه والقابل للقياس 
خلف السعادة. ويجاب الآن عن مسائل الحالة المزاجية التي كانت تعد يوما 
أمرا «ذاتيا» باستخدام بيانات موضوعية. وفي الوقت نفسه. أصبح علم الرفاهية 
هذا متداخلا مع معارف طبية واقتصادية واسعة. وتتماهى المزاعم بشأن الأذهان 
والأدمغة والأجسام والنشاط الاقتصادي مع ازدياد التداخل بين التخصصات 
بدراسات السعادة. من دون اهتمام يذكر بالمشكلات الفلسفية ذات العلاقة. نمة 
شاهد وحيد يلوح في الأفق على توجه عام للبشرية نحو الأمثل. وما هو واضح أن 
أولئك الذين يبمتلكون تقانات إنتاج حقائق السعادة يكتسبون مواقع ذات تأثير 
فائقء أما أصحاب النفوذ فتغريهم الوعود التي تقطعها تلك التقانات بدرجة أكبر. 
لكن هل يمكن حقا اتخاذ موقف مُعاد للسعادة؟ يستطيع الفلاسفة 
النقاش حول ما إذا كان اتخاذ هذا الموقف مقبولا أم لا. كان أرسطو قد فهم 


15 





صناعة الشعادة 


السعادة بوصفها غاية البشر القصوىء وإنْ بالمعنى الثري والأخلاقي للكلمة. 
لن يوافق الجميع على هذا. وكتب فريدريك نيتشه: «إن الإنسان لا يصبو إلى 
السعادة. وحده الإنجليزي يفعل ذلك»”". ومع تغلغل علم النفس الإيجابي 
وقياس السعادة بثقافتنا الاقتصادية والسياسية منذ تسعينيات القرن الماضيء 
نما إحساس بعدم الارتياح بسبب الطريقة التي تبنى بها صناع القرار السياسي 
والمسؤولون مفهومي السعادة والرفاهية. حيثُ تكمن الخطورة في أن هذا 
العلم تنتهي به الحال بتحميل الأفراد مسؤولية شقائهم وعلاج هذا الشقاء. في 
حين يتجاهل السياق الذي أدى إلى ذلك. 

يُشارك هذا الكتاب في الكثير من تلك المخاوف. هناك حتما مشكلات 
سياسية غزيرة ملموسة ينبغي التعامل معها الآن قبل أن نصب جزءا كبيرا من 
اهتمامنا على الشروط العصبية والذهنية التي نختبر من خلالها فرادى تلك 
ا مشكلات. كذلك يغلب الشعور بأنه عندما يتشبث عمداء المنتدى الاقتصادي 
العالمي ببرنامج ما بهذا القدر الوافر من الاستمتاع. يكون هناك ما يدعو إلى 
الشك على الأقل. فتقانات تعقب الحالة المزاجية وخوارزميات التحليل الوجداني 
وتقنيات التخلص من الضغوط النفسية باستخدام التأمل. توضع في خدمة 
مصالح اقتصادية وسياسية بعينها؛ فهي ليست هبات لنا يي نصل إلى ازدهارنا 
الأرسطي. لذلك يعجز إلى حد كبير علم النفس الإيجابيء الذي لا يكف عن ترتيل 
أن السعادة «خيار» شخصيء عن توفير المخرج من النزعة الاستهلاكية والأنانية 
الذي يبحث عنه كثيرون. بالمعنى الذي يصفه معلمو علم النفس الإيجابي. 

لكن هذا ليس إلا عنصرا واحدا من النقد المزمع تطويره هنا. إحدى الوسائل 
التي يعمل بها علم السعادة أيديولوجيًا هي طرح نفسه بوصفه علما جديدا 
بشكل جذريء مُعلنا نفسه بداية جديدةً يمكن من خلالها التغلب على الآلام 
وسياسة الماضي ومتناقضاته. والدماغ هو وسيلتنا لتحقيق هذا الوعد في أوائل 
القرن الحادي والعشرين. «لم تكن لدينا فكرة في الماضي عما يجعل البشر 
سعداء - أما الآن فنحن نعرف»»: هكذا يُقدم العلم الجديد. إن علما طبيعيا 
عن الوجدان الذاتي في متناول أيديناء لكننا شغوفون بألا ندعه يعمل عبر الإدارة 
والطب والاعتماد على النفس والتسويق وسياسات تغيير السلوك. 


16 





مقدمة 

لكن ثرى ماذا لو كنا نمتلك هذا الفيض من المعارف السيكولوجية على 
مدى مائتي العام الأخيرة؟ وماذا لو مم يكن علم السعادة الراهن بكل بساطة 
إلا التكرار الأخير في مشروع متجدد يفترض أنْ العلاقة بين العقل والعالم تخضع 
للتدقيق الرياضياتي؟ هذا أحد الأمور التي يستهدف هذا الكتاب الكشف عنها. 
مرة أخرىء منذ الثورة الفرنسية وحتى الآن (وبوتيرة أسرع في أواخر القرن التاسع 
عشر)ء جرى الترويج ليوتوبيا علمية مُعينة تغدو فيها أسئلة أساسية عن الأخلاق 
والسياسة قابلة للحل من خلال علم واف يختص بال مشاعر الإنسانية. ستتفاوت 
طريقة تصنيف تلك المشاعر علميا بشكل واضح؛ إذ ستصبح آنا «انفعالية», 
وآنا أخرى «عصبية»؛ «مواقفية» أو «فيسيولوجية». لكن نمطا يتجلى. على رغم 
ذلك يطرح من خلاله علم يختص بالمشاعر الذاتية باعتباره سبيلا نهائيا لضمان 
طريقة للتصرف الأخلاقي والسياسي. 

تعود روح هذا البرنامج إلى عصر التنويرء لكن أولئك الذين استفادوا منه 
بالدرجة الكبرى هم ذوو الاهتمام بالسيطرة الاجتماعية: وفي كثير من الأحيان 
لخدمة منافعهم الخاصة. ويُفْسّر ذلك التناقض المؤسف السبل الدقيقة التي 
تتقدم بها صناعة السعادة. لا أبتغي من وراء انتقاد علم السعادة تشويه قيمته 
الأخلاقية في حد ذاته. ناهيك عن التهوين من شأن آلام أولئك الذين يعانون 
شقاء أو اكتئابا مزمنين ممّن قد يطلبون عونا مفهوما من تقنيات الإدارة المعرفية 
أو السلوكية الجديدة. إن ما أستهدفه بالدراسة هو تورّط الأمل والابتهاج مع 
بنى القياس واطراقبة والحكومة التحتية. 

إن مثل تلك القضايا التاريخية والسياسية تفتح الطريق أمام عدد من 
المسائل الأخرى. فقد لا تمثل هذه الرؤية العلمية للعقل بوصفه شيئا عضويا 
أو آلياء في وجود سلوكياته واضطراباته هذه التي تتطلب الرصد والقياس, 
الحل الأمثل لأمراضناء بل ربما نجد هذا الحل بين العلل الثقافية الأعمق. 
يمكن القول إننا أصبحنا بالفعل منتجا للمساعي المتداخلة المتعددة. بل 
المتعارضة أحيانا لرصد مشاعرنا وسلوكياتنا. فقد ظل المعلنون ومسؤولو الموارد 
البشرية والحكومات وشركات الأدوية يراقبونناء ويحفزونناء ويحثونناء ويجرون 
التحسينات» ويستحوذون علينا سيكولوجيا منذ أواخر القرن التاسع عشر. ربما 


17 





صناعة الشعادة 
ما نحتاج إليه الآن ليس المزيد أو الأفضل من علم السعادة أو السلوكء بل الحد 
الأدنى. أو على الأقل علم مختلف. ترى ما هو احتمال أن يلتفت المؤرخون بعد 
مائتي عام إلى أوائل القرن الحادي والعشرين ويقولون: «حقًاء آنذاك ككشف 
نهائيا عن حقيقة السعادة البشرية»؟ وإذا كان ذلك مستبعداء اذا نستمر إذن 
بهذا الحديث مالم يكن مفيدا لأصحاب النفوذ؟ 

هل يعني هذا أن الانفجار الراهن الذي يشهده الاهتمام التجاري والسياسي 
بالسعادة مجرد بدعة بلاغية؟ وهل ستتبدد ممجرد أن يُعاد اكتشاف استحالة 
الاختزال للقضايا السياسية والأخلاقية في حسابات عددية؟ على الأرجح لا. هناك 
سببان مهمان يعزى إليهما اكتساب علم السعادة تلك الأهمية البارزة في أوائل 
القرن الحادي والعشرينء لكنهما ذوا طبيعة سوسيولوجية. لذلك لا يطرحهما 
علماء النفس والمسؤولون والاقتصاديون وعلماء الأعصاب ممّن يطورون هذا 
العلم, بشكل مباشر البتة. 1 

يتعلق السبب الأول بطبيعة الرأسمالية. كان أحد الحاضرين في اجتماعات 
دافوس في العام 2014 قد ألقى تعقيبا حوى من الحقيقة أكثر بكثير مما قصد 
على الأرجح: «لقد اختلقنا المشكلة التي نحاول الآن حلها»”*". كان يتحددث 
تحديدا عن كيف أن ممارسة العمل مدة أربع وعشرين ساعة يومياء سبعة 
أيام في الأسبوع, إلى جانب الأجهزة الرقمية المتاحة دائماء قد أصابتا المسؤولين 
الكبار بالإجهاد البالغ ما جعلهم يضطرون الآن إلى الاستغراق في التأمل لمجاراة 
التبعات. على أي حالء يمكن تعميم التشخيص نفسه على ثقافة الرأسمالية ما 
بعد الصناعية على نطاق أوسع. 

لقد انتكبت النظم الاقتصادية الغربية بأزمة حادة منذ ستينيات القرن 
الماضي جعلتهم يعولون بدرجة أكبر على اندماجنا الانفعالي والسيكولوجي (سواء 
كان ذلك من خلال العمل والعلامات التجارية؛ أو من خلال صحتنا ورفاهيتنا) 
في الوقت الذي يكتشفون فيه الصعوبة المتزايدة في الحفاظ على هذا الاندماج. 
ولا تندرج أشكال الانفصال الذاتي الذي يبرز في الأغلب باعتباره اكتثابا أو أمراضا 
سيكوسوماتية 590605072816 تحت بند المعاناة التي يشعر بها الأفراد فقط, 
بل تستفحل صعوبتها بالنسبة إلى صناع السياسة والمسؤولين حين تُفسّر على 


18 





مقدمة 
أساس اقتصادي. على رغم ذلك ترسم أدلة من علم الأوبئة الاجتماعية صورة 
مقلقة للكيفية التي تتركز بها التعاسة والاكتئاب في المجتمعات غير العادلة إلى 
حد كبيرء والتي تشيع فيها قيم تنافسية ومادية فجة2". تشدد أماكن العمل 
بشكل متصاعد على الجماعة والالتزام السيكولوجيء لكن ذلك يكون في مقايل 
ميل اقتصادي أطول أمدا إلى التذرر صملغةةتددمعة وانعدام الأمن. إن لدينا 
نموذجا اقتصاديا يُخفف من آثار السمات السيكولوجية التي يرتكز إليها تحديدا. 

لقد اختلقت الحكومات والشركات بهذا المعنى الأكثر تاريخية وعمومية 
إذن: «المشكلات التي تحاول الآن حلها». وأنجز علم السعادة النفوذ الذي يتمتع 
به لأنه يَعدُ بتوفير الحل الذي طال انتظاره. فقبل كل شيء, يستطيع اقتصاديو 
السعادة تحديد سعر نقدي لمشكلة البؤس والاستلاب. إِذْ قدرت مؤسسة غالوب 
م11[ لاستطلاع الرأيء على سبيل المثال. أن عدم إحساس الموظفين بالسعادة 
يكلف اقتصاد الولايات المتحدة خمسمائة مليار دولار أمريي سنويا بسبب 
تدني الإنتاجية والإيرادات الضريبية وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية”". يسمح 
ذلك بالزج بانفعالاتنا ورفاهيتنا إلى قلب الحسابات الأوسع للكفاءة الاقتصادية؛ 
حيث تؤدي تقنيات علم النفس الإيجابي والتقنيات المرتبطة بها دورا جوهريا 
في مساعدة البشر على استعادة طاقاتهم ودوافعهم. والأمل كامن في احتمال 
التغلب على الخلل الأساسي في اقتصادنا السياسي الراهن من دون مواجهة 
القضايا الاقتصادية والسياسية الخطيرة. فغالبا ما يدور علم النفس حول الكيفية 
التي تتحاشى بها المجتمعات النظر في المرآة. 

السبب البنيوي الثاني للاهتمام المتعاظم بالسعادة مُربك أكثر بعض الشيء. 
وهو يتعلق بالتقانة. فحتى وقت قريب نسبياء ظلت محاولات أغلب العلماء 
لمعرفة الطريقة التي يشعر بها فرد آخرء أو للتلاعب بهاء تجري داخل مؤسسات 
مُحددة بشكل رسمي كالمختبرات والمصحات النفسية وأماكن العمل والجلسات 
النقاشية 5مناه© وداء80 أو ما شابه. تغيرت الحال الآن؛ فقد نشر فيسبوك 
عاهوطءء83 في يوليو 2014 ورقة أكادمية تضم تفاصيل بشأن الكيفية التي بدّل 
بها الحالات المزاجية مئات الآلاف من مستخدميه؛ وذلك من خلال التلاعب 
بالخلاصات الإخبارية 86605 ومك[<2”" الخاصة بهمء ما سبب اندلاع نوبة 


19 





صناعة السعادة 
احتجاج بذريعة السرية التي أحاط بها فيسبوك بحثه. لكن مع انقشاع الغيمة 
تحول الغضب إلى قلق: ترى هل يجشم فيسبوك نفسه عناء نشر ورقة كهذه 
في ا مستقبلء أم يكتفي بمواصلة التجربة على أي حال ويحتفظ بالنتائج لنفسه؟ 

إن رصد مشاعرنا وحالاتنا المزاجية يغدو إحدى وظائف بيئتنا المادية. في العام 
4 اختبرت الخطوط الجوية البريطانية «بطانية سعادة» تصف مستوى رضا 
المسافر عبر الرصد العصبي؛ إذ يتحول لون البطانية من الأحمر إلى الأزرق كلما 
استرخى الركاب أكثر؛ ما يعطي مؤشرا إلى طاقم شركة الطيران بأن ما يقدمونه من 
رعاية مناسب إلى حد كبير. ويتوافر الآن في السوق قدر من التقانات الاستهلاكية 
لقياس وتحليل مستوى السعادة بدءا من ساعات المعصم إلى الهواتف الذكية إلى 
فيسل 1/إ17658؛ وهو كوب ذكي يرصد ما تتناوله من سوائل من ناحية آثاره الصحية. 

كانت إحدى الحجج النيوليبرالية ا مؤسسة. دعما للسوق. تزعم أنه يعمل كجهاز 
استشعار رحبء يلتقط اللايين من رغبات الأفراد وآرائهم وقيمهمء ويحولها إلى 
أسعار 015 ريما نكون على أعتاب عصر ما بعد نيوليبرالي جديد م يعد فيه السوق 
الأداة الرئيسة لالتقاط مثل هذا الوجدان الجماعيء فبينما تُغرق أدوات رصد 
سعادتنا حيواتنا اليومية؛ ترز طرق أخرى للتقدير الكمي للمشاعر فوريا بصورة قد 

تتوغل بها في حيواتنا أكثر من الأسواق. 

كانت المخاوف الليبرالية بشأن الخصوصية تعتبرها عادة شيئا في حاجة إلى 
ا موازنة في مقابل الأمن. لكن اليوم, نحن مضطرون إلى التصدي لحقيقة أن قدرا 
ضخما من المراقبة يجري بهدف تحسين صحتنا وسعادتنا والإشباع المعنوي أو لذاتنا 
ا محسوسة. وبصرف النظر عن البواعث وراء ذلك. فإننا لو تصورنا وجود حدود 
للمدى الذي ينبغي لحيواتنا أن تخضع فيه للإدارة بشكل مُحترفء فلا ريب أن ظ 
هناك حدودا! للقدر الذي ينبغي أن نطمح إليه من الإيجابية البدنية والنفسية. إن 
أي انتقاد للمراقبة الواسعة ينبغي أن يتضمن الآن انتقادا لتعظيم الرفاهية. حتى 
إن جاء ذلك على حساب الصحة والسعادة والثراء. 

لا يشير استيعاب تلك الاتجاهات باعتبارها تاريخية أو سوسيولوجية في حد 
ذاته إلى الطريقة التي ربما تعرضت بها للمقاومة أو الرفض. لكنه يحظى بفائدة 
تحررية عظيمة: من خلال تحويل اهتمامنا النقدي نحو العام في الخارج, لا إلى 


20 





مقدمة 
الداخل نحو مشاعترنا وأدمغتنا وسلوكنا. غالبا ما يقال إن الاكتئاب «غضب انقلب 
إلى الداخل». وفي كثير من النواحيء فإن علم السعادة «نقد انقلب إلى الداخل» على 
رغم كل توسلات مختصي علم النفس الإيجابي كي «نبصر» العالم من حولنا. ليس في 
استطاعة الافتتان الذي لا هوادة فيه بكميات المشاعر الذاتية غير أن يحول الانتباه 
النقدي بعيدا عن المشكلات الاقتصادية والسياسية الأوسع. لذلك: بدلا من السعي 
إلى تبديل مشاعرناء ها قد حان الوقت ال مناسب كي نستدعي ما قلبناه إلى الداخل 
ونحاول توجيهه إلى الخارج مرة أخرى. وواحدة من طرق البدء هي إلقاء نظرة 
متشككة على تاريخ قياس السعادة نفسه. 


21 





«إن ما يتشبث به علم السعادة شيء 
ذو مغزى, لكنه يسعى إليه من خلال 
أدوات ومقاييس ليست كافية لاقتناص 
هذا المغزي». 





قياس الإحساس 


كان جيرمي بنتام تتقطعمء86 تإسرعيع[ 
يجلس في مقهى هاربر 1©م:118 في هولبورن 
بلندن حين صاح: «وجدتها!». م يكن 
الدافع الخاطف إلهاما عقليا نبع من داخله. كما 
كان بالنسبة إلى أرخميدس حين خلّد الصيحة 
من مُغطسه. بل فقرة من كتاب «مقالة عن 
الحكومة» 60761812616 011 (8553 للمصلح 
الديني والعالم الإنجليزي جوزيف بريستالي 
ترلاوء5:1 طمءون1. كانت الفقرة تقول: 

«إن خير وسعادة الأعضاءء. وأعني بهذا 
أكثرية أعضاء أي دولة, هما المعياران العظيمان 
اللذان ينبغي أن يتحدد بهما كل ما يتعلق بتلك 
الدولة آخر الأمر». 


23 





صناعة الشعادة 

كان بنتام في الثامنة عشرة. وكان العام هو 1766. خلال الستين عاما التالية, 
تبنى بنتام رؤية بريستلي وحولها إلى عقيدة حكم جامعة بالغة السطوة: مذهب 
ا منفعة. هذه النظرية التي تقول إن العمل الصالح هو أبما فعل يتمخض عنه مُنتهى 
سعادة العشيرة كلها. 

نمة شيء مهم يتعلق بحقيقة بحقيقة أن لحظة الكشف التي شهدها بنتام لم تكن 
تعبيرا عن أصالة عقلية عظيمة. كما أنه لم يزعم قط أنه صاحب ريادة فلسفية. 
ذلك أن بنتام» إلى جانب تأثير بريستلي. كان مرتاحا بالاعتراف بأن الكثير من 
حديثه عن الدافع والطبيعة البشريين منقول عن الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد 
هيوم'". حيث لم يكن لديه إلا اهتمام محدود بإنتاج نظريات جديدة, أو 
مُجلدات فلسفية من العيار الثقيل؛ وم يجد قط متعة كبرى في الكتابة. فيما 
يتعلق ببنتام» كانت هناك حدود لا قد تأمل أي فكرة أو نص في تحقيقه متى 
تعلق الأمر بتحسين البشر سياسيا أو اجتماعيا. إن مجرد الإيمان بأن «السعادة 
القصوى لأكبر عدد من البشر» ينبغي أن تمثل غاية الأخلاق والسياسة ليست 
له أهمية تذكر, مالم يمكن تصميم مجموعة من الأدوات والتقنيات والمناهج 
لتحويل هذا المعتقد إلى مبدأ مؤسس للحكم. 

بخلاف شهرته بوصفه مفكرا تجريدياء يُفهم بنتام على أنه نصف فيلسوف 
ونصف تقنيء وقد تدفقت من هذه الثنائيةق العديد من المتناقضات. فهو مفكر 
لديه نفور إنجليزي كلاسيكي من المذهب العقليء ومُنظر قانوني آمن بأن الكثير مما 
ارتكز إليه القانون ليس إلا هراء. ومُجدد ومتفائل تنويري تهكم من الأفكار المتعلقة 
بوجود حقوق أو حريات متأصلة للبشرء ومُناصر لمذهب التعة أكد أن كل لذة أو 
مسرة يمكن تفسيرها عصبيا. تتباين الحكايات عن شخصيته بشكل كبير؛ فيكشف 
بعضها عن رجل ذي تواضع ودفء كبيرين» وبعضها الآخر عن رجل ممانع ومتكبر. 

أسفرت علاقة بنتام بأبيه عن شقاء هائل؛ إذ كان طفلا ضعيفا؛ خجولا؛ وغير 
سعيد في الأغلب. ويبدو أن أباه كان يحاول أن يصنع منه طفلا مُعجزة مستخدما 
الترهيب. حتى إنه أنى إلا أن يعلمه اللغتين اللاتينية واليونانية وهو لايزال في 
الخامسة من عمره. التحق بمدرسة وستمنستر 787686502125665 لكنه تعرض للإذلال 
لأنه كان أصغر الطلاب هناك. وفي الثانية عشرة من عمره التحق بجامعة أوكسفورد 


24 





قياس الإحساس 


حيث انجذب إلى دراسة الكيمياء والبيولوجيا. ربما رأى شقاء أكبر في الجامعة يفوق 
ما رآه في المدرسة. أسس مُختبرا صغيرا للكيمياء في حجرته وأحس بألفة قوية مع 
العلوم الطبيعية التي ظل يمارسها في سنوات المراهقة. لا ريب أن ذلك التوجه كان 
سيوفر له الإشباع العقلي الذي كان يسعى إليه عقله الرياضياتي لولا استبداد أبيه, 
لكن الأخير كان رجل قانون وقد أصر على أن ينتهج ابنه خطواته نفسها كي يجني 
دخلا لائقا. فأصبح تحت هذا الإكراه محاميا بالمحاكم العليا في جمعية لنكولن 
قض] وسصتامعصاءآ بلندن. 

لم تُشعر ممارسة القانون, ولا تأثير أبيه المستمر, بنتام بالسعادة. كما أصابه 
حياؤه بالفزع من الاضطرار إلى الوقوف والترافع في محكمة. ربما كان لايزال يتوق 
إلى مختبر الكيمياء الذي جهزه في منزله. كان يتعطش بالتأكيد لعلاقة عاطفية 
وحميمية. لكنه حين أحب امرأة في بداية عشرينياته وقف أبوه في طريقه مرة أخرى 
معترضا على العلاقة على أساس أن المرأة محل الخلاف م تكن بالثراء الكافي. في هذا 
الصراع بين امال والحبء أعجز ما يقاس ما لا يُقاس. فيما بعد. أصبح بنتام مدافعا 
جريئا عن الحريات الجنسية: بما فيها التسامح مع المثلية التي رآها مكونا محتوما 
لتعظيم متعة الإنسان". 

كانت حياته المهنية التي ارتقت منذ التحاقه بجمعية لنكولن عبارة عن تسوية 
دائمة بين إملاءات أبيه الأخلاقية والمهنية من ناحية, والحوافز السياسية والعلمية 
التي تُحركه من الداخل من ناحية أخرى. لقد صار القانون المجال الذي حقق فيه 
شهرته حقاء لكن ليس كما كان يرمي أبوه. ذلك أنه هب ينتقد القانون ساخرا من 
لغته. مطالبا بالمزيد من البدائل المنطقية في الوقت الذي راح يُصمم فيه أجهزة 
وسياسات تستطيع الحكومات من خلالها الإفلات من الهراء الفلسفي للمبادئ 
الأخلاقية المجردة. لم يجعله هذا الموقف ثرياء فانتهى الحال ببنتام معتمدا ماليا على 
راتب من أبيه الذي م تفارقه خيبة أمله في ابنه المحامي الفاشل. 

كان بنتام التقني أحيانا يلقي بظلاله على بنتام الفيلسوف. فخلال تسعينيات 
القرن الثامن عشر كانت نشاطاته من النوع الذي قد نخلط الآن بينه وبين نشاطات 
مستشار إدارة قطاع عام. كان يقضي أغلب تلك الفترة في تصميم تقانات وآليات 
مدهشة اعتقد أنها تستطيع تحسين كفاءة وعقلانية الدولة. وكتب يقترح على وزارة 


25 





صناعة الشعادة 
الداخلية البريطانية الربط بين أقسام الحكومة المختلفة باستخدام مجموعة من 
«أنابيب الحوار» لتحسين التواصل فيما بينها. وأعد تصميمات لما دعاه «فريدغاريام» 
تن وعم للحفاظ على الطعام طازجا. كما أرسل إلى بنك إنجلترا مُخططا طاكينة 
طباعة يبمكنها إصدار أوراق نقدية لا يمكن تزويرها. 

كانت حرفة المهندس هذه تتكامل مع رؤيته لشكل أكثر عقلانية للسياسة, 
والتي دفعت إلى الكثير من أشهر مقترحاته السياسية كسجن اللمراقبة الجماعية 
«البانوبتيكون» ممء1)اممصوط!*) الذي كاد يدرج بالقانون الإنجليزي خلال 
تسعينيات القرن الثامن عشر قبل أن يفشل المشروع. خلال أواخر سبعينيات القرن 
الثامن عشرء بدأ بنتام الكتابة عن موضوع العقاب, لاسيما أن العقاب بدا كأنه 
يطرح وسائل منطقية للتأثير في السلوك الإنساني. إذا همكن من استهداف النزعة 
السيكولوجية الطبيعية للسعي وراء المتعة وتجنب الأم. لم تكن هذه قضية نظرية 
أو أكاديمية قطء وم ينشر إلا أقل القليل من هذه الكتابات إلا بعد سنوات عديدة. 
كانت غايته دائما إصلاح النظام العام» لكن هذه الغاية كانت تتطلب تفكيرا أعمق 


قليلا في طبيعة السيكولوجيا الإنسانية. 
علم السعادة 


كان بنتام ناقدا شرسا للمؤسسة القانونية لكنه كان نادرا ما يتعاطف مع الحركات 
الثورية والراديكالية التي كانت تتفجر في أماكن أخرى. وقد واجه ادعاءات الثورتين 
الفرنسية والأمريكية بالاستهزاء مُعلنا أن: «الحقوق الطبيعية محض هراء. الحقوق 
الطبيعية التي لا تسقط بمرور الزمن ما هي إلا هراه بلاغي منمق»”. وارنكب الفلاسفة 
الراديكاليون: كتوماس بين عصنهة2 1335مط]” ممن استمالتهم مثل هذه الأفكار, الأخطاء 
نفسها التي ارتكبها الملوك أو الزعماء الدينيون حين ادعوا قداسة إلهية أو سحرية تحيط 
بأعمالهم؛ ذلك أنهم كانوا يتحدثون عن شيء لا وجود ملموسا له. 

كان البديل الذي قدمه بنتام هو التأسيس لصناعة قرار قانوني وسياسي قائم 
على بيانات إمبريقية وعلمية. وفيما يتعلق بهذا الشأن. كان هو من اخترع ما 


(#) البانوبتيكون هه10]مه0ضة8 : هو سجن عبارة عن بناء مجمع يمكن رؤية داخله كله من مطل واحد. [المترجم]. 


26 





قياس الإحساس 
صار يعرف منذ ذلك الوقت ب«صناعة السياسات المستندة إلى أدلة». وهي 
الفكرة القائلة إن التدخلات الحكومية يمكن تخليصها من أي مبادئ أيديولوجية 
أو أخلاقية بحيث لا تسترشد إلا بالحقائق والأرقام. في أي سياسة تُقَيِّم بناء على 
نتائجها القابلة للقياس؛ أو تُقدَّر بناء على كفاءتها باستخدام تحليل التكلفة 
والفائدة» يكون بنتام حاضرا. 
تستمد العلوم الطبيعية تقدمها الهائل: كما يرى بنتام. من قدرتها على تجنب 
الاستخدام العقيم للغة. كان على السياسة والقانون تعلم هذا الدرس. من وجهة 
نظر بنتام كل اسم يشير إما إلى شيء «حقيقي» أو «خيالي» - لكننا غالبا ما 
نفشل في خمييز الفرق. قد تعني كلمات مثل الخير 0002685). والواجب 66نا(2 , 
والوجود ع©1:215]62, والعقل 81150 ؛ والحق غطع81. والباطل 12028 . والسلطة 
167 هطندق ‏ والعلة أو السبب 08056 شيئا لناء وقد نجحت بالهيمنة على الخطاب 
الفلسفيء لكن بقدر ما يتعلق الأمر ببنتام, فإنه ما من شيء تشير إليه تلك الكلمات 
حقا. كان يحتج بقوله إنه: «كلما زاد تجريد القضية. زاد احتمال اعتبارها محض 
سفسطة»”*. المشكلة أننا غالبا ما نقترف هذا الخطأ ونعتبر مثل هذه القضايا واقعا. 
على نقيض ذلكء تنتظم لغة العلم الطبيعي حول أشياء مادية ملموسة يتصل 
بكل منها وصف مُحدد. لكن ترى كيف يمكن تأسيس الحكومة أو القانون بهذه 
الطريقة؟ ربما كان إلحاق أسماء مُركبات مُحددة أمرا بسيطا بالنسبة إلى كيميائي, 
لكنه وضع مختلف جذريا بالنسبة إلى قاض أو مسؤول حكومي أن ينضبط تماما في 
استخدامه للكلمات. على أي حالء ما الأشياء المادية الملموسة التي تصنع السياسة؟ 
إذا مم تعد السياسة تشغل نفسها بقضايا مُجردة مثل العدل 156166[ أو الحق الإلهي 
أطعنه عستافط: فبأي شيء ستنشغل بدلا منها؟ 
كانت إجابة بنتام هي السعادة. مفترضا بذلك أن هذا الكيان يترسخ في شيء 
«حقيقي». لكن كيف؟ بأي منطق يُصبح مصطلح «السعادة» أقل خيالية من لنقل, 
«الفضيلة»؟ للإجابة عن ذلك ارتد بنتام إلى صورة من الإثبات طبيعي النزعة. «لقد 
وضعت الطبيعة البشر تحت سيطرة سيدين مهيمنين: الألم واللذة» وليس هذا إلا 
حقيقة واقعة". قد لا تكون السعادة في حد ذاتها ظاهرة موضوعية مادية, لكنها 
تصيبنا بوصفها نتيجة لمصادر مختلفة من اللذة ذات الأساس الفيسيولوجي الراسخ. 


27 





صناعة الشعادة 


على خلاف الكثير من الأفكار الأخرى التي تطرأ في عقولناء ثمة شيء حقيقي. 
موضوعيء يُفضي إلى السعادة. إنه يذكرنا أننا كائنات مادية وبيولوجية لها دوافع 
ومخاوف لا تختلف عن الحيوانات الأخرى. نستطيع التفكير في السعادة بشكل 
علمي بطريقة لا يمكننا التفكير بها عمليا ببساطة في أي فئة فلسفية أخرى. من 
شأن القدرة على مباشرة علم كهذا إمداد الحكومات بأساس جديد كليا تستطيع 
بناء عليه تصميم سياسات وقوانين لتحسين مستوى رفاهية البشر بالمعنى الواقعي 
أو المنطقي الوحيد. 

يمكن ت-'.يد مكونات من الخبرات التي شهدها بنتام في حياته في هذه 
النظرية السيكولوجية للسياسة. مقدمتها المنطقية كانت تراجيدية تشير إلى 
شقاء صاحبها: ادمر الوحيد الذي تشترك فيه البشرية كلها هو قدرتها على 
احتمال الألم. يكمن التفاؤل فقط في إعادة توجيه للدولة بالجملة إلى تخفيف 

. المعاناة والارتقاء بالمتعة. كان بنتام مشهورا بتفهمه الاستثناني لمشاعر الآخرين» 
أكثر من اللازم في الأغلب. وقد جعلته حساسيته هذه شديد التعود على شقاء 
الآخرين. إن إحدى فضائل مذهب المنفعة الكبرى» بوصفه فلسفة أخلاقية, هي 
هذا البعد المتعاطف. واعتقادها ضرورة أن نعتبر رخاء الآخرين أمرا جادا كأنه 
رخاؤنا. ولأن البشر ليسوا الكائنات الوحيدة التي تعاني؛ فإن كثيرا من النفعيين 
قد وسعوا هذا المذهب ليطال الحيوانات. 

ربما يتمكن الزعماء السياسيون. من خلال فهم أفضل لدوافع السيكولوجيا 
الإنسانية؛ من تحويل النشاط الإنساني إلى اتجاه سعادة البشر الكبرى. وقد 
استحوذت مسألة العقاب على الكثير من وقت وجهد بنتام لأنها بدت الأداة الأكثر 
فاعلية في جعبة المشرعين عندما يتعلق الأمر بتوجيه النشاط الفردي إلى الاتجاه 
الأمثل. يقول بنتام إن: «عمل الحكومة هو تعزيز سعادة المجتمع من خلال الثواب 
والعقاب»”. سيرعى السوق الحرء الذي كان بنتام يؤيده بلا حدود. جانب الثواب 
من هذا «العمل» إلى حد كبير؛ في حين ستتولى الدولة مسؤولية الجانب الآخر. كان 
إلحاق الألم بالبشرء سواء في أجسادهم أو في أرواحهمء يعني الدفع بالسياسة إلى 
ملكوت الواقع الملموس وترك عام الأوهام اللغوية. كان لبنتام جانبه القاتم في وقت 
تنتشر فيه رؤية تنويرية متفائلة. 


28 





فياس الإحساس 


يمكن النظر إلى تشديد بنتام على حقيقة الألم البدني الغاشمة وارتيابه في 
اللغة بوصفهما تعزيزا متبادلا. كانت الؤرخة الثقافية جوانا بورك هضصده[ 
801:1 قد سلطت الضوء على العلاقة المشحونة بين اللغة والأنلم منذ القرن 
الثامن عشر”. فالأم إما أن يبدو كأنه يتحدى الوصف كلياء وإما أن يُعامل 
بوصفه موضوعا مُحرما ينبغي اختباره في صمت. ثمة تاريخ طويل من النظر 
إلى آلام من يعانونء لاسيما من أصحاب الشخصيات الثيرة للشك. بوصفها آلاما 
مبالغا فيها أو موصوفة بشكل خطأ. يطرح هذاء وفقا لبنتام, فكرة وجود واقع 
موضوعي يتعلق بالأم يمكن تمثيله إذا كانت الكلمات وضحايا الأمم مُجهزين 
بشكل أفضل للقيام بذلك. يفتح هذا الطرح الطريق أمام الخبراء لفهم ذلك 
الواقع أو وصفه؛ نظرا إلى عجز المتأم نفسه. كما يفتح الطريق أمام الأرقام 
لتمثيل مثل هذه المشاعر في حال عجزت الكلمات. 

هكذا أصبح علم السعادة مكونا حرجا في إنجاز شكل منطقي للسياسة 
والقانون؛ إذ يمكن استخدامه في توجيه السلوك نحو الغايات المثلى للجميع. ومع 
تزايد المنحى العلمي للحكوماتء أصبح قادرا على التنبؤ بقدر التدخلات المتباينة 
التي تؤثر في خيارات الأفراد. هذه ليست «سعادة» بال معنى الأثيري أو الميتافيزيقي. 
ولا بأي معنى أخلاقي بالطبع وفقا لفهم أرسطوء بل سعادة بمعنى ) الحدوث المادي 
داخل الجسم البشري. ربما نظر علم الأعصاب المعاصر ٠‏ الذي يحقق هذا الاختزال 
للسيكولوجيا إلى عمليات بيولوجية» إلى بنتام باعتباره الإجابة عن جميع قضايانا 
الأخلاقية والفلسفية. من جهة أخرى يقوم قدر كبير من الاهتمام العلمي اممعاصر 
بالدماغ والسلوك على فرضيات بنتامية مسبقة. 

هذا المنحى توضحه دراسة في علم الأعصاب نشرها جمع من الباحثين في جامعة 
كورنيل 1م005 في العام 2014, فبزعمهم اختراق «آخر حصون» هذا العلم, وهي 
التسمية التي أطلقوها على أسرار مشاعرنا الداخلية, ادعى الباحثون أنهم فكوا 
«الشفرة» التي يتعامل الدماغ البشري من خلالها مع جميع اللذات والآلام المختلفة, 
كما شرح كاتب الدراسة الرئيس قائلا: 

يبدو أن الدماغ الإنساني يولد شفرة خاصة لكامل طيف التكافؤ بين 
المشاعر السارة وغير السارة؛ الطيبة والسيئة, وهي الشفرة التي يمكن 


29 





صناعة السشعادة 
قراءتها بوصفها «عداد تكافؤ عصبي» يساوي فيه ميل مجموعة من 
الخلايا العصبية إلى أحد الاتجاهات شعورا إيجابياء وميلها إلى الاتجاه 
الآخر شعورا سلبيا. 
هذا الوصف للكيفية التي تعمل بها اللذة والأم ماديا هو تقريبا ما افترضه بنتام: مما 
يطرح أسئلة بشأن مدى النجاح الذي قد يأمله علم الأعصاب في الإفلات من الفرضيات 
الثقافية لأبطاله. بالنسبة إلى العلماء المزودين بأجهزة للقياس. يبدو اكتشاف أن أحد 
أعضاء الجسم مزود هو الآخر بأجهزة للقياس؛ أمرا خاضعا للمصافة على أقل تقدير. 
تطرق الدراسة واحدة من القضايا الخلافية الكبرى في مذهب المنفعة. وهي 
المتعلقة بالقدرة على موضعة أنماط التجارب الإنسانية امُختلفة على تدريج واحد. 
حيثٌ يؤمن علماء الأعصاب بجامعة كورنيل بشكل واضح بقدرتهم على هذا: 
«مادمنا أنا وأنت نجني اللذة نفسها من ارتشاف النبيذ الجيد أو مشاهدة الغروب. 
فإن نتائجنا تقترح تفسيرا لذلك بأننا نتشارك نماذج نشاط متشابهة بالغة الدقة في 
القشرة المخية الجبهية». هذه ملحوظة ساذجة نسبيا حين يُصبح النبيذ الجيد أو 
الغروب هما الفيصل. لكن حين تتم المساواة بين الخبرات الأعمق كالحب أو الجمال 
الفني وبين الخبرات الأبسط كتعاطي الدواء أو التسوقء يُصبح الزعم بأن جميع 
اللذات تحصى داخل القشرة المخية الجبهية بالطريقة ذاتها أكثر إشكالا. 
يشير الفلاسفة إلى هذا الجدل حول القدرة على موضعة جميع اللذات والآلام 
على تدريج واحد باعتباره نزعة واحدية جزة هل وكان بنتام واحديا بامتياز©. 
لم يستطع أن ينكر أننا نتحدث عن أصناف مُختلفة من السعادة والرضا باستخدام 
كلمات شتىء لكن السند الموضوعي لكل تلك الأصناف كان دانما الشيء ذاته - وهو 
اللذة الجسدية. نحن نسعى بشكل طبيعي إلى: «الفائدة؛ المنفعة؛ اللذة؛ الخير أو 
السعادة, وهي أشياء تعنيء في نهاية المطاف, الشيء ذاته»؟". بالمثل» تمثل المعاناة 
الموغلة داخل تجربة الألم البدنية كيانا متفاوت الدرجة لا النوعية. 
إننا حين نقبل وجود إحساس بدني واحد مطلق يُشكل أساس كل التصرفات 
والخبرات الجيدة والسيئة» فنحن نقبل بالتالي أن هذا الإحساس لا يختلف إلا من 
حيث الدرجة. م ينجز بنتام قط أي بحث علمي في هذا الشأن, لكنه قدم نموذجا 
سيكولوجيا يشرح بالتفصيل الطرق المختلفة التي تتفاوت بها اللذة من حيث 


30 





قياس الإحساس 


الدرجة. وطرح سبعا منها في بيانه الأشهر حول الموضوع: «مقدمة لمبادئ الأخلاق 
والتشريع» مه غةأواأعوع.![ لصة كله:540 2ه 5عأركءصاءط عطا 0غ صمغع سل م صل 
أغلبها يسهل فهمه من الناحية الكمية”". كانت «اللدة الزمنية» للذة إحدى 
الفئات الكمية الواضحة نسبياء و«قطعية» اللذة المستقبلية أحد الأشياء التي 
نراها الآن عرضة لنمذجة المخاطر الرياضياتية. أما «نطاق» اللمتأثر ين بفعل ما 
فهو محك كمي بسيط آخر. 

كان حجر العثرة العلمي الرئيس بالنسبة إلى مشروع بنتام بأكمله هو فئة 
وحيدة بالأخص. ألا وهي «الشدة»؛ إذ كيف يُمكن لعالم أو مُشْرّع أو من يوقع 
العقاب أو صانع قرار سياسي أن يعرف مدى شدة أم أو لذة ما؟ بطبيعة الحال. 
قد يعتمد المرء على خبرته من خلال الاستبطان, لكنه أبعد ما يكون عن المقاربة 
العلمية. أو رما يطلب من الناس كتابة تقارير عن خبراتهم مستخدمين لغتهم 
الخاصة. لكن حينئذ, ألا يكون المذهب النفعي بذلك قد تقهقر إلى قاعة المرايا التي 
هي اللغة الفلسفية؛ «طغيان الأصوات» الذي نصف من خلاله معنى أن نكون 
بشرا؟ كان قياس شدة آلام ولذات مختلفة هو المهمة التقنية التي إما أن يصمد فيها 
المشروع البنتامي وإما أن ينهار. 


كيف نقيس؟ 

كان القرن الثامن عشر زمن إبداع في خلق أدوات للقياس. فقد أخترع 
الترمومتر في العام 1724, والسدسية +5688 (التي تقيس الزوايا بين أي شيئين 
مرئيين مثل النجوم) في العام 1757. والميقات البحري في العام 1761. كان طرح 
معايير وأدوات قياس جديدة من الإنجازات الأولى للثورة الفرنسية في تسعينيات 
القرن الثامن عشرء بما في ذلك البدء في استخدام مقياس بلاتيني مستحدث. وهو 
متر قصر المحفوظات #5 #اأطءءق 065 :غ34 الذي كان موجودا داخل قبو في 
قصر المحفوظات القومي في باريس. 

أصابت الحاجة إلى معايير قياسية موثوق بها صميمّ عصر التنوير الذي تزامنت 
ذروته مع النصف الأول من حياة بنتام المهنية. كان التنوير كما عرّفه إيمانويل 
كانط في العام 1784 يعني إفلات البشرية من «الفجاجة التي فرضتها على نفسها, 


31 





صناعة السعادة 
حيثٌُ الفجاجة تعني العجز عن الانتفاع بفهم المرء الخاص من دون إرشاد من فهم 
شخص آخر»”". فعلى خلاف أسلافه الذين أجازوا للسلطات الدينية والسياسية أن 
تمي عليهم الحقيقة من الكذبء والحق من الباطلء لا يعتمد المواطن «الناضج» 
المتنور إلا على حكمه الخاص. أصبح شعار عصر التنوير الذي اقترحه كانط الجرأة 
على المعرفة 2106 ع35م53. وصار عقل الفرد الناقد هو بارومتر الحقيقة الوحيد 
المخول بالسلطة. لكن لهذا السبب أصبحت مسألة استخدام الجميع نفس مقاييس 
المقارنة على القدر نفسه من الأهمية, وإلا سقط المشروع بأكمله في الثرثرة النسبية 
لوجهات النظر الذاتية. 

كان بنتام يأمل أخذ منحى علمي وتسليط نظرة متشككة على طرائق عمل 
السياسة والعقاب والقانون بنحو مشابه. وشدد على ضرورة أن نعرف ماهية ما 
سيجعل الناس أسعد, وأن نتعامل مع مشاعر كل شخص بالقدر نفسه من الاهتمام, 
بدلا من المعتقدات غير المفندة بشأن العدل أو القيم المشتركة. وقد عرف تحديدا 
كيف يضع القضية في إطارها العلمي- هل تُسفر هذه السياسة أو القانون أو 
العقوبة عن لذة أكبر أو أقل بالنسبة إلى المجتمع ككل؟ 

لكن ما نوع أداة القياس التي كانت متاحة لتجهيز الرد؟ كلها تتعاطف جيدا مع 
معاناة الآخرينء كما كان بنتام يقينا. لكن من دون معيار يمكن من خلاله مقارنة 
اللذات والآلام المختلفة, لن يتجاوز ما يفعله النفعي مُحِردَ التخمين. على الجانب 
الآخرء لا ريب أن طبيعة إحسامّي السرور والأم ذاتية, وأن البحث عن مقياس عام 
للسعادة تكتنفه الصعوبة. 1 

على الرغم من انتقاده الدائم ال موجه إلى قابلية مشروعه السياسي للتطبيق لم 
يخصص بنتام اهتماما يذكر بهذه المسألة. كان يشير أحيانا إلى أن مبدأ «السعادة 
القصوى» التابع للأحكام السياسية لا يمكن تحويله إلى علم كمي بصورة حقيقية. 
لكن بالنظر إلى توسل الواقع الإمبريقي الصرف الذي يتخلل سيكولوجيا بنتام, 
وتعليقاته اللاذعة بشأن كل أشكال التجريد الفلسفيء ينبغي علينا أن ننظر بجدية 
إلى التصور الذي أراد أن يُعيد في إطاره بناء السياسة والقانون بناء على أشكال تقنية 
من القياس والحساب. فلو كانت السعادة هي المنفعة الإنسانية الوحيدة التي يمكن 
الحديث عنها بشكل علميء فحينئذ سيكون من المستغرب ألا نسعى إليها بالطرق 


32 





قياس الإحسياس 


العلمية. هكذا نرجع إلى المشكلة: كيف يمكن قياس شدة اللذة أو عدمها بإحساس 
ما؟ وكيف تتجلى المنفعة بحيث يمكن استيعابها من خلال القياس؟ 1 
يطرح بنتام إجابتين مبدثيتين عن هذا التساؤلء لكنه لم يقتف أثر أي منهما 
بأي طريقة تجريبية أو عملية. وكلتاهما قد شملت تحديد ما ينوب عن السعادة, 
بدلا من الزعم أن المشاعر نفسها يمكن استيعابها. لكنه ألمح عن غير قصد بكل حالة 
منهما إلى مناطق واسعة من البحث العلمي قد يرتادها فيما بعد علماء النفس 
وا مسوقون وصناع القرار السياسي والأطباء والأطباء النفسيون وخبراء الموارد البشرية 
ومحللو وسائل التواصل الاجتماعي والاقتصاديون وعلماء الأعصاب والأفراد أنفسهم. 
أولى إجابتي بنتام هي أن معدل نبضات قلب الإنسان قد يوفر مؤشرا إلى 
السرور يمكن الإفادة منه في حل مشكلة القياس”". لم يكن مشغولا على نحو خاص 
بهذه الفكرة, لكنه أدرك أن الجسم يطرح أعراضا ما قابلة للقياس لا يمر به العقل. 
وما دامت السعادة هي في نهاية المطاف تجميعا للمشاعر السارة. ففكرة القدرة 
على اكتشاف مستويات السعادة من خلال الجسم ليست مفاجئة تماما. إننا نعي 
هذا بداهة في حياتنا اليومية عبر الكيفية التي نقرأ بها تعبيرات وجه شخص آخر أو 
لغة جسده. لذلك ربما يصبح وجود علم يختص بمثل هذه الإشارات ممكنا. ويبدو 
أن معدل النبض يُقدم إمكانية قيام علم كمي تجريبي يختص بدراسة الرفاهية 
يتجاوز الثقافة. قد تكون الكلمات خادعة, لكن نبض قلوبنا لا يمكن أن يكون كذلك. 
إجابة بنتام الثانية التي كان أكثر حرصا فيها. دارت حول إمكانية استخدام 
النقود. يمكن افتراض أنه إذا ما استوجبت سلعتان مختلفتان السعر النقدي نفسه. 
فإنهما توفران القدر ذاته من النفع بالنسبة إلى المشتري. بهذا الطرح سبق بنتام 
عصرة؛ إِذْ مم يدرك الاقتصاديون هذا التحليل إلا بعد ثلاثين عاما ونيف من وفاته. 
لكن لأن بنتام كان مهتما بما تستطيع الحكومات عمله للتأثير في سعادة الشعب كله 
بدلا مما كان يجري في صفقات السوق بين الأفراد بصفاتهم الشخصية: فإنه لم يول 
إلا قدرا ضئيلا من الاهتمام لللاحقة هذه الفكرة بوصفه اقتصاديا. مع ذلك. فإنه من 
خلال نشر فكرة أنه ربما كانت للنقود علاقة ما مميزة بما يعتمل في داخلنا تتجاوز 
قدرات أي أجهزة أخرى للقياس تقريباء هيأ بنتام الأجواء للتشابك بين البحث 
السيكولوجي والرأسمالية الذي سيشكل الممارسات التجارية في القرن العشرين. 


33 





صناعة الشعادة 


هكذا كانت وستظل الخيارات: إما النقود وإما الجسم؛ الاقتصاد أو الفيسيولوجيا؛ 
. الدفع أو التشخيص. لو قَدّر للسياسة أن تصبح علمية وتتحرر من هراء التجريد, 
فسيكون انطلاق المشروع من خلال الاقتصاد أو الفيسيولوجيا أو توليفة ما منهما. 
حين أطلق هاتف 6 122026 في سبتمبر 2014, كان التجديدان الجوهريان فيه 
كاشفين تماما: تطبيق يراقب النشاط الجسديء والآخر يمكن استعماله في السداد 
داخل المتاجر. أينما ابتغى الخبراء رصدّ عاداتنا في التسوق؛ أدمغتنا أو مستويات 
إجهادنا النفسي. فهم يسهمون في المشروع الذي وضع بنتام أسسه. ومنزلة امال في 
هذا العلم مثيرة للاهتمام؛ ففي حين تتعرض المفاهيم الأخلاقية والسياسية للهجوم 
بوصفها تجريدات عقيمة وغبية, ينظر إلى لغة الباوندات والبنسات على أنها على 
علاقة طبيعية وراسخة إلى حد ما بمشاعرنا الداخلية. إن هذه المنزلة الاستثنائية التي 
تُعزى إلى الاقتصاد منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الآنء بوصفه أقرب إلى أن 
يكون علما طبيعيا من أن يكون علما اجتماعياء هي من إرث هذه النظرة إلى العامط. 
قد تبدو مشكلة القياس مسألة جافة تتعلق بالمنهجية العلمية. فلا ريب 
أننا نعلم جميعا ما كان بنتام يقصده حين قال إن على الحكومة أن تسعى إلى 
تحقيق السعادة القصوى للجميع؛ فهل نحن في حاجة حقا إلى أن يتوقف تفكيرنا 
عند تفاصيل كيفية حساب هذه السعادة؟ نستطيع بالطبع أن نهب بنتام منزلة 
فيلسوف ونتجاهل تطلعاته التقنية والابتكارية. كما نستطيع أن نتأمل الطريقة 
التي يعمل بها مذهب المنفعة نظريا من خلال ممارسة ألعاب تحليلية داخل قاعة 
البحث الفلسفي. 
ليس من الواضح إِنْ كان بنتام سيسعد كثيرا بإرث كهذا. والأقل وضوحا هو 
مسألة ما إذا كان هذا إرثه الأهم. يمكن القول إن قضايا البنتامية التقنية والحسابية 
المنهجية» بأشكالها المتباينة, هي القضايا الأكثر أهمية في كيفية بناء حيواتنا السياسية 
والاقتصادية والطبية والشخصية. لهذا السبب. سواء أأمكن اعتبار الجسم (كما هي 
الحال من خلال معدل النبض) أو النقود مؤشرين على السعادة أم لا. فإن هذه 
القضية ربما تمثل أهمية قصوى بالنسبة إلى الكيفية التي شيد بها حقا مذهبٌ 
المنفعة العام من حولنا. وعموماء م يبدأ أي جهد منظم لبناء مقاييس كمية للشعور 
إلا بعد سنوات قليلة من وفاة بنتام في العام 1832. 


34 





قياس الإحساس 


رفع أثقال في لايبزيغخ مذدماء.آ1 

في الثاني والعشرين من أكتوبر من العام 1850. انطلقت صيحة «وجدتها!» 
ثانية» لكن هذه امرة في لايبزيغ بأطانياء حين أدرك جوستاف فخنر 49ؤون© 
#عصطءء8؛ وهو لاهوتي وفيزياني كان قد تعافى حديثا من انهيار عصبي طويلء فجأة 
أن مشكلة العقل- - الجسم التي شغلت كثيرين من الفلاسفة الألمان ربما يمكن حلها 
من خلال الرياضيات. وسجل تاريخ هذه الانطلاقة في يومياته. 

جمثل علاقة العقل بالعام الماديء» بما فيه الجسم. المشكلة الجوهرية في الفلسفة 
الحديثة. حيث أسس شك رينيه ديكارت 665 6م236 في واقعية العام 
المادي إلى جانب يقينه في وجوده الخاصء ثنائية تألفت من عام الفكر وعاط الأشياء 
المادية. تعد هذه الثنائية موقفا فلسفيا يصعب تبنيه؛ إذ تهدد دائما باختزال أي من 
الجانبين في الآخر بشكل مُخل: إما اختزال العالم بأكمله باعتباره مجرد نتيجة للعقل 
المفكر (المثالية). وإما اختزال التفكير إلى مجرد توارد مادي يخضع إلى قوى الطبيعة 
(الإمبريقية). كما افترض بنتام. وقد تصدى مفكرون تنويريون عديدون لهذاء أبرزهم 
كانط الذي تصور أنه تجنب المصيرين من خلال التمييز المنهجي بين قضايا المعرفة 
العلمية وقضايا المبدأ الأخلاقي والفلسفي. كان العقل الإنساني بالنسبة إلى كانط 
شيئا ينتمي قطعا إلى الفئة الأخيرة. جاعلا أي علم يختص بالنفس »طعترو2 فقط 
أمرا مستحيلا. 

تبنى فختر الثنائية لكن موقفه كان مميز؛ حِيتٌ شكلت أفكاره خلفية 
فكرية شديدة الانتقائية وضعته في موقف استثناني بالنسبة إلى القضايا الفلسفية 
التقليدية. كان فخنر ابنا لقس علمه (شأن والد بنتام) اللاتينية وهو م يزل بعد 
طفلا صغيرا. سجل لدراسة الطب في جامعة لايبزيغ, لكنه انتهز فرصة وجوده هناك 
لحضور محاضرات عن علم النبات وعلم الحيوان والفيزياء والكيمياء. وتعرض في 
الوقت ذاته لكثير من فظاعات الفلسفة المثالية الألمانية. كفلسفة الطبيعة لشيلينغ 
8نلاعط؟ ؛ ورومانسية هيغل. أجرى تجارب على الكهرباء في وقت مبكر من 
حياته الأكاديمية, إلى جانب انخراطه في جدالات لاهوتية حول طبيعة الروح أو 
النفس. كان الحقلان المنفصلان اللذان نعرفهما الآن بوصفهما «علما» و«فلسفة» 
لايزالان متداخلين في الجامعات الأمانية ثلاثينيات القرن التاسع عشر. 


35 





صناعة الشعادة 


قد يُوصف فخرر الآن بالمفكر المنتمي إلى العصر الجديد. وقد تجسدت عبقريته 
في العثور على وسيلة جمع بواسطتها بين اهتماماته الفكرية المتباينة. مع بقائه 
فيلسوفا وعاما؛ ميتافيزيقيا وفيزيائيا. في أثناء ذلك, أدخل الأسئلة المتعلقة بالعقل 
(التي ألقى بها كانط فيما وراء عواطم امعرفة) في مجال العلم. لهذا السبب يمثل فخنر 
إحدى الشخصيات الرئيسة في تطوير ما نعرفه الآن بالسيكولوجيا. 

بأي طريقة يمكن للرياضيات أن تكون مفيدة في حل مشكلة العقل-الجسم؟ 
نشأت الإجابة من عمل فخنر بالفيزياء. كان عدد من الفيزيائيين الألمان قد صاغ مبدأ 
حفظ الطاقة!*) على مدار أربعينيات القرن التاسع عشرء إلى جانب مضامين مهمة 
لفهم النقطة الأساسية التي تقول إن الطاقة لا تفنى: قد يتبدل شكلهاء لكن لا تتغير 
كميتها. ينص اللبدأ على أنه مادامت الحرارة تتحول إلى ضوء. أو الفحم إلى حرارة. فإنه 
من الممكن افتراض بقاء كمية من الطاقة خلال فترة زمنية مُعينة. رما يُنظر إلى هذا 
المبدأ باعتباره صورة أخرى من صور الواحدية. وفي سياق الثورة الصناعية» أصبح هذا 
الكشف مصدرا لتفاؤل هائلء بأنه لا حدود للكفاءة التي يمكن أن تصل إليها التقانة. 

ازدادت قدرة الرياضيات على' تفسير كل أشكال التغيير نتيجة لهذه النقلة في 
الفيزياءء وكشفت النقاب عن استقرار كمي مضمر. كان ابتكار فخنر هو تطبيق 
المبدأ نفسه على مسائل كانت مستقرة في السابق داخل حقل الفلسفة؛ إِذْ لو كان 
الفيزيائيون مُحقينء لأمكن إدراج العقل داخل إطار العمل الرياضياتي هذا. كان 
المثير في إنجاز فخنر أنه لم يطرح بوضوح شكلا من الاختزالية البيولوجية. وعلى 
نحو معاند. لم يقترح أن العقل مجبول من المادة +ع5ه/3 لهعنعرطط. بل اقترح 
أن: «للإرادة والفكرء والعقل كله أن تكون حرة بقدر الإمكانء لكنها لن تقدر على 
ممارسة حريتها إلا عبر القوانين العامة للطاقة الحركية؛ لا على نحو يعارضها»2", 
كانت الطاقة, كما فهمها فخنر, تتجاوز الحد الفاصل بين العقل والجسم ممتثلة 
لقوانين الرياضيات في أثناء ذلك التخطي. 

وكانت العقيدة التي قدمها فخنر, والمعروفة بالفيزياء النفسية قع7:1طمهتء:زو2, 
تقول إن العقل وامادة كيانان منفصلان. وعلى رغم ذلك هناك ضرورة أن تربط 
(*) ينص مبدأ حفظ الطاقة أو القانون الأول للديناميكا الحرارية على أن الكمية الكلية للطاقة تظل ثابتة ولا 
تتغير. [المترجم]. 


36 





قياس الإحساس 


بينهما علاقة رياضياتية مستقرة ما". كانت نظرية فخنر السيكولوجية مشابهة 
في بعض النواحي لنظرية بنتام؛ إذ كان مُقتنعا هو الآخر بأن الناس تسعى إلى 
اللذة» وإن بدرجة أقل باعتبارها مسألة سبب أو نتيجة طبيعيينء وبدرجة أكبر 
باعتبارها مسألة رغبة شهوانية عفوية. (صاغ فخنر مصطلح «مبدأ اللذة» الذي تبناه 
سيغموند فرويد فيما بعد)9". 

وقد ميز فخنر نفسه عن إمبريقية بنتام الإنجليزية في ناحيتين. الأولى: أن 
الفلسفة لم تكن تشكل تهديدا له. كانت كلمات مثل «النفس». و«العقل»», 
و«الحرية»» أو «الآلهة» تُشير إلى أشياء حقيقية: وإن لم تكن بالمعنى الفيزياني أو 
القابل للقياس. كان هذا دليلا على تأثير هيغل. كان التجديد الفلسفي بالفيزياء 
النفسية هو طرحها أن تلك الكينونات يمكن أن تصبح معروفة من خلال الجسد 
المادي بعدة طرق. كان مبدأ حفظ الطاقة يعني: وقد اجتاز الحدود الفاصلة 
بين العالمين الفيزيائي وغير الفيزيائيء ضرورة أن تتسع الأفكار الفلسفية لعلاقة 
رياضياتية ما تربطها بامادي والجسدي. 

هكذا كانت ثنائية فخنر. بمعنى أنه ثبت على إيانه بعالمين متوازيين» الأول 
عام الأفكار الفلسفية, والآخر عام الحقائق العلمية..إن ما ميزه عن أتباع النظرية 
الثنائية في الفلسفة؛ مثل ديكارت وكانط, اعتقاد غامض ما بأن العاطين على انسجام 
رياضياتي ما. وقد كانت الاستعارات الصناعية مفيدة هناء وهي التي تشي بالسياق 
الاقتصادي الذي كان يعمل فيه: «محرك بخاري يضم قوى غير ملموسة تعمل داخل 
كيان فيزيائي»؛ وبالمثل. «كائن بشري ينبغي استيعابه باعتباره حلفا بين العقل غير 
اطادي والجسم امادي»”". 

الناحية الثانية هي أن فخنر اعتزم اكتشاف الكيفية التي تعمل بها حقا هذه 
العلاقة الرياضياتية عمليا. كان قد شرع في هذا الأمر منذ العام 1855 عبر سلسلة 
من التجارب السرية التي رفع فيها أجساما ذات فروق دقيقة في الوزن» ليختبر 
كيف تترابط التغييرات بالوزن المادي مع التغييرات في الإحساس الذاتي. فلو حملت 
جسمين متشابهين جدا في الوزن فما الفرق اللازم تحديدا بين وزنيهما قبل أن أعرف 
بالضبط أيهما أثقل؟ كانت وحدة القياس التي قدمها فخنر لتحديد هذا الفرق اللازم 
هي ما أشار إليه ب«أقل فرق ملحوظ». 


37 





صناعة الشعادة 

إضافة إلى ذلك لو كنتٌ أحمل بالفعل ثقلا بحجم ماء فكم يبلغ مقدار الإحساس 
الإضافي الذي أشعر به إذا أضاف شخص ثقلا آخر بنصف حجم الثقل الأصلي؟ هل 
يتبدل الإحساس مرة أخرى بمعدل النصف (كما قد يتوقع المرء منا)» أو بمعدل أقل 
من ذلك؟ كان قياس العلاقة بين عالمي النفس والمادة بشكل صحيح يعني حلا علميا 
للقضايا الفلسفية. وكان حجم الطموح الذي يُحرك الفيزياء النفسية كبيراء على رغم 
أن التجارب التي استندت إليها كانت بدائية نسبيا. 

ربما كان بنتام قد صمم سياسات وخططا ومخططات تفصيلية لسجون؛ ومقترحات 
ل«أنابيب حوار» وما إلى ذلكء لكنه لم يشرع قط في العمل على الجسم البشري نفسه 
أو تناول مشكلة القياس باستثناء تأملاته النظرية بشأن معدل النبض والنقود. كان 
الفلاسفة الإنجليز يميلون إلى التحيز لمصلحة العام الفيزيائي المحسوس على حساب 
العام الميتافيزيقي للأفكار. لكنهم دافعوا عن هذا التحيز من فوق مقاعدهم الوثيرة. 
اللافت للانتباه أن فخنر - المثالي؛ الغامض؛ الرومانسي - هو من أنزل حقا الماورائيات 
إلى الأرض من خلال سبر أغوار الجسم وقياس الأحاسيس وإجراء التجارب. 

ولأنه لم يفترض تحديدا أن ما هو فيزيائي سابق ما هو سيكولوجي (كما فعل 
بنتام)» فقد كان في حاجة إلى اختبار كيف يرتبط كل منهما بالآخر. لم تكن هذه 
نظرية تنص على ما إذا كانت العمليات العقلية تخضع للعمليات البيولوجية أو 
العكسء بل كانت تدشينا لحقل جديد من البحث العلمي زخر في نهاية القرن 
التاسع عشر بعلماء النفس والاقتصاديين وصناعة وليدة لمستشاري الإدارة. كان 
علم النفس الكمي والاقتصادي الذي ستحل فيه الموازين والمقاييس محل نظريات 
العقل, والذي تكهن به بنتام فقطء في طور الالتئام. وأصبحت الآن فكرةٌ «أن مشاعر 
وسلوك الأفراد ربما تكون قابلة لتعديلات الخبراء»: احتمالا آليا وتقنيا هي الأخرى. 


ديموقراطية الأجسام 
في عصر التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي 2*!5823181 صار الحديث عما 
«تفعله», و«تريده»» و«تشعر به» أدمغتنا شائعا على نحو متزايد. وفي مواقف كثيرة 


(*)828481 : اختصار للكليات عرضاعم 12 ععسمدموعظ8 عتأعدودك؟ لقدمتأعسظ 


38 





قياس الإحساس 


يُطرح هذا الأمر باعتباره خطاب نوايا أكثر عمقا من أي شيء آخر نستطيع الحديث 
عنه شفهيا. حيث حمل مقال نشرته عالمة الأعصاب بجامعة أكسفورد؛ إيرين تريسي 
1520 عمعفلء في العام 5 عنوان «استخراج السرد من الأم» عط عمنلة]' 
منة" 2ه غ0 عحلؤوررولح”*', وأسس معلم التسويق؛ مارتن ليندستروم 2/3615 
هته الذي درس أدمغة آلاف المستهلكين باستخدام التصوير بالرنين 
المغناطيسي الوظيفي» حياته المهنية على فكرة أن «الناس يكذبونء أما الأدمغة 
فلا»”". يتعلم الناس في ميادين الإدارة العقلية فائقة التقانة, مثل التدريب على 
الاستغراق العقلي. الإحساس با تفعله عقولهم ومشاعرهم في اللحظة الراهنة, 
بوصفها طريقة لتخفيف القلق. كما يساعدهم التأمل على رصد هذه العمليات 
الصامتة وقبولها. 

يثير هذا عددا من الأسئلة. ترى كيف تمكن لجزء مُعين من أجسامنا أو ذواتنا 
امتلاك صوته الخاصء وكيف يتسنى للخبراء الزعم بمعرفة ما يقوله هذا الجزء؟ 
تشكل بعض الحجج والتقنيات التي كان بنتام وفخنر أول من قدمها أساسا لتلك 
ا مزاعم. أولاء وقبل كل شيء. الارتياب في اللغة باعتبارها وسيطا للعرض. يُلقي خوف 
بنتام من «طغيان الأصوات» بظلال من الشك على قدرة الأفراد على التعبير عن 
أنفسهم كما ينبغي. لقد أدرك بنتام قطعا أن كل شخص هو أفضل حكم على ملذاته 
وسعادته الخاصتين أثناء حياته؛ لكن فيما يتعلق بسياسة عامة ماء كانت بعض 
الوسائل الأخرى للتعرف على ما فيه خير الشعب في حاجة إلى الاختراع. 

لقد اخترعت أشكال مُختلفة من تقانات قراءة العقل, لا لشيء إلا الهرب 
من ال مشكلة الواضحة والمتعلقة بأن اللغة عاجزة عن نقل المشاعر والرغبات 
والقيم. وسواء أكانت تلك التقانة تشمل النقود والأسعار. أو القياسات التي 
تستهدف الجسم البشري (كأجهزة مراقبة النبض والعرق والتعب). فإن علم 
أحاسيسنا الداخلية يسعى إلى أشكال من الحقيقة قد تتجاوز الكلام تماما في نهاية 
المطاف. وفي العام 2014 وصل إلينا نبأ إحدى أكثر حالات تطبيق هذا التصور 
إثارة للدهشة. وهي نجاح العلماء في إنجاز اتصال تخاطري من دماغ إلى دماغ 
لأول مرةء وذلك باستخدام ال ماسحات الضوئية العصبية 7©155ضهء205ناعم 580 
إن المقصد الأخير ,لثل هذه التطورات هو شكل من: الديموقراطية الصامتة غير 


39 





صناعة الشعادة 
المأهولة إلا بأجسام مادية خرساء. لحم تكن لدى بنتام إلا فكرة بسيطة عن مدى 
الاتساع الذي قد يبلغه قياس اللذة والأم؛ في حين كان فخنر مقيدا بتجاربه على 
جسمه هو لا على أي جسم آخر. لكن الاستنتاجات المنطقية التي توصل إليها 
هذان الرجلان واسعا المعرفة تشير إلى مجتمع يستطيع فيه الخبراء والسلطات 
التنبق مما فيه خير لنا من دون سماع أصواتنا. 

ثمة نقطة مفقودة هنا. من وجهة نظر بنتام وفخنر الواحدية للعام. تتفاوت 
الخبرات من حيث الكمية. وهي 3 تستوي على تدريج بين اللذة القصوى والألم 
الأقصى. لكن ما تهمله هذه النظرة حتما هو احتمال أن يكون لدى البشر أسبابهم 
المعقولة للإحساس بالسعادة أو التعاسة؛ والتي تتساوى في أهميتها مع المشاعر 
ذاتها. حين نوجه النقد والأحكام للأفرادء أو نتوجه إليهم بمطالب (أو فيما يتعلق 
بهذا الشأنء بامتنان أو استحسان). فإن علينا إدراك أنهم يحظون بالقدرة على 
التعبير عن أفكارهم وأجسامهم. هذا يعني استيعاب القرقء لنقل بين اليأس . 
والحزن» وبين قدرة الفرد على التعبير عن قصد وبشكل ذي مغزى باستخدام تلك 
المفردات. على سبيل المثال. حين يعبر شخص ما عن غضبه. ويحاول شخص آخر 
التخفيف من حدة هذا الغضب.ء فربمما تغفل هذه المحاولة ما كان الأول يحاول 
قوله تماماء بل قد يعتبرها إهانة. وإذا كانت معرفة المرء حقيقة أن تفاوت الدخل 
بين بريطانيا والولايات المتحدة قد بلغ مستويات م تُشهّد منذ عشرينيات القرن 
العشرين تتعسه. فإن مختصي علم اقتصاد السعادة ينصحون بألا يعرف المرء ما 
يجنيه غيره؛ لأن ذلك يسبب نوعا من اليأس*. في عالم واحدي 840180 ما من 
شيء إلا العاطفة, وتجاربٌ اللذة والألم تتذبذب بهدوء داخل الرأس مع أعراض 
واضحة لعين الخبير. 

ينعكس هذا بدرجة عميقة على طبيعة السلطة السياسية والأخلاقية 
المجتمع العقلاني المتنور الذي تخيله بنتام مجتمعا صممت فيه كل المؤسسات 
بطريقة تجعلها منسجمة تماما مع تقلبات النفس البشرية. بحيث تبدو وظيفة 
حكم مجتمع ليبرالي حديث كأنها مواجهة بين نمطين ذوي طبيعة مادية. فمن 
جهة, هناك الآلية التي يعمل بها العقل وتحكمها ملاحقة اللذة وتحاشي الأمم, وهي 
آلية لم يعد هناك مجال لإنكارها كالحاجة إلى الطعام والنوم. ومن جهة أخرى. 


40 





قياس الإحساس 


هناك قوى مادية شتى مصمّمة للتأثير في تلك السيكولوجيا؛ كالحوافز النقدية؛ 
والسمعة الاجتماعية؛ والاحتجاز والعقاب البدني؛ والإغراءات الجمالية؛ والقواعد 
والتشريغات... وهلم جراء كلها لا تفي بأي غرض ما لمم تكن مهيأة لحسابات الفرد. 

في مجتمع كهذا تخضع السلطة السياسية لمن هم على دراية أكبر بقياس الأفراد 
وإدارتهم. فما من سبب آخر يوجب تعامل الدول المباشر بإدارة لها هذه الطبيعة, 
وهو ما اكتشفته أنظمة نيوليبرالية كثيرة جدا في الآونة الأخيرة. لقد سبقت واحدةٌ 
من توصيات بنتام السياسية؛ التاتشرية!* والرفاة الاجتماعي المشروط بقرنين من 
الزمن تقريباء وهي تنصح الدولة بتأسيس شركة قومية للأعمال الخيرية (شركة 
مساهمة على غرار شركة الهند الشرقية) يمكنها تقليل الفقر من خلال توظيف مئات 
الآلاف في «دور صناعة» خاصة”0. تضمُن أيضا اقتراخه الخاص بسجن البانوبتيكون 
توصية بأن تبني شركات خاصة وتدير السجون بتصريح تمنحها إياه الدولة. يمكن 
النظر إلى جيرمي بنتام؛ الذي لمم يكن راضيا عن إعادة تصور قوام السلطة القانونية, 
باعتباره الأب الروحي لاستعانة القطاع العام بالمصادر الخارجية. 

حدد فخنر الطريق لتكون الإدارة التفصيلية للأفراد أكثر وثاقة,. حيث اقترح 
ضمناء في معرض وصفه للعلاقة بين العقل والعالم كنسبة عددية: سبيلين بديلين 
لدعم حظ البشر. ينطوي السبيل الأول» وهو طريق متدرجء على تغيير السياق 
المادي الذي يسبب الألم (كالعمل أو العوز). أما السبيل الثاني فيصب تركيزه على 
تغيير طريقة الإحساس بهذا السياق المسبب للألم. كان أغلب الخبراء الذين اقتفوا 
خطوات فخنر أطباء نفسيين ومعالجين ومحللين ممّن ركزوا على المفحوص صاحب 
المشاعر, لا على السبب في تلك المشاعر. فأمامك خياران في حال أصبح ما تحمله 
من أثقال يسبب آلاما مبرحة: إما أن تقلل حجم ما تحمله من وزنء وإما أن تولي 
اهتماما أقل.بالأمم. وفي بداية القرن الحادي والعشرينء يوجد رهط متزايد من 
الخبراء في التدريب على سهولة ومرونة التكيف؛ والاستغراق العقلي والعلاج ا معرفي 
السلوي ممّن ينصحون باختيار الاستراتيجية الأخيرة. 
(*) التاتشرية دموذ:عطءعهط1: من مرادفات «الخصخصة» التي ظهرت في سياق التاريخ البريطاني؛ فقد أجرت 


مارغريث تاتشر مع +هط1' أء:دوعدلة. رئيسة وزراء بريطانيا في الفترة (1979 - 1990): تغييرات اقتصادية جذرية 
قامت على سياسة التحول هن القطاع العام إلى القطاع الخاص. [المحرر]. 


41 





صناعة الشعادة 


إن وظيفة التدخل لتغيير حسابات الأفراد ومشاعرهم السيكولوجية» بمكن 
توزيعها على أنماط مختلفة من المؤسسات والخبراء22. نصنف بعضها على أنها 
طبية أو إدارية. وبعضها الآخر على أنها تعليمية أو عقابية. لكن هذه الاصطلاحات. 
في الحقيقة, لا تتعدى كونها مزيدا من التجريدات والأخيلة. فكل ما يهم هو مدى 
الفاعلية التي يديرون بها مهمتهم التي هي تقديم العصي والجزر التي من شأنها 
تبديل الإحساس والنشاط البشريين إلى الأفضل. 


(لا) شفافية السعادة 

في العام 2013 استحدث مهرجان شلتنهام الأذلي عتدطوعء كنآ تسمقطمعخاعط0 
لهلالاوء8 في بريطانياء في مسعى إلى اقتناص القيمة المقدمة للحاضرينء شكلا 
مبتكرا من التقييم تستخدم من خلاله تقانة طورتها شركة كواليا هذلهد0 تقوم 
على زراعة كاميرات في كل أرجاء المكان لتعقب الابتسامات فوق وجوه الزائرين 
أثناء تجوالهم. تقوم بعدها حواسيب مبرمجة بتفسير تلك الابتسامات وتحويلها 
إلى أحد أشكال القيمة. كانت هذه نسخة ذات تقانة أكثر تطورا من تجربة أجريت 
في بلدة بورت فيليب «ناائط5 6:ههبأستالياء نفذ خلالها باحثون متمركزون في 
الشوارع تجربة على قياس السعادة سعوا فيها إلى تسجيل قدر الابتسام الذي 
يشهدونه على الوجوه من حولهم. وتمخضت عن قيمة عدد الابتسامات لكل 
ساعة من يوم إلى آخر. 

على رغم ذلك. لاتزال تقانة كواليا خرقاء؛ إذ إن قدرة الحاسب على التمييز 
بين الابتسامتين الصادقة والزائفة لا تشبه بأي حال قدرة الإنسان. على أن علم 
الابتسام يتقدم بسرعة كبيرة في اتجاهات شتىء سيكولوجيًا وفيسيولوجيًا. كما 
كشفت الممارسة البدنية للابتسام عن قدرتها على التعجيل بالشفاء من الرض !3, 
وكشفت تجربة رؤية وجوه تبتسم عن قدرتها على خفض العدوانية*©. وتُظهر 
التجارب أن الابتسامات «الحقيقية» تحقق استجابات سلوكية وانفعالية مغايرة 
للابتسامات «الاجتماعية»29. ظ 

تعد الابتسامة مؤشرا محتملا آخر إلى ما يجري تحت السطح ومؤثرا فيهء إلى 
جانب معدل النبض واستخدام النقود و«أقل فرق ملحوظ» بين وزنين. إضافة إلى 


42 





قياش الإحساس 

ما سبق يمكن أن نلحق قائمة طويلة من المقاييس التي طُوّرت في الفترة الأخيرة, 
بدءا من الساعات «الذكية» التي طورتها شركة أبل 6أومبة وغوغل عام00© لرصد 
الإجهاد النفسيء إلى استبانات القياس النفسي للوجدان المستعملة لتقييم الاكتئاب. 
تلك هي كل وسائل جعل الخبرة الذاتية ملموسة ومرئية, وبالتالي متماثلة. تهدف 
تلك الأدوات. كشأن تقانات السونار 5088 التي تستخدم في رسم خرائط لقاع 
المحجيط من مستوى سطح البحرء إلى التنقيب في أعماق مشاعرنا وتعريضها لضوء 
النهار ليراها الجميع. 

على رغم ذلكء ثمة قلق دائم من هذا المشروع. فأمام أمر مهم كالسعادة. ما من 
مقياس يفي بالأهمية الفلسفية للمسألة. جميعنا عموما راضون بقبول أن خارطة 
قاع المحيط ليست هي قاع المحيط ذاته. بل مجرد تمثيل له ميزات وعيوب. لكن 
بالنسبة إلى السعادة. هناك إحباطات دانما؛ فثمة إحساس كاسح بأن الابتسامات 
المحددة كميا؛ ومعدل النبض؛ والنقود؛ و«أقل فرق ملحوظ». يفوت أمرا مهما 
يتعلق بطبيعة التجربة الانفعالية. ربما تكشف حقا ابتسامة عن شيء ما بشأن المرء, 
لكن بالتأكيد ليس بوصفه تمثيلا علميا. 

لنتأمل مرة أخرى الأساس لعلم بنتام السياسي. «لقد وضعت الطبيعة البشر 
تحت سيطرة سيدين مهيمنينء الألم واللذة». كان بنتام يأمل بهذا الادعاء أن ينتزع 
الأمس المجردة غير العلمية من البرامج السياسية. لكن ترى بأي حال تُمكن حقا 
اعتبار زعمه بشأن «الطبيعة» أقل ميتافيزيقية؟ ومنذ متى كانت الطبيعة تقتضي 
بناء «سادة مسيطرين» على أجناس بعينها؟ يبدو ذلك مريبا مثل الماورائيات تماما. 
لا يهم قدر العلم المزعوم في تصويره للدافعية؛ إِذْ إنها في عموميتها الملحمية تدان 
بالتجريد ذاته الذي شجبه بنتام بالفلسفة. ولولا ذلك. ما كانت فكرة السعادة, 
باعتبارها الغاية القصوى للحكومة. لتقوى على الصمود. 

هنا تكمن المفارقة. إذا سلمنا للسعادة بوضعيتها الأخلاقية والفلسفية الكبرى 
بوصفها «سيدا مسيطرا». فربما نتفق على أنها - أي السعادة - هي الغاية من الحياة 
أخيرا. لكن حينئذ. كيف يمكن بأي حال قياس مثل هذا الكيان بشكل علمي؟ في 
حين لو أن السعادة راسخة المقام بالتجربة المادية والحسية للذة والألم. فُمن إذن 
يمكنه الزعم بأن مثل هذه المسألة الدنيوية لها أي أهمية جوهرية أو سياسية؟ 


43 





صناعة الشعادة 
ساعتئذء ستتحول إلى مجرد عملية عاطفية ملتبسة داخل أدمغتنا. وفي كثير من 
الأحيان يكون السبيل النفعي للخروج من هذه الإشكالية هو الهربٌ من المسألة 
برمتهاء كما يكتب الاقتصادي البريطاني ال مؤثر والمناصر لعلم النفس الإيجابي؛ اللورد 
ريتشارد لايارد0,ة39.آ1 4ط 1.0420 : «لو سئلنا لم السعادة مهمة. لن نأتي بأي 
سبب خارجي جديد؛ إِذْ من الجلي تماما أنها مهمة» 69 هل قياس السعادة حقا 
طريقة للفصل بالجدل الأخلاقي والفلسفي؟ أو أنها في الواقع طريقة لإسكات هذا 
الجدل؟ فحين يتولى التكنوقراطيون المسؤولية: يكون الأوان قد فات كثيرا على طرح 
أي أسئلة تتعلق بالدلالة الجوهرية أو الهدف الجمعي. 

لا يُشبه علم السعادة أي علم آخر؟؛ لأنه دائما ما يتعدى دراسة شيء واحد. 
فما يتشبث به هو شيء له مغزىء لكنه يسعى إليه من خلال أدوات ومقاييس 
ليست كافية لاقتناص هذا المغزى. لقد أصبحت مساعي فختر العجيبة للنفاذ إلى 
الحقائق العليا من خلال رفع الأثقال. مثالا على الطريقة التي تعمل بها الإدارة 
السيكولوجية اليوم. وتتشابك أجهزة المراقبة العصبية والفيسيولوجية والسلوكية مع 
ممارسات التأمل والوجودية الشعبية؛ حيث يجري التعامل مع العجز الفلسفي في 
علم السعادة من خلال استيراد أفكار من البوذية وأديان العصر الجديد. ففي مكان 
ما بين العلم الكمي والروحانية تقبع السعادة. 

يتمثل الأثر الثقافي لهذا الوضع في أن بعض المقايبس وال مؤشرات على السعادة 
تضطلع بتألق أخلاقي من تلقاء نفسها. وفي حين أن السعادة نفسها قد تظل غير 
مرئية. تكتسب ابتسامة أو تشخيص بصحة جيدة قيمة أيقونية. ويغدو العَرَض 
أو ا لمؤشر المادي بابا إلى كينونة داخلية ماء مضفيا عليها طابعا سحريا. ربما لم 
يكن بنتام. حين تساءل بفتور عما إذا كان معدل النبض أو النقود أفضل مقياسين 
للمنفعة. يتخيل الصناعات التي ستنمو مكرّسة لتأكيد مكانة مؤشرات بعينها في 
تمثيل مشاعرنا الداخلية وتوطيدها. ومن بين تلك المؤشراتء: ما من مؤشر اكتسب 
سلطة تفوق سلطة المالء وهو شيء يتجاوز المجرد والمادي بشكل لا مثيل له. 


44 





أله 

«النقود في حد ذاتها ليست الشيء 
الأهم في الحياة, لكنها المقياس المثالي 
لأي شيء نعتيرة مهما» 


من اللذة 


إن وحدة الحوادث والطوارئ مستشفى 
لندن الملكي لهغاموه8 «مقهمآ لهنره8 في 
شرق لندن قطعا ليست أكثر البيئات نفعا 
للصحة. لكنها تتحول كل ليلة سبت إلى مزيج 
من منطقة حربية وفيلم رعب من إنتاج 
شركة هامر :©تتددة]1!*). سكارى يتخبطون, 
أجسادهم ملأى بالرضوض والكسور من جراء 
مشاجرات الحانات. يتنافس طاقم المسعفين 
والشرطة من أجل الوصول إلى السائقين الثملين 
(د) قصمناء 2204 حصلا تعسصسيعة]: شركة إنتاج سينمالي أسست 
في لندن العام 1934. اشتهرت بإنتاج سلسلة من أفلام الرعب 
القوطية في الفترة من منتصف الخمسينيات وحتى السبعينيات. 
كما أنتجت أيضا أفلام خيال علمي وإثارة وفيلم نوار وكوميديا. من 


أشهر أفلامها سلسلة أفلام دراكولا؛ فرانكشتاين؛ المومياءء وغيرها 
من الأفلام. [المترجم]. 


45 





صناعة الشعادة 


المشتبه فيهم. والخوف أو الحزن على وجوه الزائرين من أفراد الأسر هو المشهد 
الأكثر إقلاقا بين كل ما يجري. 

هكذا كان المشهد حين وصلت أنا وزوجتي برفقة ابنتنا التي م تكن قد تجاوزت 
العام من عمرها؛ وهي لا تكف عن الصراخ. لم تكن لدينا فكرة إن كانت مريضة حقا 
أو لا؛ إذ هذه هي مشكلة الأطفال الرضع: فهم لن يخيروك بما يحسونه. كان السؤال 
الذي يطرحه الأطباء بشكل دائم على آباء الأطفال - «لكن هل تبدو بخير في قرارة 
نفسها؟» - طريقة أخرى لقول: «ثق بغريزتك». هذه اللرة. كانت قد استيقظت في 
توقيت غير عادي وطفقت تصرخ بطريقة م نسمعها من قبل قطء واقترن صراخها 
بطفح جلدي وارتفاع في درجة الحرارة. لم تكن تبدو بأي حال: «بخير في قرارة نفسها». 

وسط فوضى غرفة الانتظار المتوقعة في الثانية صباحاء لاحظت ثلاثة شبان بدا 
أنهم يدبرون شيئا على عجل. كانوا مجتمعين حول واحد منهم كان يدون تفاصيل في 
استمارة بالتشاور مع الشابين الآخرين اللذين أشارا إلى أجزاء مما كتبه. ونصحاه بما 
ينبغي كتابته. كان كل منهما يتحقق من موافقة شريكه قبل منح الكاتب مزيدا من 
التشجيع. كان الأخير يسجل ما يقولانه على عجل في حين بدا أنهما يتجادلان بشأن 
ما ينبغي أن يفعله تالياء وبين الحين والآخرء يرفعون أبصارهم للتحقق مما إذا كان 
ثمة من يراقبهم. كان ثمة قدر كبير من الإيماءات والإشارات كأنهم يحيكون مؤامرة 
ما. استمر ذلك نحو عشرين دقيقة أو أكثر في حين كانت ابنتناء التي أصابتها الآن 
نوبة ابتهاج مزعجة: تلهو بالنشرات الترويجيّة للخدمات الصحية الوطنية. 

بعد فترة برزت ممرضة ونادت اسم الشاب الذي كان يملأ الاستمارة. أدهشني 
هذا الأثر الذي ارتسم فوق وجهه؛ إذ تهدل كتفاه وتجهم وجهه ونهض على 
قدميه ببطء بالغ. في حين أضحى صديقاه فجأة مثالا للجزع والشفقة. تحرك 
ببطء صوب اللممرضة ممسكا بالاستمارة وقد أمال رأسه بحدة جانبا. كان يسند 
عنقه الذي تبين الآن أنه مصدر ألم هائل بالنسبة إليه. مشى متمهلا و- كما يبدو 
- بأل صوب الممرضة التي صحبته إلى مكان تلقي العلاج. بعد أن غاب تهلل 
صديقاه وعادا إلى نقاشهما السري. 

كان من الواضح أن الشاب يُعاني إصابة في العنق. أو على الأقل. تعرض لحادث 
ما سبب إصابة عنقه. مهما كان ما جرى, فقد أسفر عن إصابة الشبان الثلاثة 


46 





ثمن اللذة 


بحماس يفوق بعض'الشيء المألوف في الحوادث والطوارئ. من وجهة نظري كانت 
هذه حالة احتيال تّحاك ضد التأمين. فراودتني نوبة غضب على الفور لأن مضيعي 
الوقت هؤلاء يعوقونناء فضلا عن الاحتيال الواضح الذي يجري. ما من شك أن 
حادث سيارة قد وقع. فطرأت لواحد منهم على الفور فكرة أن الفرصة قد سنحت 
لهم لكسب بعض امال. كان السؤال الوحيد هو ما إذا كان الجزء المصاب سيجتاز 
الفحص الطبي الضروري من دون فضح الموقف برمته. 
ربما كان رد فعلي مجحفا تماماء وربما كنت محقا. الأطفال الرضع يشبهون شد 
العنق المفاجئ 1258م1ط'18: كلاهما لا سبيل للعرفة كنه ما به. يعد شد الرقبة 
المفاجئ ظاهرة طبية مثيرة للفضول لسببين: الأولء هو أن المصطلح نفسه يشير 
فنيا إلى حالة تمس المصابء وليس لظرف طبي. من ثم, إذا أصيب شخص ما بغتة 
بشد في عضلات العنقء كما يجري في الأغلب بتصادمات السيارة من الخلفء فإنه 
من المعقول أن نقول على الشخص إنه أصيب بشد العنق ال مفاجئ. السبب الثاني 
هو أن هذا الشد لا يمكن تبينه إلا من خلال امصاب بسبب غياب أي أعراض يمكن 
تشخيصهاء فالدليل على حدوثه (بخلاف رفرف سيارة مُحطم) لا يتعدى في الحقيقة 
إحساس امُصاب بآلام طويلة الأجل في عنقه وظهره. لكن كما في بعض الاضطرابات 
النفسية, ما من خلل مميز يُشكل أساأسا لهذا العرض. 
خضع شد العنق المفاجئ لدراسة الباحثين الطبيين منذ خمسينيات القرن 
الماضيء بحثا عن تفسير فسيولوجي له لكن من دون أن يحالفهم الحظ". في 
البدايةء دخل الفهرس الطبي التراكمي 5ناءذل846 1506 18)64ناحسيت (قاعدة 
بيانات النشرات الطبية الأمريكية) العام 1963: في مسعى من الخبراء إلى تقبل هذه 
المتلازمة المتقلبة. وخلال الستينيات أجرى العلماء الأمريكيون سلسلة من التجارب 
على قرود كانت عبارة عن محاكاة لحوادث تصادم سيارة قوية من الخلفء. على 
أمل التمكن من الاكتشاف بشكل دقيق كيف تؤذي هذه الحوادث نسيج العنق. 
الكثير جدا من تلك التجارب أصاب القرود بالشلل أو تلف الدماغ من دون إحراز 
أي تقدم في مسار حل لغز شد العنق المفاجئ الذي يصيب البشر. 
لكن المعروف جيدا بشأن شد العنق المفاجئ هو توزيعه غير المتساوي 
عاميا. فمعدلات تشخيصه ف العام الناطق بالإنجليزية تفوق بكثير أغلب الدول 


47 





صناعة الشعادة 
الأخرى. وهي تشهد زيادة مطردة منذ سبعينيات القرن الماضي. ونظرا إلى أن شد 
العنق ا مفاجئ ذاك يقترن بحوادث السيارات التي كان أمانها آخذا في الازدياد 
تدريجيا أثناء تلك الفترة. فإن هذه الزيادة في معدلات التشخيص لا شك في أنها 
تقترن بعوامل تتصل بمزاعم التأمين. ففي بريطانياء على سبيل اللثال؛ يُعد شد 
العنق المفاجئ مسؤولا عن 60 في المائة من الزيادة في مزاعم الإصابة الشخصية 
ا متعلقة بحوادث السيارات في الفترة بين العامين 2006 و2013, إلى الحد الذي 
صارت فيه تعويضات شد العنق المفاجئ تساوي 20 في المائة من تكلفة كل 
قسط تأميني على السيارة. 

هذه المتلازمة أقل انتشارا في الدول الأخرى» ومن ثم تستنزف مبالغ أقل بكثير 
من شركات التأمين. وفي حين برز شد العنق المفاجئ ب 78 في المائة من مزاعم 
الإصابة الشخصية داخل بريطانيا في العام 2012, لم تتجاوز النسبة في فرنسا على 
الجانب الآخر من القنال الإنجليزي 30 في اللائة©. كان عام الأعصاب النرويجي؛ 
هارالد شرادر :مم5 214د21, قد لاحظ في أوائل القرن الحادي والعشرين أن 
حوادث آلام العنق طويلة الأمد الناجمة عن حوادث السيارات في ليتوانيا منعدمة. 
لكنه بعد أن درس هذه الظاهرة ونشر ما توصل إليهء تعرض لغضب جماعة المرضى 
المعاقين نئيجة شد العنق المفاجئ الترويجية بطناتطه115 طمهاصنط8آ سفنوءبوصمقم 
نا0© 2960626 (التي تضم سبعين ألف عضو في دولة بها 4.2 مليون مواطن) 
الذين امتعضوا مما تصوروا أنه كان يُشير إليه ضمنا. 

إن حالة شد العنق المفاجئ الفلسفية العجيبة باعتبارها شكلا لألم غير مرئي 
إطلاقا تجعله مسؤولا بشكل استثنائي عن مزاعم التأمين المخاتلة؛ ما يشرح بداهة 
كيف تتباين معدلات تشخيص الإصابة به بشدة من دولة إلى أخرى: إذ في دول 
كبريطانيا والولايات المتحدة, حيث يُعد ظاهرة معروفة جدا, لا ريب في أن السائقين 
الذين تعرضوا لحادث تصادم خلفي سيكونون أكثر من ينتهز فرصة الحصول على 
الجائزة النقدية. كان الشبان الثلاثة في وحدة الحوادث والطوارئ بمستشفى لندن 
ا ملكي مثالا على ذلك؛ فقد أدركواء كما يبدو أن عليهم رسم تصورهم للأحداث 
على الفورء ثم الدفع بالضحية لتسجيل نوع الأ المناسب, على رغم أن تشخيص 
حالة «شد العنق المفاجئ» يتطلب استمرار الأنم بعض الوقت. وكان عدد المحامين 


48 





ثمن اللذة 

المختصين بالترافع في مثل تلك الدعاوى قد تزايد بشكل مثير منذ سبعينيات القرن 
العشرين. بل إنه في مستطاع المحامين بالولايات المتحدة حضور حلقات تدريب 
متخصصة ينظمها أطباء جشعون. عن كيفية بناء دعوى طبية يمكن كسبها. 

مع ذلكء السبب نفسه الذي يجعل هذه التلازمة جاذبة للمحتالين هو ما 
يجعل التعرف على قدر الخداع الذي يمارس بالفعل مستحيلا. تتفاوت تقديرات 
الخبراء لنسبة التزوير إلى حد كبير. بدءا من 0.1 في المائة إلى 60 في المائة. وهو مؤشر 
إلى كثافة الضباب الذي يكتنف هذه القضية”. وتكافح شركات التأمين من أجل 
التعرف على طريقة تتغلب بها على ذلك. بعضها قدم ما يُشبه «بيانات حقيقة» 
4ع طئنا1" قروسطية وألزمت ضحايا الحوادث ومحاميهم بتوقيعها 
للإقرار بإصابتهم بما يزعمونه. 

بالإضافة إلى هذا الإشكال هناك معضلة فلسفية وثقافية أخرى. كما سيقر بعض 
المنتقدين لصناعة شد العنق المفاجئء فإنه من الجائز تماما أن يكون السائقون 
في بريطانيا وأمريكاء على العموم. هم الأعظم معاناة حقا من آلام العنق طويلة 
المدى التي تعقب حوادث التصادم الخلفية مقارنة بنظرائهم في القارة الأوروبية. 
ذلك أن أي ضحية حادث تفطن لشد العنق المفاجئء وربما لقيمته النقدية» فإنها 
ستستشير طبيباء وتلبس دعامة عنقء؛ وتستريح, وتستجم ثم تطلب إجازة وتسلك 
سلوك الضحية عموما. إن النواحي السيكوسوماتية لآلام العنق والظهر تعني أن 
هذا الشخص قد يصادف بالفعل مشاكل بعيدة المدى. وفي هذه الأثناء من المرجح 
أن تشعر الضحية التي تلقي بالا للحادث؛ وتتفاوض مع السائق الآخر على مبلغ 
التعويضء وتشرع بإصلاح سيارتهاء بارتياح أكبر على المدى البعيد. هكذا يتداخل 
السلوك القابل للرصد والإحساس الذاق في نهاية المطاف. 

إن الرد الطبي ورد علم الأعصاب على مثل هذه المشكلة, والذي يلقى تشجيعا 
من صناعة التأمينء هو الاستمرار في البحث بشكل أقوى عن حقيقة أمْ العنق 
البدني. ذلك أن التلاعب سيزول بمجرد الكشف عن حقيقة الأمم. لكن حتى نصل إلى 
هذا الكشف. ستضطر بيانات الحقيقة وما شابهها إلى تأدية دور. يطرح ذلكء كما 
يناور بنتام» أن ضحايا الحوادث يحسون بقدر ما من الأم الذي في مستطاع الفاحص 
من حيث المبدأ تبينه علميا إذا توافر المنهج المناسبء وينبغي على الأرجح في مثل 


49 





صناعة الشعادة 
هذا المنهج التركيز على الجسم البشري بطريقة ما. إن مسلك بنتام المفضل فيما 
يتعلق بأداة القياس- باستخدام النقود بوصفها وسيلة - مُستبعد في هذه الحالة؛ 
على اعتبار أن الجري وراء امال يبدو بالتحديد مصدر المشكلة في المقام الأول. 
لكن ماذا لو أن شد العنق المفاجئ يشتبك بالضرورة مع السعي وراء التعويض 
النقدي؟ وماذا لو لم يكن هذا النوع من الاحتيال عنصرا بائسا؛ استثنائيا؛ قابلا 
للاستئصال من ثقافة التعويض لديناء بل ملمح لا مناص منه على الإطلاق للكيفية 
التي احتل بها الحساب النقدي مفاهيمنا عن العدالة والظلم؟ إن فكرة التكافؤ بين 
الأحاسيس التي يولدها النظام العصبي من جهة. والمال من جهة أخرىء تقبع في 
أعماق متلازمة شد العنق المفاجئء وينص هذا المبدأ على أن قدرا معينا من الشعور 
الذاتي تمكن موازنته بمبلغ مناسب من النقود. هذا المبدأ كما يعترف الجميع, 
قد يتعرض لإساءة استعمال واسعة داخل بعض المجتمعات أكثر من غيرها. لكن 
الحقيقة هي أن استحالة معرفة ما إذا كان يُساء استعماله, وبأي قدر. تكشف 
لنا شيئا مهما بخصوص سخف هذه الفرضية. ربما علينا أن نكتشف ما إذا كان في 
مستطاع امال تمثيل مشاعرنا على نحو محايد وأمين ورياضياقء بدلا من البحث 
باجتهاد أكبر عن حقيقة الأم البدني. 


سلطة الرياضيات : 

كان جوزيف بريستلي. الرجل الذي أدت أعماله إلى هتاف بنتام: «وجدتها!» في 
مقهى هاربر بذلك النهار العام 1766 ذا تأثير قوي في الطبقة الوسطى الناشئة في 
المجتمع الصناعي الإنجليزي. إذ ساعد العام 1774 في تأسيس أول كنيسة توحيدية 
صسلمة)نم في البلاد. والتي كانت لاتزال حركة دينية غير شرعية آنذاك. رفض 
الموحدون 10131455 الإيمان المسيحي الأورثوذوكسي بثالوث الأب والابن والروح 
القدس ونادوا برب واحد. كانت أنواع من التوحيدية قد تواجدت في أرجاء أوروبا 
منذ القرن السادس عشر على رغم أنها م تلق قبولا سياسيا في أي يوم من الأيام, 
فظل معتنقوها من الإنجليز في وضع الحركة السرية إلى أن أسس بريستلي كنيسته 
رسميا. وبطبائع الأمور. وبسبب ما تعرضوا له من قمع, أصبحوا متفائلين تنويريين 
ومدافعين شرسين عن حرية التعبير والجمعيات الدينية. ظ 


50 





ثمن اللذة 
كانوا أيضا متفائلين علميين شديدي الإيمان بقوة الميكانيكا والهندسة في تحقيق 
التقدم للبشرية. هذا التوافق بين الإيمان والآلة كان مريحا وشائعا بين رجال الصناعة؛ 
فتأسس عدد من معاهد الميكانيكا على يد التوحيديين في بداية القرن التاسع عشرء 
في سعي إلى الربط بين التقدم الهندسي والمصلحة العامة. كان يُنظر إلى الرياضيات 
على أنها ذات قيمة خاصة؛ فقد ساعدت على بناء ماكينات مفيدة وتسخير العالم 
المادي ا فيه خير البشر. لكنها كانت في حاجة إلى دفعة تتجاوز دراسة العالم 
الطبيعي أو الهندسة إلى العاللين الاجتماعي والسياسي. وليس من ال مستغرب قط 
أنهم رأوا في بنتام على الفور الروح الطيبة. 
ولد ويليام ستانلي جيفونر 67025[ تإعآصة)5 0:ةذ]1811 لعائلة موحدة في 
ضواحي ليفربول العام 1835. كان أبوه تاجر حديد ناجحاء فكانت الأسرة في 
بحبوحة من العيش. وقد هيمنت المبادئ التوحيدية على الأسرة, وألقت بظلالها 
على تعليم جيفونز الشاب الذي مثلت الأجهزة الميكانيكية والتفكير الهندسي فيه 
باستمرار ملمحين متكررين. كان يلهو في طفولته بميزان كأنه دمية من دون أن تفقد 
مثل هذه الأدوات جاذبيتها بالنسبة إليه طوال حياته المهنية اللاحقة". تعرف على 
علم الاقتصاد أول مرة وهو في التاسعة من عمره من خلال كتاب الأطفال «دروس 
سهلة في مسائل النقود» 1126625 بإعمه84 ده ؤوهمهووع.1 تإومد8 لؤلفه المطران 
ريتشارد ويتلي تع اعنهط1! لتقطءنه, وكانت أمه هي من تقرأه على مسامعه””. 
حين بلغ الحادية عشرة التحق بمعهد ليفربول للميكانيكا حيثٌ تعلم النظر إلى 
الرياضيات باعتباره علامة العلم «الحقيقي», بصرف النظر عن موضوع هذا العلم. 
في بداية خمسينيات القرن التاسع عشر سجل جيفونز لدراسة الكيمياء في 
جامعة بنتام الأم؛ كلية لندن الجامعية (1[)1) صملصمآ ععع11هن بطنومء متا 
ما منحه الفرصة لحضور محاضرات موحد شهير آخر هو جيمس مارتينيو 32265[ 
161 البنتامي الذي يُدرس حلقة دراسية عن «الفلسفة العقلية». أثناء تلك 
الفترة كانت أعراف علم نفس إنجليزي فارق تنشأ بالتوازي مع ما كان ينجزه 
فختر في لايبزيغ في التوقيت نفسه. إذ اكتسب استخدام الاستبطان في دراسة الحياة 
الداخلية للعقل احتراما خلال منتصف القرن التاسع عشرء لاسيما عقب صدور 
كتاب ألكساندر بين صنهد8 #علصهةءء41. ف العام 1855؛ الحواس والعقل 86]' 


51 





صناعة الشعادة 
أء6لاءغس1 عط؛ هسه 5ء5دع5. كان تأثير بنتام شديد الأهمية في هذه الأعراف. لكن 
بنتام التنظيري والفلسفي الذي وضع نظريات اللذة. لا بنتام التكنوقراطي» هو من 
أراد حقا تأسيس السياسة بناء على معدات فيزيائية. بالطبع كان جيفونز بخلفيته 
الموحدة والصناعية أكثر ميلا إلى الميكانيكا الهندسية. أما علم النفس فلا بأس به إلا 
في حال م يتيسر جعله رياضياتيا. 

كان من المفترض أن يظل جيفونز بكلية لندن الجامعية فترة أطول. لكن 
في العام 1853 مرت الأسرة بضائقة مالية اضطرت والده إلى إجباره على قبول 
وظيفة في سيدني بأستراليا فاحص ذهب. تقتضي هذه الوظيفة الاستعانة بأدوات 
ومقاييس ضبطت بدقة شديدة لاختبار جودة الذهب ووزنه. وهي تجربة مغرية 
لحساسية جيفونز الميكانيكية. ههنا تحد عملي استلزم تطبيق الرياضيات على 
العام المادي وشهد رجوع جيفونز إلى هواية طفولته؛ اللهو بالموازين. ليس هذا 
فقطء بل إن الشيء المعني سيصبح الموضوع الحاسم في تشكيل مسيرة جيفونز 
الفكرية فيما بعد: المال. إن من امثير التفكير في أنه في الوقت نفسه بالضبط الذي 
بدأ فيه فخنر تجاربه في رفع الأثقال لاجتلاء العلاقة بين الأشياء المادية واللشاعر 
النفسية» كان جيفونز على مسافة عشرة آلاف ميل يعمل على شكل آخر من 
أدوات رفع الأثقال لتحديد القيمة النقدية لمعدن ثمين. لو أمكن إدخال الكيانات 
الثلاثة؛ العقل والمادة والنقود. في علاقة رياضياتية ما تربط فيما بينها. لتعمقت 
نتائج استيعاب اقتصاد السوق. 

تابع جيفونز في أثناء وجوده في أستراليا قراءاته الموسعة في علم النفس. 
مستكشفا مؤلفات بنتام وكتابات سيكولوجي إنجليزي آخر هو ريتشارد جينينغز 
ووصنصمع[ 4عقطءنه الذي م يكشف إلا عن اهتمام أقل نسبيا بعلم الاقتصاد 
الذي كان خاضعا آنذاك لسطوة شخصية جون ستيوارت ميل ؛نهنؤ5 ضطه[ 
2*1 وبقي داخل تقاليد الاقتصاد السيامي الكلاسيكي الذي استهله آدم سميث 
ط)نصدة تسمل في سبعينيات القرن الثامن عشر. لم يشغل العاملون بالاقتصاد 
السياسي الكلاسيي أنفسهم إلا بالقضايا المادية والسياسية عظيمة الشأن المتعلقة 





(*) فيلسوف واقتصادي بريطاني. وأحد رواد الفلسفة الليبرالية. [المترجم]. 


52 





ثمن اللذة 

بطريقة زيادة القدرة الإنتاجية للدول من خلال التجارة الحرة وتقسيم العمل 
والسياسة الزراعية والنمو السكاني. نادوا بحرية الأسواق. لكن هذه الدعوة كانت 
أساسا بسبب أن حرية الأسواق كان يُنظر إليها باعتبارها طريقة لزيادة الإنتاج. 
ورأوا أنه مادامت الغاية هي الثروة فإن المصادر التي تحتاج إلى الدراسة هي 
مصادر مادية: قوة العمل؛ الطعام؛ الاستثمارات العقارية؛ الأرض. لمم يكن لدى 
الاقتصاديين الكلاسيكيين أي اهتمام ملحوظ بالقضايا السيكولوجية سواء كانت 
المشاعر أو السعادة. وبقدر ما كان الأمر يتعلق بهمء فإن مشاكل الاقتصاد كانت 
تنحصر في دراسة أفضل الطرق لاستغلال الطبيعة. 

لكن أثناء وجود جيفونز في أسترالياء برزت إشارات إلى أن الفرضيات الأساسية 
للاقتصاد السياسي على وشك التغيّر. كان جينينغز عام نفس لكن كتابه الصادر في 
العام 1855 بعنوان «العناصر الطبيعية للاقتصاد السيامي» 04 6245تدة81 21ناغةل! 
إدمدمء8 [هءناه2 اقترح مسألة أن الاقتصاديين م يعد في مستطاعهم تجاهل 
علم النفس بعد الآن. ولأن العمل كان جوهر وجهة النظر الاقتصادية الكلاسيكية 
للرأسمالية» فلا ريب في أن لذلك صلة وثيقة بمعاناة العمال لمستويات متباينة من 
الألم أثناء اليوم؛ مما يؤثر بالتبعية في قدرتهم على الإنتاج. 

غالبا ما يُقال إنه في سيرورات العمل المملة أو الرتيبة: «الساعة الأخيرة هي 
الأطول». وقد كتب جينينغز تعليقا مشابهاء لكنه يتعلق بشكل محدد بالإجهاد 
البدني: «كلما طال وقت العمل بمهمة معينة, ازدادت صعوبتها». كانت ملاحظة 
فخنر أن الأوزان تبدو أثقل كلما طالت فترة حملهاء تتناول المسألة نفسها. مثل 
هذه الاستبصارات كانت تعير عن اهتمام ناشئ بين رجال الصناعة آنذاك بمسألة 
أن العمال كانوا يعانون الإعياءء وأن مصدر البورجوازية الرئيس للثروة, أي العمال. 
يُستنزف تدريجيا. قاد هذا القلق في أثناء القرن التاسع عشر الطويل إلى انطلاقة 
في التجارب الغريبة على الإعياء والحلول المريحة الممكنة9. وهكذاء من خلال 
تجربة العمل الذاتية باعتبارها تمرينا يزداد فيه التأمْ بالتدريج: أصبحت الرأسمالية 
مهمومة لأول مرة بطريقة تفكيرنا وشعورنا. 

انجرف جيفونز إلى قراءة الاقتصاد بفضل كتاب جينينغز الرائد. وفي العام 
6 انجرف أيضا إلى نزاع بشأن تمويل سكك حديد في نيوساوث ويلز 2060 


53 





صناعة الشعادة 

69 50115 فنما اهتمامه أكثر بالنظرية الاقتصادية”. من وجهة نظر جيفونز 
التوحيدية فإن الاقتصاد م يكن يتعاطى باعتباره علما على نحو دقيق كما أسسه 
آدم سميث؛ إِذ كان يفتقر إلى الصرامة الآلية والرياضياتية. لكن من خلال البدء 
من فرضية مغايرة, كما اقترح جينينغز من قبل لعله يصير. على أي حال. مجالا 
قابلا لاستيعاب المنطق العلمي بحق. إذا أمكن فهم الاقتصاد باعتباره مشكلة 
رياضياتية يمكن حلها من خلال الوصول إلى توازن شبه آليء آنئذ سيتأسس علم 
الاقتصاد وفق دعائم علمية خالصة. كان جيفونز قد كتب إلى شقيقته في العام 
8 يخبرها بأنه أصبح عازما الآن على التركيز على دراسة المجتمع رياضياتيا. 
وفي العام 1859 عاد إلى بريطانيا ليلتحق من جديد بكلية لندن الجامعية من 
أجل دراسة علم الاقتصاد. 


الأسواق بوصفها موازين 

النقود شيء فريد قد يسبب دمارا سيكولوجيا. بل قد يسببء, كما في بعض 
المواقف السيكوسوماتية مثل شد العنق المفاجئء دمارا فيسيولوجيا. إن الحقيقة 
الجوهرية بشأن المال هي ضرورة أن يضطلع بوظيفتين متعارضتين في آن واحد: أن 
يعمل مخزنا للقيمة ووسيطا للمقايضة. يتحول المال حين يعمل مخزنا للقيمة إلى 
شيء نتعلق به ونرغب في ملازمته من خلال وضعه غالبا في حساب مصرفي. وهو 
يفتح آفاقا غير محدودة للحصول على أشياء أخرى مرغوب فيها وأكثر فائدة بكثير 
حين يعمل وسيطا للمقايضة. هذا التناقض جلي في التصميم المادي للنقود نفسهاء 
الذي ينبغي أن يمزج بين مستوى عال من الإغراء الرمزي (في شارته ولمعانه) وحد 
أدنى من الفائدة المادية الحقيقية. 

تمثل معدلات الفائدة 1865 )1066565 الوسيلة الرئيسة التي تسعى المجتمعات 
الرأسمالية من خلالها إلى إحداث التوازن بين هاتين الوظيفتين للنقود. فحين ترتفع 
معدلات الفائدة تتزايد وفقا لذلك رغبتنا في الاحتفاظ بالنقود. لكنها حين تنخفض 
فإن ما يتزايد هو رغبتنا في الإنفاق. أحياناء نتأرجح بين رؤية النقود باعتبارها كل 
شيء. والنظر إليها كأنها لا ثيء. وقد لاحظ المحلل النفسي داريان ليدر سونمة© 
0 كيف أن النقود كثيرا ما تؤدي دورا جوهريا غالبا في سلوك المصابين 


54 





تمن اللذة 


بالاضطراب ذي الاتئجاهين!*2*. يرى المصابون بهذا الاضطراب. حين يراودهم 
إحساس هوسي بالسعادة: النقود في حالتها السائلة الخالصة باعتبارها إمكانية غير 
محدودة لا تحمل قيمة جوهرية في ذاتها. فيتخلون عنها وينفقونها بتهور معربدين 
بالحرية التي تمنحهم إياها. لكن حين يصيبهم الاكتئاب فيما بعد, تثقلهم من جديد 
الأهمية الواسعة للنقود» وبدرجة أكبر بسبب الديون والتكاليف التي تراكمت 
عليهم خلال نوبات الهوس. 

بالتالي فإن واحدة من طرق استيعاب تاريخ علم الاقتصاد الليبرالي» بدءا 
من سميث وحتى الآنء تشبه محاولة متجددة للتعامل مع طابع النقود ثنائي 
القطب. فكما نعي جميعا عبر غرائزناء تعد الأسواق أماكن ثقايض فيها البضائع 
والخدمات مقابل النقود بأشكالها. لكن ما يغيب عن بالنا هو مدى غرابة مثل 
هذه المقايضة في الحقيقة. 

ترى كيف نفترض أن ورقة نقدية من فئة عشرة جنيهات إسترلينية تساوي, لنقل, 
فطيرة بيتزا؟ في تحدث هذه البادلة, ينبغي على دوري النقود المزدوجينء بوصفها 
وسيطا للمقايضة (أرغب في التخلص منه) ومخزنا للقيمة (يرغب بائع البيتزا في قبولها). 
العمل معا في آن واحد. تُرى كيف يكون في مستطاع جزء من نظام عددي خالص أن 
يغدو مكافثا لوجبة مُعَدّةَ من الجبن والعجين من دون أن يشعر أي من الطرفين 
بالغبن؟ لأنه لولا ذلك. لأصبح نظام السوق بأكمله مستحيلاء ولصار من الضروري أن 
ينتج كل منا.ما يأكله ويلبسه ويسكن فيه. موطن الخطورة الدائمة هو أن الناس إما 
يعطون للنقود قيمة مبالغا فيها (ثنائية الاكتناز وانكماش الأسعار) أو يبخسون قيمتها 
(ثنائية المقايضة وفرط التضخم). يتمثل الحل الذي يطرحه الاقتصاديون في اختراع 
كيان غامض يكمن داخل البيتزا اصطلحوا على تسميته ب «القيمة». 

إننا في الأغلب» نستخدم كلمة «قيمة» قاصدين السعرء. كحين يقول شخص: 
«هذه اللوحة قيمتها ألف جنيه إسترليني». لكن من الواضح تماما من الاستعمالات 
(*) الاضطراب ذو الاتجاهين أو ثنائي القطب 1150:06:56 مهادمف8: نوع من الاضطرابات النفسية التي توصف 
بذات الاتجاهين بسبب وجود حالتين متناقضتين في ا لمريض نفسه, حيث يمكن أن يُصاب بنوبات اكتثئاب تنخفض 
فيها الحالة المزاجية والنشاط والتفكير. أو نوبات أخرى من الانشراح وزيادة النشاط وسرعة الأفكار ينتمي النوع 


الأول إلى اضطرابات المزاج 11505055 4ه840, ويحدث فيه الاكتئاب بصورة متكررة, أما النوع الثاني فيتكرر فيه . 
كل من الاكتئاب والهوس. [المترجم]. 








55 





صناعة الشعادة 
الأخرى لمصطلح القيمة أنها لا تعني السعر على الإطلاق. حين أصف البيتزا بأنها «غير 
ذات قيمة بالنسبة إلى النقود» أكون بذلك قد ألمحت إلى أنه ما كان ينبغي مبادلتها 
بمبلغ العشرة جنيهات. في الحقيقة, كل من قيمة البيتزا وسعرها ليس مكافئا للآخرء 
والمستهلك كان يتعرض للنهب. تسمح لنا فكرة القيمة أن نرى الأسواق باعتبارها 
موازين لا بد أن تكون حصيلتها عادلة من حيث المبدأ. ومن خلال اقتراح أن القيمة 
كمية مثل النقود. يصبح في مستطاع الاقتصاديين البرهنة على أن جانبي عملية 
التبادلء متكافئان جوهريا. فوفق زعمهمء. حين يعمل سوق البيتزا بشكل صحيح؛ 
فإن عشرة جنيهات يمكنها شراء قدر مكافئ من القيمة. في الواقع, يمكن تمثيل طرفي 
ا لمعادلة: مقايضة كمية (النقود) بسلعة (بيتزا)ء في صورة عددية. ويصبح السوق 
متصورا باعتباره مجموعة من الموازين التي تكيل القيمة مقابل النقود إلى أن يصلا 
معا إلى التوازن المثالي. ما تقوله فكرة القيمة حقا هو الآتي: إن النقود في حد ذاتها 
ليست الشيء الأهم في الحياة, لكنها امقياس امثالي لأي شيء نعتبره مهما. 

بالتالي» ما القيمة؟ وكيف يمكن تصور هذه الكمية واسعة الانتشار؟ يقول علماء 
الاقتصاد السياسي الكلاسيكي إن قيمة السلعة أو الخدمة تشتق من الوقت الذي يُنفق 
في إنتاجها. في هذه الحالة, تكمن القيمة الحقيقية للبيتزا في مقدار الوقت الذي يُنفق في 
إنتاج مكوناتها المختلفة إلى جانب طبخها. وعلى هذا المبدأء فإنه لو كانت الأسواق عادلة 
فإن سعر البيتزا سيكون مكافئا لقدر وقت العمل بطريقة ما. لقد هيمنت نظرية قيمة 
العمل هذه على علم الاقتصاد لما يقارب القرن. وبحلول العام 1848 صار جون ستيوارت 
ميل واثقا بمما يكفي كي يكتب أن: «من دواعي السرور أنه لم يبق لدى كتّاب الحاضر أو 
المستقبل ما يوضحونه بشأن قوانين القيمة؛ فقد اكتملت النظرية الخاصة بها»”. بيد 
أن تلك النسخة من النظرية بصفة خاصة م ثُثر اهتمام جيفونز قط. 

كتب جيفونز المادة التالية في يومياته في 19 فبراير 1860: 

طوال اليوم في المنزل» يشغلني التفكير في الاقتصاد. متوصّلا - وفق 
ما يتراءى لي - إلى فهم حقيقي للقيمة التي كنت أتخبط في فهمها كثيرا 
في الآونة الأخيرة9". 

لن يَظهَرَ الكتاب الذي تكلم فيه جيفونز عن «فهم حقيقي للقيمة»: «نظرية 

الاقتصاد السياسي» تإددمدمء8 1هء1غنآ20 6ه ومعط1' ع15. إلا بعد عقد آخر من 


56 





ثمن اللذة 
الزمن. وقتذاك. تخبط اقتصاديان أوروبيان؛ هما ليون والراس 1881285 1.605 من 
فرنسا وكارل مينغر :246286 03151) من النمساء في طريقهما لاكتشاف مشابه. لقد 
أطلق أولئك الاقتصاديون الثلاثة ثورة في علم الاقتصاد أسفرت في النهاية عن الفرع 
المعرفي الأكثر تحديدا ورياضياتية الذي نعرفه اليوم باعتباره علم الاقتصاد. 


اللذات بوصفها سلعا 
تساءل عدد من المنظرين الإنجليز؛ ومن بينهم بنتام. عما إذا كانت ذهنية 
المستهلكين هي في الواقع العامل الحاسمُ في تحديد سعر الأشياء. بل إن هذه الفكرة 
ظهرت في كتاب المطران ويتلي الموجه للأطفال عن علم الاقتصاد. والذي كان يُقرأ 
على مسامع جيفونز في طفولته. لكنها كانت تقتضي جهود جيفونز ووالراس ومينغر 
لإرساء هذا المفهوم بوصفه أساسا جديدا لعلم الاقتصاد. ظلت مسألة القيمة 
جوهرية؛ وإلا ثرى كيف يمكن تمثيل السوق باعتباره مكانا لتبادل عادل؟ كان 
تجديدهم يتمثل في طرح تصور للقيمة من وجهة نظر الشخص الذي ينفق النقود, 
لا منتج السلع. قد تغدو القيمة مسألة منظور شخصي. 
إن ما بميز جيفونز هو تصميمه على بناء نظرية كهذه بشكل مباشر على 
سيكولوجيا اللذة والأم. وقد وصف مشروعه بلغة بنتامية شديدة الوضوح: 
أنْ نشبع حاجاتنا إلى أقصى حد وبأقل جهد - أن نحصل على أعظم 
قدر مما نشتهي بأقل تكلفة مما لا نشتهي - بكلمات أخرى. أنْ نعظم 
لذتناء هي مشككلة علم الاقتصاد”'". ْ 
كانت النقطة الطاردة في الرأسمالية تتعرض للإزاحة. فمنذ آدم سميث وصولا 
إلى كارل ماركسء كان يُنظر إلى المصنع والعامل على أنهما مؤشران يحددان سعر 
ما يُباع داخل السوق. لكن منذ العام 1870 فصاعداء تغير كل هذا. صارت 
«الحاجات» الداخلية للمستهلك الآن هي محل انبعاث التساؤلات المتعلقة 
بالقيمة. من هذا ال منظورء أصبح العمل لا يعدو أن يكون شكلا من «المنفعة 
السلبية»؛ نقيض السعادة. نتجشمه كي نجني مزيدا من النقود في ننفقها على 
تجارب ممتعة2". كان الإحساس الذاتي وتفاعله مع الأسواق يرفع للنزلة القضية 
المركزية لعلم الاقتصاد. 


57 





صناعة الشعادة 


تماشيا مع جذوره الموحدة» لم يكن جيفونز مستعدا للانخراط بعلم الاقتصاد إلا إذا 
تمكن من العثور على طريقة رياضياتية يمارس بها هذا العلم. كان يقول: «من الواضح 
أن علم الاقتصاد, لو قَدّر له أن يكون علما من الأساس, فلا بد أن يكون علما قائما 
على الرياضيات. لا بد أن يكون علما رياضياتيا؛ لأنه ببساطة يتعامل مع الكميات». 
لم يكن واضحا ما إذا كان جيفونز نفسه ماهرا في الرياضيات تحديداء غير أن انحيازه 
مثل هذا التحليل لم يتزحزح. في مستطاع علم الاقتصاد أن يقوم على علم اللذة والأم, 
لكن بشرط أن تذعن تلك الكيانات النفسية هي الأخرى لقوانين رياضياتية مُعينة. فكي 
تنجح رؤية كهذه للاقتصاد. لا بد أن يُعامل العقل نفسه باعتباره آلة حاسبة. 

عبر جيفونز في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه «نظرية الاقتصاد السيامي» عن 
ندمه بسبب احتفاظه بمصطلح «الاقتصاد السياسي» تمهممءظ [ه616 2011 في عنوان 
الكتاب بدلا من «علم الاقتصاد» 5ع01:ه0همع5. الفرق لافت. كان يرى بوضوح أن 
كتابه يعد بداية جديدة لفرع معرفي أكثر صرامة مما في مستطاع المشتغلين في حقل 
الاقتصاد السياسي تحقيقها؛ إِذْ م تكد ترسى الدعائم الرياضياتية الصحيحة حتى 
ترتكز دراسة الاقتصاد إلى أسس موضوعية جديدة. : 

بالنسبة إلى جيفونزء كان كل شيء مسألة توازن مُقيسة من ناحية الكم. وقد 
جعله افتتانه بخصائص العقل الشبيهة بخصائص الآلة رائدا لنوع من التفكير 
السبراني عناع ممع نو !*, الذي سيتمخض لاحقا عن علم الحواسيب. بل لقد أوكل 
إلى صانع ساعات في مدينة سالفورد 510:4 أن يصنع له آلة حاسبة بسيطة من 
الخشبء أو ما اصطلح على تسميتها بالمعداد المنطقي 5داعوطى [162ج1.0. بوصفه 
نموذجا آليا للفكر العقلاني 3" كان العقل يشبه الميزان الدمية الذي كان جيفونز 
يلهو به في طفولته, أو جهاز معايرة الذهب الذي كان يستخدمه في سيدني. 

حين أقرر ما إذا كنت سأتناول البيتزا أم لاء أوازن بين اللذات من جانب والآلام 
من جانب آخر. كم من المتعة ستهبني, مقابل ما ستصيبني به من أم؟ سيفرض 
صاحب النصيب الأكبر نفسه على قراري. وكما اقترح بنتامء فعقولنا تعمل مثل آلات 
حاسبة رياضياتية» تقايض الميزات بالعيوب من دون توقف9", 


سا ل ا 
(*) السيبرنيطيقا وعناعصمعطرح أو السبرانية: هي علم التحكم والاتصال. وهو علم حديث نسبيا يُعنى بربط 
الحواسيب مع الأنظمة الأوتوماتيكية في شبكات تنسق عمل كل الآلات والمعدات العاملة في مكان ما. [المترجم]. 


56 





ثمن اللذة 


كان إسهام جيفونز الأبرز هو ترسيخ رؤية الساعي الحريص على المتعة هذه 
داخل عام التجارة. وسعى بنتام بشكل أساس إلى إصلاح سياسة الحكومة والمؤسسات 
العقابية التي تتصرف عموما في العلن. لكن جيفونز حول مذهب المنفعة إلى نظرية 
تختص بالخيار ا منطقي للمستهلك. بحيث يغدو في مستطاع آليات العقل حيث 
تستقر القيمة. وآليات السوق التي تولد الأسعار, أن تتناغما معاء كما ألمح إلى أنه: 

مثلما نقيس الجاذبية من خلال تأثيرها في حركة بندول, يمكننا أن 
نقدر تساوي المشاعر أو اختلافها من خلال قرارات العقل البشري. الإرادة 
هي البندول, وذبذباته تسجل بدقة في قوائم الأسعار في الأسواق9". 

كان السوق عبارة عن بيان سيكولوجي واسع يكتشف رغبات المجتمع ويمثلها. 

منحت هذه النظرة للنقود منزلة سيكولوجية فريدة باعتبارها تسمح للآخرين 
بإنعام النظر في رغبات الناس الخاصة. كان بنتام قد تساءل من دون حماس عما 
إذا كانت النقود تستطيع العمل باعتبارها ممثلا يبمكن من خلاله قياس اللذة, 
لكنه م يستكمل قط هذا الطرح ليتحول إلى نظرية في علم الاقتصاد. أما جيفونز 
فقد حول السوق بفاعلية إلى آلة رحبة لقراءة العقل, تعمل فيها الأسعار - أي 
النقود - أداة تجعل من هذه القراءة أمرا ميسورا. هكذا كانت الحالء النقود 
ليست أداة عاديةء وعلم الاقتصاد ليس بالعلم العادي. صار النموذج الأمثل 
لإخراج عام الانفعالات والرغبات غير المرئية إلى حيز الرؤية مرتبطا الآن على نحو 
وثيق بالنموذج الأمثل للسوق الحرة. ' 

لقد درس الاقتصاديون الكلاسيكيون الرأسمالية من ناحية الجهد والعرق 
والمردود المادي الناتج. أما جيفونز فقد عرضها بوصفها مجرد لعبة هواجس 
ومخاوف,. وقدمها بشكل رياضياتي. كان هذا في جزء منه أثرا لسياق تاريخي؛ فبين 
طفولته في مدينة ليفربول الصناعية وكهولته التي قضاها وهو يعيش حياة علمية 
هانئة في هامبستيد 11250554630 شمال لندنء كانت النظم الاقتصادية الصناعية 
تظهر بعض التغييرات العميقة التي تجلت داخل المدن على وجه الخصوص. 

افتح أول مركز تسوق في العالم بباريس في العام 1852 مُتيحا تجربة التسوق 
التي نعرفها الآن. مم يسبق للمنتجات قط أنها عُرضت مفصولة على نحو سحري 
عن منتجيهاء وغير حاملة لشيء سوى بطاقة سعر تعرض ألم الحصول عليها"". كان 


59 





صناعة الشعادة 


وجود شبكات السكك الحديد التي تغطي البلاد يعني أن البضائع تنتقل الآن على 
مدى أبعد وبسرعة أكبر مما يستطيع أغلب الناس. لم تكن أوراق النقد الرسمية أو 
الأسعار الثابتة نسبيا أمرا شائعا خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشرء في وقت كان فيه 
كثير من المتاجر لايزال يحتفظ بدفاتر مدونة فيها بيانات حول من يدين بكم وللمن, 
والسعر المتفق عليه. وبحلول الثمانينيات من القرن نفسه. كانت ثقافة التجزئة 
القائمة على تداول واسع النطاق للنقود الورقية» بل بعض العلامات التجارية سهلة 
التميبزء قد ترسخت. وفي غياب مثل هذه الثقافة, كانت نظرية اقتصادية قائمة على 
فرضية سعي الفرد إلى المتعة تبدو طوباوية مخبولة. 
باختصار, يمكن النظر الآن إلى الرأسمالية باعتبارها حلبة للخبرات السيكولوجية 
التي تضطلع فيها الأمور المادية بمجرد دور الداعم لإنتاج الأحاسيس التي يمكن 
الحصول عليها من خلال النقود. كانت السلعة بالنسبة إلى جيفونز ببساطة أي شيء 
«يقدم اللذة. أو يدرأ الألم»”". وقد عبّر ألفريد مارشال لأقطوهة1ة 41664؛ أحد 
الاقتصاديين الإنجليز العمالقة الذين تلوا جيفونز مباشرة. عن هذا بذكاء: 
يعجز الإنسان عن اختلاق أشياء مادية. في العام العقلي والأخلاقي 
قد ينتج أفكارا جديدة, لكن حين يُقال إنه يُنتج أشياء مادية, فإنه لأ يُنتج 
حقا سوى الخدمات؛ أو بعبارة أخرى. تُسفر جهوده وتضحياته الناتجة 
عن تغيير شكل امادة أو ترتيبها لتكون أكثر ملاءمة لإشباع الاحتياجات09, 
خلال ثمانينيات القرن العشرينء أصبح إعلان أن الرأسمالية صارت فجأة 
قائمة على المعرفة والأصول المعنوية والرأسمال الفكري أمرا عصريا عقب احتضار 
الصناعات الثقيلة في الغرب. في الحقيقة, أعيد تصور الاقتصاد بوصفه ظاهرة عقلية 
قبل ذلك بنحو قرن كامل. وأضحت الرأسمالية مدفوعة برغبة المستهلك. يوجهها 
الناطق الأكثر غواية باسم مشاعرنا الداخلية الصامتة؛ المال. 


إعادة النظر في مسألة القياس 

كتب جيفونز في كتابه, نظرية الاقتصاد السيامي”": «أخشى القول إن البشر لن 
يتوفروا على وسائل لقياس مشاعر القلب البشري سريعا». لا بد أن اعترافا كهذا كان 
أمرا بالغ الصعوبة بالنسبة إليه؛ ففي النهاية, كانت لجيفونز بعض المزاعم القوية 


60 





ثمن اللذة 

عن كيفية اتخاذ البشر القرارات بالضبط. ومثل بنتامء تطلع إلى العلوم الطبيعية 
على أمل أن تزود نظريته عن الخيار الفردي يوما ما بالأساس الإمبريقي. كان يقول: 
. «قد يأتي اليوم الذي نصف فيه بدقة آلية عمل الدماغ الناعمة, وتختصر فيه كل 
فكرة إلى مستهلكات قدر مُعين من النيتروجين والفوسفور», بل إنه أجرى بعض 
التجارب الخاصة شديدة الشبه بتجارب فخنر التي رفع فيها أثقالا لدراسة وقع 
الأشياء على أحاسيسه. 

بالنسبة إلى عدد من الباحثين الإنجليز الذين عملوا في الفترة بين العامين 1850 
و1890 لم يكن تحدي القياس النفسي لينتهي من دون كفاح. لذلك انكبوا على بنتام 
وداروين بحثا عن نظرية للسلوك الإنساني قد تثبت صحة انحيازاتهم السياسية 
الأرستقراطية في كثير من الأحيانء والتي غالبا ما تُرجمت إلى إيمان بعلم تحسين 
النسل. واحد منهم هو جيمس سولي :511 #5تصول, الذي درس برفقة الفيزيائي 
الأماني العظيم هيرمان فون هيلمهولتز 012 طتصاء11 ده مسددمع11 في برلين» قبل 
أن يعود إلى إنجلترا محملا بالمناهج السيكوفيزيائية الجديدة التي كان فخنر رائدها. 
وصار باحث آخر هو فرانسيس إدجورث 5غرمممعع80 وأعصوء8؛, جارا وصديقا 
مقربا من جيفونز الذي قدمه للاقتصاديين20, 

دفع إدجورث بمسألة القياس النفسي خطوات أكبر متأسيا بجيفونز2©, 
كانت لديه آمال كبيرة لعلم المشاعرء وقد كتب أننا: «نحتاج إلى تخيل أداة 
شديدة امثالية؛ آلة سيكوفيزيائية» تسجل من دون توقف ارتفاع اللذة التي 
يشعر بها فرد ما». مثل هذه الآلة قد تسمى «عداد المتعة» +#6)6منده1160, 
ويواصل: «يتغير عداد المتعة من لحظة إلى أخرى: يومض الآن ال مؤشر الحساس 
بتأثير رجفة الهوى؛ مستقر الآن بسبب النشاط الفكري؛ غارق تماما ساعات 
بأكملها إلى جوار الصفر؛ أو يثب فجأة في اتجاه اللانهاية». بالطبع؛ كان هذا في 
العام 1881 مُجرد خيال علمي. قد يدعي البعض أن الوضع لم يعد كذلك في 
القرن الحادي والعشرين: وأننا نقترب من الحد الذي يمكن فيه تحديد مشاعر 
المستهلكين الداخلية (على سبيل المثالء مدعو شد العنق المفاجئ) بشكل علمي. 
لكن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو السبب وراء استحواذ مثل هذه الفانتازيا 
العلمية على خيالاتنا الاقتصادية كل هذه الفترة. 


63 





صناعة السعادة 


كان السؤال الذي عجز جيفونز عن الإجابة عنه هو: في حالة عمل الأسواق 
بشكل فعالء لم يُعَذُ علم يختص بدراسة اللذة والألم كهذا ضروريا. إذا كان في 
مستطاعنا افتراض أن الأفراد يسعون وراء مصالحهم بوجه عام, وأنهم يعرفون كيفية 
ذلكء لم لا ندع السوق يتعامل معهم بمفرده؟ لم نشغل أنفسنا بكمية النيتروجين 
والفوسفور التي تزبد داخل أدمغتهم: أو نبني عدادات للمتعة لعرض لذاتهم؟ 
بالنسبة إلى بنتام. بوصفه مفكرا يهتم بالسياسة العامة كان سبب الحاجة إلى 
مثل تلك الأجهزة واضحا تماما. ذلك أن الحكومات كانت في حاجة إلى علم يبلغهم 
بطريقة الاستخدام الأمثل لقوتهم ونقودهم. لكن ألم تكن الميزة الكبرى في نظام 
سعر السوق أنه قد يضطلع بدور علم كهذا من تلقاء نفسه؟ فلا ريب في أن النقود 
هي مقياس القيمة: لا السيكولوجيا. هل كان الاقتصاديون حقا في حاجة إلى معرفة 
ما كان يجري داخل رؤوس البشر؟ 

بالنسبة إلى الاقتصاديين الذين جاءوا عقب جيفونز مباشرة. كانت الإجابة هي 
الرفض القاطع. وبدأ هؤلاء الاقتصاديون بعد وفاته في العام 1888 بالنأي بأنفسهم 
بعيدا عن نظرياته أو مناهجه السيكولوجية”*. وحلت نظرية في الأفضليات محل 
نظرية جيفونز التي تنص على أن كل لذة أو ألم له كميته المميزة. ووفقا لا رأى 
اقتصاديون من أمثال مارشال وفيلفريدو باريتو 0غ22:6 77116600, فإن الاقتصاديين 
ليسوا في حاجة إلى معرفة قدر ما تمنحه لي قطعة البيتزا من لذة. بل ما إذا كنت 
سأفضل تناول البيتزا أو السلطة. فالتفضيلات هي ما تحدد الطريقة التي أنفق بها 
نقوديء لا أحاسيسي الذاتية الحقيقية. 

كلما مضى الوقت اكتشف الاقتصاديون تدريجيا أن ما في مستطاعهم معرفته 
بشأن ما يجري داخل عقول المستهلكين أقل مما كانوا يظنونء إلى حد أنه صار 
من الكافي أن يراقبوا استخدامهم للنقود فقط ويفترضوا الباقي. بحلول ثلاثينيات 
القرن العشرينء أصبح الطلاق بين علم الاقتصاد والسيكولوجيا بائنا. ربما كان 
جيفونز لتصيبه البهجة حين يرى ما بلغه العلم من تطبيق الرياضيات. لكن 
ربما كان ليشعر بخيبة أمل أيضا حين يكتشف أن أسس مثل هذا العلم لا تدين 
بشيء إلى نظرياته عن السعادة. في كلتا الحالتين: لم السعادة اليوم في كل مكان 
مرة أخرى؟ ْ 


62 





تمن اللذة 


إمبريالية اقتصادية 

يُعد جيفونز واحدا من مهندسي ما يُشار إليه اليوم في الأغلب باعتباره كائنا 
اقتصاديا قناء602021» 10220 وهو تصور بائس إلى حد ما للكائن البشري الذي لا 
يكف عن الحساب. وتحديد الأسعار للسلع؛ ويسعى بشكل عصابي خلف مصالحه 
الشخصية عند كل منعطف. ليس للكائن الاقتصادي أصدقاءء. كما أنه لا يسترخي» 
وهو شديد الانشغال برعاية مصالحه الخاصة. إن كان قد وحِدَ يوماء رما اعتبره 
الناس سيكوباتيا'*. لكن بالطبع هذه جزئيا هي النقطة الفاصلة - فهذا البناء 
النظري لا وجود له فعليا. لقد تصور جيفونز العقل عبر استعارات من الهندسة 
والميكانيكاء من دون أن يتمادى مطلقا إلى الحد الذي يقترح فيه أن الدماغ في 
الحقيقة محض ميزان فيزيائي. 

في نهاية القرن التاسع عشر صار للكائن الاقتصادي معنى باعتباره نظرية علمية 
تساعد في فهم الأسواقء وم يكن هناك على الإطلاق ما يستلزم تطبيقها خارج الحلبة 
المالية. كانت نظرية تعظيم المنفعة كما طورها جيفونز وآخرون في سبعينيات القرن 
التاسع عشر مفيدة إلى حد أنها فسرت لم يشتري الناس ويبيعون. لكنها مم تتجاوز 
ذلك: بيد أن هذه النظرية الاقتصادية توسعت بشكل كبير خلال النصف الثاني من 
القرن العشرين إلى أن وصلت إلى خدمة الوظيفة العامة الأوسع نفسهاء والتي سعى 
مذهب بنتام النفعي الأصيل إلى تحقيقها. إن ما بدأ بوصفه نظرية عن المبادلات في 
السوق تضخم شيئا فشيئا إلى أن أصبح نظرية عن العدالة. 

تأملوا المثال التالي: في 24 مارس 1989 اصطدمت ناقلة نفط إكسون فالديز 
2 <امء8:0 بشاطئ آلاسكاء وكانت تحمل خمسة وخمسين مليون غالون من 
النفط, وهو ما أسفر آنذاك عن أضخم تسرب نفطي في تاريخ الولايات المتحدة. قتل 
ما يزيد على مائة ألف طائر بحريء ولاتزال أعداد الأسماك والثعالب البحرية وكل 
صور الحياة البحرية ال مختلفة أقل من السابق ما يزيد على عشرين عاما. خرجت 
(*) السيكوباتية: هي اضطراب للشخصية يتضمن سلوكا شاذ! وخروجا على الأعراف والقوانين الاجتماعية ويطلق 
عليه أيضا «المضاد للمجتمع» لهكء150)صفء والوصف للشخص الذي يتصف بذلك هو سيكوباني عتطاهممطعءتروم 


أو لغةممدكرو2, ومن هؤلاء معتادو الإجرام والعنف والسرقة والكذب والمشاجرات (مُعجم مصطلحات الطب 


063 





صناعة الشعادة 


تقارير شتى تشير إلى إهمال العاملين على متن الناقلة, والموظفين غير الأكفاء. وسوء 
التجهيز الذي لولاه لأمكن منع الكارثة. استغرق تنفيذ الإجراءات القانونية المترتبة 
على هذا الحادث سنوات عديدة: لكن وراء مسؤولية إكسون عن نظافة الساحلء 
كان ثمة سؤال أخلاقي أشمل: ثرى كيف يمكن معاقبة الشركة عن الضرر الذي 
ألحقته بألف ميل من الشريط الساحلي الرائع؟ كيف يمكن التعويض عما سببته؟ 

إحدى الإجابات عن هذه التساؤلات جاءت من ولاية آلاسكاء إذ أجريت 
مقابلات مع عينة ممثلة من المواطنين باستخدام تقنية معروفة ب «مسح الاستعداد 
للدفع» لإعتصمنا5 برهم 10 ووع دع صذ1ل101 بشأن ما هم على استعداد لدفعه لقاء عدم 
وقوع كارثة إكسون فالديز”*”. وتوافرت لكل منهم معلومات عن ضخامة الكارثة 
وتأثيرها لتغذية هذا الحساب العقلي بالبيانات. كانت الإجابة» كما تبين» 31 دولارا 
عن كل أسرة في المتوسط. وبالضرب في 91 مليون أسرة. انتهى هذا الحساب بأن 
إكسون مدينة للشعب الأمريكي ب 2.8 مليار دولار. لقد ساعد هذا الرقم في حساب 
التسوية القانونية الأخيرة التي يتعين على إكسون تسديدها بوصفها غرامة. 

ما نشهده في مثال كهذا هو أن علم الاقتصاد أصبح يُستخدم بوصفه أساسا 
لاتفاق عام أوسع يتجاوز حدود السوق. إذ تتسع التقنيات التي تُبتكر لدراسة 
الاتزان في تبادلات سوق خاصة صغيرة من أجل اص إصدار أحكام على خلافات أخلاقية 
عامة كبر ى. تأمّل ماهية النشاط الغريب الذي يدور في القلب من هذا: مواطنون 
منتشرون في أنحاء أمريكا مطلوب منهم أن يُغمضوا أعينهم وأن يتخيلوا ما يتعين 
عليهم شخصيا دفعه للحيلولة دون وقوع حادث ما بعيد. لا بد أن يغوصوا داخل 
أعماقهم بحثا عن رقم ما يعتقدون أنه مساو لقيمة تنظيف الشريط الساحلي. يا 
لها من تقنية عجيبة 3 تقوم على استبطان غريب من المحال تماما إثبات دقته بأي 
شكلء بل تحظى بسلطة تفوقء لنقلء: شهادات القضاة أو المسؤولين المنتخبين أو 
خبراء الحياة البرية. 

ومع ذلك تتنامى السلطة السياسية لثل هذه التقنيات بمرور الوقت. فأينما 
تتراجع القدرة على الوصول علنا إلى اتفاقات مقبولة» تتزايد قدرات علم الاقتصاد 
على تسوية النزاعات. حيث تتزايد استعانة صناع القرار السياسي لتقنيات مثل 

٠‏ «دراسات الاستعداد للدقع المسحية» في استنباط السعر الظني المحتمل لهذه السلع؛ 


64 





ثمن اللذة 

لتبين ما إذا كان الأمر يستحق إنفاق النقود لحماية المعالم الجميلة؛ وإتاحة الموارد 
الثقافية من دون قيد للجمهور أو زيادة سلامة النقل””. كما تشمل تقنيات أخرى 
دراسة أثر وجود حديقة عامة جميلة على أسعار المنازل المحلية لفهم قيمة الحدائق 
العامة من الناحية النقدية. وفي ميدان الرعاية الصحية, حيث تقتضي الضرورة إنفاق 
الموارد المحدودة بأفضل طريقة ممكنة. تعد مسألة «القيمة مقابل النقود» مشكلة 
دائمة؛ إذ مرة أخر: ى يؤدي الاستبطان السيكولوجي دورا مع خضوع الناس للدراسات 
المسحية من أجل الكشف عن تقييمهم العددي للسرطان أو العمى, على رغم عدم 
مرورهم في العادة بتجربة تلك المتلازمات المفترضة. | 

تمثل هذه التقنيات مراوغة بين نظرة ديموقراطية تتطلب سماع صوت الناس. 
وعلم بنتامي ينادي بأن الأرقام وحدها هي الجديرة بالثقة. لكن المحصلة صعبة 
التناول هي أن الناس ربا يتكلمون. لكن شريطة أن يتبنوا المقاييس والأسعار 
باعتبارها لغتهم. وكي تكون لهم كلمة عليهم تقليد الآلة الحاسبة. 

في أوائل تسعينيات القرن العشرين أعيد توحيد علمي الاقتصاد والسيكولوجيا 
بشكل ماء حين بدأ الاقتصاديون في استخدام البيانات ال مستخرجة من الدراسات 
المسحية التي أجريت على الرفاهية. كما طرحت ت تقنيات جديدة لقياس المنفعة 
«المجر بة» (مقابل المنفعة «المنقولة» أو «المرتقبة»). مثل «طريقة إعادة إعمار 
اليوم» التي يحاول فيها المشاركون ويسجلون مشاعرهم الفعلية في أوقات مختلفة 
من اليوم: أو تطبيقات الهواتف الذكية التي تحث المستخدمين على تحديث حالتهم 
النفسية الراهنة آناء اليوم. أحد هذه التطبيقات التي طورتها مدرسة لندن لعلم 
الاقتصاد. يشار إليه من دون مبالغة باسم «عداد المتعة» «عاع دم نده116»0. 

إذا تمكن الاقتصاديون من إرساء صلة دقيقة بين اللذة النفسية والنقود (من 
خلال مقارنة مستوى الرفاهية لدى أصحاب المداخيل المختلفة) ومن ثم دراسة 
العلاقة بين الرفاهية والسلع غير السوقية المختلفة (مثل السلامة؛ الهواء النظيف؛ 
الصحة وهلم جرا) فسيمكن تعيين سلسلة من الارتباطات المتبادلة التي يمكن من 
خلالها تسعير أي شيء. وقد استعانت الحكومة البريطانية بتقنية مماثلة لإرساء 
القيمة النقدية للمكتبات والمعارض الفنية؛ وذلك بأن يُكشّف عن مقدار السعادة 
الذي تصنعه تلك الأماكنء ومن ثم يُكشف عن الإيراد ا مطلوب لإنتاج القدر المكافئ 


65 





من الفائدة السيكولوجية”*. تتيح هذه التقنية لصناع القرار وضع سعر للثقافة 
العامة. وقد اقترحت التقنيات نفسها لتكون أساسا تحسب بناء عليه تعويضات 
الأضرار للضحايا الذين تعرضوا لإد'اء ما غير ملموس أو عاطفيء كفقدان طفل'”. 

لا يمكن وصف أي من هذه التقنيات بأنها غير مفيدة؛ فالإنفاق على الرعاية 
الصحية, على سبيل المثال؛ بتطلب أساسا ما يمكن من خلاله تجاوز معضلات هذا 
الإنفاق. لقد أصبحت النقود هي اللغة الأخلاقية المشتركة التي يمكن من خلالها 
إنجاز ذلك: علماء اقتصاد مختصون بالصحة يعطون قيما نقدية متفاوتة لنتائج 
صدبد مختلفة. لكن مع تورط علماء الاقتصاد في مزيد من القضايا العامة والنزاعات 
الأحلاقية, يُصبح التساؤل السيكولوجي عن القيمة أكثر إشكالية. وتزداد صعوبة أن 
نتحاهل تساؤل جيفونز عن الكيفية التي نحس بها اللذات والآلام إن أردنا تمكين 
النقود وعلم الاقتصاد من الصمود بوصفها وسائل قابلة للتطبيق في التعاطي مع 
القضايا الخلافية العامة. 

مادام الاقتصاديون يتعاملون مع تبادلات السوق فقطء فإنهم سيكونون قادرين 
على العمل من دون أن يساورهم أي قلق بشأن ما يعتمل داخلنا. م تكن اهتمامات 
جيفونز السطحية بالسيكولوجيا النفعية ضرورية حقا بالنسبة إلى ما كان يسعى 
إلى تحقيقه. وم يبدأ الاقتصاديون بالتساؤل عما نشعر به إلا حين بدأوا في غرس 
مخالبهم أكثر في الحياة العامة والنزاعات الأخلاقية والقانونية ليعود السؤال خارج 
إطار السوق: ماذا تساوي كمية ما من النقود؟ وكم من الرفاهية تصنعه في الحقيقة؟ 
تحاول النقود أن تكون مقياسا في حد ذاتها لكل شيء. لكنها دائما ما تخفق في نهاية 
المطاف بسبب طبيعتها المزدوجة. ولهذا السبب تحديدا - الخواء المحفوف با مخاطر 
للأوراق النقدية - عادت السعادة لتشغل الاقتصاديين من جديد. 


العودة إلى جيفونز؟ 

كان جيفونز قد تساءل إن كان من الممكن في آخر الأمر تسليط الضوء على 
«الآلية الناعمة التي يعمل بها الدماغ» والوصول إلى الحقيقة وراء سعينا إلى اللذة 
بشكل قاطع. وبعد ما يزيد على القرن تقريبا من وفاته. خرج من يعتقد بإمكانية 
التوصل إلى هذا التطور. لم يكن النيتروجين والفوسفور جوهريين تماما كما خمن 


66 





نمل انلحة 

جيفونزء بل بدا أن ميكانيكا العقل الاقتصادية تنحدر من مادة كيميائية في الدماغ 
هي الدوبامين!*, 

ظهرت فكرة «نظام إثابة» عصبي أول مرة في خمسينيات القرن العشرين. مع 
شروع العلماء في سبر أدمغة الفئران للتعرف على الطريقة التي تبدل بها سلوكها سعيا 
إلى اللذة. حملت فكرة مثل هذا النظام أصداء واضحة للنظريات السيكولوجية 
كما قدمها بنتام وجيفونز. يفترض هذا النظام ضمنا أن الحيوانات محكومة باللذات 
والآلام» أي أنها تكرر الأفعال التي تُثاب عليها وتتجنب ما ينتج عنها عقابها. الآن 
فقطء لم تعد هناك حاجة إلى الاستعارات بشأن الموازين التي طاما أمتعت جيفونز؛ 
إذ يجري كشف النقاب ظاهريا عن الركيزة البيولوجية الحقيقية للتعتنا ا محسوبة. 

في أوائل ثمانينيات القرن العشرين اكتشف المختصون أن الدوبامين يُفرز في 
أدمغتنا باعتباره «المكافأة» عن القرار الصائب. بالنسبة إلى الاقتصاديين» يطرح هذا 
سؤالا لافتا: هل يمكن أن تكون القيمة في الحقيقة مادة كيميائية تختلف من حيث 
الكمية داخل أدمغتنا؟”*. حين أقرر إنفاق عشرة جنيهات لشراء بيتزا هل يمكن أن 
يكون هذا القرار قد صدر حقا لأنني سأتلقى كمية مساوية تماما من الدوبامين على 
سبيل المكافأة؟ هناك توازن ما قيد التصور يضع النقود فوق كفة الميزان» وجرعة 
مساوية من الكيمياء العصبية فوق الكفة الأخرى. ربما يكون من الجائز تحديد 
معدل التبادل الذي تحدث وفقا له صفقات مبادلة الدولارات بالدوبامين هذه. 

في مكان آخرء يعتقد علماء الأعصاب أنهم حددوا المنطقة الدقيقة في الدماغ 
المسؤولة عن اتخاذ قرارات شراء منتج بعينه ألا وهي النواة المتكئة 5ناءاءنال<ا 
5 ءءء ة. وتزعم ورقة بحثية تعزز نظرية السيكولوجيا بوصفها فعل اتزان. 
أنها حددت الدوائر العصبية التي تتعامل مع اللذة والسعر على التوالي» والمقاييس 
- إذا جاز التعبير - التي يعتمد عليها قرار كل مستهلك”. بالنسبة إلى أكثر مريدي 
جيفونز تفاؤلاء هذا هو العالم الشجاع الجديد الذي تشرق شمسه اليوم. 

يقول المنطق السليم إن هذه قضايا عبثية؛ إذ يبدو عمل الدماغ «بشكل 
طبيعي» طبقا لمبادئ كان الاقتصاديون أول من نادى بها في ستينيات القرن التاسع 


(:*) ناقل عصبي له علاقة ببعض الأمراض العصبية والنفسية مثل الفصام والشلل الرعاش. [المترجم]. 


67 








صناعة الشعادة 
عشر أمرا مستبعدا تماما. ما الذي يدفع أيا منا إلى اعتقاد أنناء داخل طبيعتنا 
البيولوجية الجوهرية؛ نعمل كالآلات الحاسبة؟ الإجابة عن هذا التساؤل بسيطة: 
كي ننقذ علم الاقتصاد وإلى جانبه سلطة النقود الأخلاقية. 

بعد العام 2008 الذي شهد أكبر أزمة مالية منذ العام 1929 قادت إلى أطول 
ركود منذ همانينيات القرن التاسع عشرء كانت هذه هي الأرضية التي اعتقد عدد 
هائل من واضحي الذكاء ضرورة مناقشة الاقتصاد السياسي على أساسها. فقد 
يكشف إنعام النظر داخل الدماغ عن الخطأ الذي جرى بالضبط. هكذا لم تكن 
الضغوط الاستراتيجية التي مارستها البنوك على التشريعات المالية منذ ثمانينيات 
القرن العشرين فصاعدا هي المْلومة, ولا الباب الدوار بين البيت الأبيض وغولدمان 
ساكس!*). كما لم تكن حقيقة أن البنوك الاستثمارية كانت لديها القدرة على رشوة 
وكالات التصنيف الائتماني لتمتدح المنتجات المالية التي لا قيمة لها. كلاء كانت 
المشكلة التي عصفت بدنيا المال تتمثل في إحدى مواد كيمياء الأعصاب الخطأ. 

كانت التفسيرات كثيرة, منها أن عددا هائلا من رجال وول ستريت انساق 
لتأثير كميات هائلة من هرمون الذكورة!”'”, وأن عددا مذهلا من المصرفيين انتشى 
بالكوكايين؛ ما أدى إلى إفراز الدوبامين في التوقيت الخاطئ!*" أو أن المصرفيين نسوا 
ببساطة العيوب البيولوجية داخل أدمغتهم؛ ما جعلهم شديدي الثقة في اللحظة غير 
المناسبة (نُمْ رجال الكهوف لأنهم لم يتطورؤا). أو كانوا ضحايا قصور في التطور”". في 
المقابلء اكتشف التجار ممارسات التأمل باعتبارها طرقا للسعي نحو إزالة مخاوفهم 
من المخاطر المحسوبة بشكل أفضل. وقدمت شركة تروبرين 2نة:18ام) دواء عبارة 
عن مكمل عصبي طوْر على أساس نتائج مسح تخطيط أمواج الدماغ الذي كانت 
تجريه الشركة على التجار في أثناء التعاملات التجارية: يعد بعملية اتخاذ قرار أفضل 
في السوق. وبعضهم أسعده الحظ بكل بساطة حين أنعم عليه بدماغ «يحذره» حين 
تكون هناك فقاعة مالية على وشك الانفجار29. 





(*) «غولدمان ساكس» 59298 صدددة1ه6: بنك استثماري عالمي مقره نيويوركء يُطلق عليه «صائع الصفقات الرقم 
1 في وول ستريت» والإشارة هُنا إلى الشبهات التي حامت حول استفادة البنك من حزمة إنقاذ القطاع المالي البالغة 
0 مليار دولار من خلال علاقته بوزير الخزانة آنذاك هنري بولسون مهولسوط دمع والذي كان رئيسا للبنك في 
وقت سابق. [المترجم]. 


68 





ثمن اللذة 
يتمثل إجحاف علم الاقتصاد العصبي في اعتقاد أن النظرة الميكانيكية 
والرياضياتية للعقل ينبغي أن تكون صائبة في نهاية المطاف. هناك بالطبع انحرافات 
حين تفرز مواد الكيمياء العصبية بكمية غير مضبوطة أو في توقيت ت خطأ. لكن من 
خلال معرفة توقيت حدوث هذا ودمج هذه المعرفة مع حساباتناء سيصبح في 
مستطاعنا الاعتماد على العقل في إجراء توازناته من جديد. الحقيقة هي أن صانعي 
القرار السياسي والاقتصاديين وكبار رجال الأعمال حين يشرعون في التورط في مسائل 
الثواب النفسعصبي أو الحوافز أو الدوبامين. فإن برنامجهم يختلف كليا: وهو 
التأكد من أن النقود تحتفظ بمكانتها ا مميزة بوصفها مقياسا للقيمة. 
تمثل أي أزمة مالية تهديدا خطيرا للوضع العام للنقود؛ ما يبرز ضرورة موضعة 
القيمة على أسس متينة. وكان الدماغ ببساطة آخر موضع تُرسى عليه تلك الأسس 
عبر تاريخ يرجع إلى ستينيات القرن التاسع عشر. حيث يعود الكثير من اهتمامنا 
باللذة والسعادة اليوم إلى تراث علم الاقتصاد الذي لا يستلزم إلا نظرية وافية 
عن العقلء تماما كما يقتضي اقتصاد السوق الحر. ويُشبه اقتراح إحداث قطيعة 
بين تلك النظريات وبين السياق السياسي والثقافي لها محاولة فهم مجموعة من 
موازين المطبخ من دون أي وعي بما ينطوي عليه الطبخ. لقد كان الشبان الثلاثة في 
مستشفى لندن ا ملكي يستغلون بكل بساطة فكرة تشكل جزءا لا يتجزأ من ثقتنا 
المعاصرة بالأسواق حين أدركوا أن ألم العنق يساوي مبلغ التعويض. وما م يُفصل 
بين فكرة الإنصاف ومفهوم «القيمة مقابل النقود» بكل ما يثيره المفهوم من أسئلة 
سيكولوجية: فإن المعضلات الفلسفية مثل شد العنق المفاجئ لن تكف عن التكاثر. 
تعد الأسواق سياقا واحدا ترعرعت فيه مثل هذه الأفكار داخل نطاق الرأسمالية 
الأوسع. لكن السياقات تتعدى الأسواق بكثير؛ إذ تقتضي اللمؤسسات الاقتصادية 
والسياسية طرقا شديدة الاختلاف لتصور لذاتنا ورفاهيتنا وقياسها. لقد أحس علماء 
النفس بالحرية في التعاطي مع النشاط الاقتصادي كيفما يحلو لهم ولرعاتهم بعد 
أن أغلق علماء الاقتصاد الباب في وجه علم النفس في تسعينيات القرن التاسع عشر. 
فاضطلعت استعارات وفرضيات مغايرة عن عقولنا بأدوار رئيسة بما تحتويه من 
مضامين بشأن طريقة تطوير الرأسمالية. إن انشغالنا الراهن بكميات سعادتنا الداخلية 
يعود في جزء كبير منه إلى هذا الإرث. كما هو لجيفونز وأولئك الذين جاءوا من بعده. 


69 





فى مزاج الشراء 


صفيحة معدنية بها ثقبان مربعان فوق 
طاولة مربوطة بحبل. في نهاية الحبل الذي يتدلى 
من الطاولة ثقل حديدي. في لحظة مُعينة نسحب 
رافعة فتنفلت الصفيحة المعدنية ويشدها الثقل 
المعدني بقوة فوق الطاولة. بمر الثقبان المربعان 
بسرعة خاطفة في أثناء حركة الصفيحة فوق صورة 
مرسومة على الطاولة في الأسفلء فتنكشف أمام 
عين الملاحظ لجزء من الثانية» قبل أن تغطيها 
الصفيحة مرة أخرى. يحسب الملاحظ بدقة المدة 
التي انكشفت خلالها الصورة ويسجل الانطباع 
الذي اختلقته رؤية الصورة إن تحقق. 

هذه هي آلية عمل امناظير التومضية 
5 م120115]0560 فى أطانيا في خمسينيات 


«إن أغلب ما نحس به من اللذة التي 
ترقب تسلمه» 





برايان نوتسون 


/1 





صناعة الشعادة 
القرن التاسع عشر". آنذاك. كان الفيسيولوجيون يستخدمون تلك المناظير في 
دراسة النظر. حيثُ تفحصت الأبحاث البصرية جوانب مختلفة تتعلق بالرؤية 
تشمل الضوء وعمق الإدراك والصور التلوية!*! والكيفية التي يبني بها زوج من 
العيون الصورة في ثلاثة أبعاد. وذلك من خلال إخضاع العين للفحص والاختبار بحثا 
عن استجابات مختلفة. 

اليوم. يمكن استخدام مكافئئ رخيص نسبيا للمنظار التومضي هو كاميرا 
الويب العادية دنهءطء18. إذ نستطيع من خلالها تتبع حركة العين وتمدد 
بؤبؤها. كما أصبح من الممكن تسجيل الزمن الذي تستقر خلاله العين على 
صورة مُعينة, أو جزء منهاء مُقربا إلى أقرب جزء من ألف من الثانية. وتطرح 
شركات خاصة تحمل أسماء على شاكلة 102اء486 ووعإ126831 خدمات تجارية 
لزبائن يرغبون في معرفة طريقة كسب انتباه جماهيرهم والاحتفاظ به. تعمل 
هذه التقنيات في الأغلب بصحبة برامج مسح ضوي للوجوه أكثر اتساعاء وتعد 
بالكشف عن أسرار حالاتنا الانفعالية. وتنتشر تقانة ا مسح الضوفي للوجوه بكل 
المواقف اليومية, مثل محال السوبر ماركت ومحطات الحافلات. للمساعدة في 
نسج رسائل تناسب الأفراد. بطبيعة الحالء فإن مناظير القرن الحادي والعشرين 
التومضية تلك لا تُستعمل لأغراض علمية خالصة: بل تستعمل في أكثر الأحيان 
لخدمة أبحاث السوق والإعلان الموجه. ” 

منلُ أواخر التسعينيات أخذ تركيز باحثي السوق على عيوننا ووجوهنا بحثا 
عن إشارات تشي بما قد نشتريه في الازدياد. ويدعم هذا التركيزٌ اعتقاد متنام بأن 
الانفعالات هي ما يقود الاستهلاك في المقام الأول. وكان كتاب صدر في العام 
4 لتلعام الأعصاب البرتغالي الأمريي أنطونيو داماسيو 5أققتصة2 منصمغمم 
بعنوان «خطأ ديكارت» 82208 65)نهء1»5 قد مارس تأثيرا عميقا في صناعتي 
الإعلان وأبحاث السوقء وفيه يُجادل داماسيو بأنه بناء على فحوص الدماغ فإن 
العقلانية والانفعال ليسا وظيفتين بديلتين أو متعارضتين للدماغ بل على النقيضء 
(*) الصور التَلويّة هعهمء8ة: ما يراه الفرد بعد توقفه عن رؤية صورة ماء وهي ظاهرة سيكولوجية عادية. 


لكنها قد تتحول إلى حالة مرضية تسمى أوهام ما بعد الرؤية 8ذةمههفله2: مرذ هذه الظاهرة يعود إلى استمرار 
النشاط الضوكيميائي في شبكية العين حتى عقب توقف تأثير المنبه الأصلي. [المترجم]. 


72 





في مزاج الشراء 


فالانفعالات شرط التصرف بطريقة عقلانية. على سبيل امثالء تبين أن الأفراد الذين 
كانوا يعانون تلفا في الدماغ يشوش قدراتهم الانفعالية يعجزون كذلك عن اتخاذ 
مزيد من القرارات ال مدروسة والعقلانية. 

يجري الحديث الآن عن داماسيو بنبرات خافتة باعتباره مؤسسا لتنوير مصغر 
في نظرية وعلم التسويق. وبشكل تدريجي في البداية» لكنه اكتسب زخما مع 
صدور كتاب مالكولحم غلادويل [أء:6180 تصامء8121 في العام 2005: «ومضة» 
علصناظ أضحى كل معلم بارز بالإعلان وأبحاث السوق ينظر إلى جوانب العقل 
والدماغ الانفعالية باعتبارها هدف حملاته وأبحاثه الإعلانية؛ ما أسفر عن مثل 
هذه الموروثات المريبة من قبيل التسويق العصبي مها)6ع002:1:ناء21 والشعارات 
الشمية 5ههه.آ +معء05). ويدفع سيكولوجيون من أمثال جوناثان هايت 
4 صوط)2ه0[ بهذا الأمر خطوة أبعد من خلال تحليل الأسس الانفعالية 
للخيارات الأخلاقية والسياسية©. 

يبدو هذا مدهشا قليلا إلى حد ما. ذلك أننا ندرك منذ زمن بعيد أن المعلنين 
يستهدفون رغباتنا اللاواعية وغياب إحساسنا بالأمن ضمن مساعيهم إلى حملنا على 
شراء منتجاتهم. ثم جاء كتاب «المقنعون السريون» 2250320675 211006 ع7* *) 
في العام 1957 ليكون أول من يُطالب بكشف النقاب عن المناورات والحيل التي 
يمارسها المعلنون علينا وفضحها. ربما تكون نظرية الإعلان موضة عابرة على غير 
العادة, ومآل الانفعالات هو الرجوع إلى «الداخل» من جديد. لكن مفهوما 
آخر سرعان ما سينتزع مكانها. ثئمة أيضا حقيقة أن المعلنين ظلوا يقاومون طويلا 
تصويرهم على أنهم «مقنعون سريون»», مُشددين على استحالة دفع شخص إلى شراء 
شيء لا ريده حقا. ما الجديد إذن؟ 

بالنسبة إلى كثيرين من باحثي السوقء غيّر ظهور علم الأعصاب الأوضاع 
بشكل أساس. وفق ما يرى أكثرهم تفاؤلاء فإن العلماء على وشك اكتشاف «زر 
الشراء» داخل الدماغ. وهي تلك المنطقة امُحددة بالقشرة الرمادية التي تدفعنا 





(*) الشعار الشمي ويه آ أمع»5: الدعاية لسلعة معينة من خلال إطلاق رائحة مميزة ترتبط لدى المستهلك بهذا 


المنتج. [المترجم]. 
(# :#) قمع وناوء2 211002 ع1" كتاب لغانس باكارد لماج ععصولا, المترجم]. 


73 





صناعة السعادة 
إلى وضع سلعة ما داخل سلة مشترياتنا. قد يعني علم أعصاب الانفعالات أن 
المعلنين لم يعد عليهم مواجهة الخيار بين التفكير على نحو خلاق أو على نحو 
علمي: بل كل ما عليهم هو تحديد أشكال الصورة أو الصوت أو الرائحة التي 
تُسفر عن تعلق عاطفي بعلامات تجارية بعينها. أضف إلى هذا التقدم في مجال 
الترميز المحوسب لحركة العين وعضلات الوجه. لتجد بين يديك كل ما يلزم حقا 
معرفة ما يحس به الناس. كما يستخدم البعض الاختبارات الهرمونية مقوما آخر 
في هذا المزيج. 

لقد أسفر الكثير من التقدم التقني عن طفرة علمية داخل منظومة أبحاث 
السوق. وأصبح اكتشاف ما إذا كان إعلان مُعين يُفلح في الواقع في استهداف انفعال 
مُحدد والميل نحو شراء شيء ما إلى جانب ذلككء إمكانية حقيقية الآن. ويبدو أن 
وجود علم كمي موضوعي يختص بالرغبة صار أمرا مُحتملا. 

نتيجة لذلك؛ يتوالى ظهور نتائج جديدة متعددة. كان خبير الإعلان الجنوب 
أفريقي؛ إيريك دوبليسي وذووء21 ندل 811, قد أقنع كثيرا من الشركات - أهمها 
فيسبوك - بأن إعجابنا أو عدم إعجابنا بشيء ما تمارس التأثير العاطفي الأكبر 
فيما سنفعله تاليا". وكشفت دراسة أخرى أن الخوف هو ما يدفع الناس إلى 
شراء منتجات العلامات التجارية الكبرى”. واكتشف بريان نوتسون ههذ:8 
دهةغ1اص1؛ وهو عام أعصاب بجامعة ستانفورد. أن أغلب ما نحس به من 
اللذة التي تقترن بشراء شيء ما يحدث في أثناء ترقب تسلمهء ونصح الشركات 
بتشكيل ممارسات البيع لديهم وفقا لذلك". كما قب عن طرق لتقليل الألم 
الذي تسببه بطاقة السعرء مثل إنقاص عدد المقاطع اللفظية في السعر في أثناء 
نطقه7. وتبين أن الألم النفسي الناجم عن إنفاق المستهلكين النقود باستخدام 
بطاقة ائتمانية أقل من أن يدفعوا نقدا. 

يحاول مختصو علم النفس الإيجابي وعلماء اقتصاد السعادة لفت الانتباه 
إلى حقيقة أن النقود والممتلكات المادية لا تؤدي إلى زيادة في رفاهيتنا العقلية, 
لكن هؤلاء الخبراء يشكلون أقلية مقارنة بالحشد الغفير من مختصي علم نفس 
المستهلك, وعلماء أعصاب المستهلك وباحثي السوق المكرسين جميعا للتشديد على 
أننا نحقق بعضا من الإشباع العاطفي من خلال إنفاق النقود. 


74 





في مزاج اتشراء 

إن ما يُترك للمصادفة من عاداتنا في التسوق في تناقص مستمر. على رغم ذلك, 
لن يكف ال معلنون عن القسم أن الصورة التي نعرفها عنهم بوصفهم مقنعين سريين. 
صورة غير دقيقة وغير عادلة. وعموماء فإن الانفعالات التي تُستهدف وتولد وتبحث 
ليست زائفة بأي حال. إذ لا يتعلق الأمر بالكذب على الناسء بل على النقيض؛ أصبح 
الانفعال أو العاطفة نسخة صناعة أبحاث السوق المفضلة من السعادة أو اللذة كما 
كانت بالنسبة إلى بنتام وتابعيه. إن الواقع العصبي الصرفء سواء كان كيميائيا أو 
سيكولوجياء هو ما يُعزز كل ما نشعر به أو نظن أنه يحدث. والأشد أهمية. هو أنه 
هو ما يدفعنا إلى إخراج بطاقاتنا الاثتمانية من جيوبنا. لكننا بطريقة ما ربما أجلها 
جيفونزء لا نفعل ذلك تحت تأثير أيديولوجيا الأكاذيب أو الإعلانات. بل لأثنا نتلقى 
حقا كمية من المشاعر الإيجابية نتيجة للا نفعله. هكذا هوء على الأقل» زعمهم. 

لكن يبقى عدد من الأسئلة غير المجاب عنها في ظل الطفرة العلمية التي تجتاح 
أبحاث السوق بشكل متزايد. ما حقيقة الانفعال أو العاطفة على أي حال؟ لا بأس 
من القول إنه حدث مرثي داخل الدماغ. لكن هذا الكلام لا يساعدنا على فهم ما 
نعنيه بالمصطلح: أو ما نعنيه بكلمات من عينة قلق؛ بهجة؛ خوف؛ سعادة؛ كره؛ 
إعجاب وهلم جرا. من الصعب تصور كيف نشرح أو نصف تلك الأحداث لشخص 
ما لم يسبق له الإحساس بها قبل قطء بغض النظر عن مدى كفاءة ما لدينا من 
أجهزة للكشف. 

إضافة إلى ذلك. من غير الواضح تماما أين يقبع تحديدا هذا الركن داخل هذا 
المجمع الصناعي العصبي الجديد. هل يُعد المستهلكون أصحاب سيادة؛ كائنات 
مستقلة بذاتها انفعالاتها مبنية على شخصيتها وإرادتها الحرة؟ أم أنهم مجرد 
أوعية سلبية تُصارع وجدانها الصور والأصوات والروائح التي تُعرض أمامها؟ يخشى 
العاملون في التسويق التصريح بالطرح الأخيرء وعلى رغم ذلك نادرا ما تنسجم 
طرقهم مع الطرح الأول أيضا. ربما لا يعرفون بحقء حيثٌ يُشكل تفويض مسألة 
اتخاذ القرار للدماغ الطريقة المثلى للتخلص من هذه المعضلة الفلسفية. 

في حين تعتبر تقانة المسح التي تعد بكشف أسرار مشاعرنا جديدة بدرجة 
باهرة, تعد الأسئلة الفلسفية والأخلاقية التي تنج عنها قديمة جدا. يوجهنا هذا إلى 
نمط متكرر داخل البحث السيكولوجي يعود تاريخه إلى الفترة التي شهدت ظهور 


75 





صناعة الشعادة 


أول المناظير التومضية في خمسينيات القرن التاسع عشرء ويتعلق بالإغراء الفاتن 
لتقانات قراءة العقل. فمع كل موجة أجهزة ومناهج جديدة لمسح سيرورات الفكر 
أو الأحاسيس أو غيرهاء ينشأ اعتقاد مفاده أن العلوم الطبيعية أطاحت بالفلسفة 
والأخلاقيات إلى الأبد. وفي الوقت نفسه. دائما ما كان هناك أمل في إمكانية فهم 
إنسان آخر من دون الحاجة إلى الحديث معه. 

لكن في الحالتين, لاتزال هناك رؤية متبقية متعلقة بما يعنيه حقا كل من الوعي 
والحرية تفلت من الإثبات العلمي. فحين يزعم علماء النفس والأعصاب أو باحثو 
السوق أنهم أعتقوا تخصصاتهم البحثية من الاعتبارات الأخلاقية أو الفلسفية 
بشكل نهائيء آنئذ ينبغي طرح هذا التساؤل: من أين تستقي إذن معرفتك بالطبيعة 
البشرية؛ بما في ذلك حالاتها الانفعالية المختلفة, ودوافعها وحالاتها ال مزاجية؟ 
أبالبديهة؟ وما الذي يغذيها؟ 

خلال السنوات التي تلت ظهور تلك المناظير التومضية أول مرةء أصبح الرد 
على هذه التساؤلات بسيطا. فالمفهوم المتبقي من الحرية الذي ينبني عليه تطور 
هذا العلم هو حرية التسوق. ومادامت الحال هكذا فربما كان من الجائز حقا 
اتهام التسويق العصبي المُعاصر والترميز الوجهي بأنهما مشروع واحد متصل. 
فما يُكتشف داخل الوصلات العصبية في أدمغتنا وطرفات أعيننا ليس بيانات 
خام تحقّن من جديد داخل التصميمات الإعلانية» بل هو ما لا مندوحة من 
تفسيره عبر فلسفة استهلاكية. 

من ثم نحن في حاجة إلى فحص تاريخ علم النفس والنزعة الاستهلاكية 
باعتبارهما مشروعين متشابكين, والتقانة قطعيا جزء لا يتجزأ من هذا التشابك. لقد 
أصبح في مستطاع السيكولوجيا بفضل الطرق والأجهزة التقنية, بدءا من المناظير 
التومضية فصاعداء الزعم بأنها علم موضوعي قبل أي شيء. وأتاحت القوة المغرية 
مثل هذه الأجهزة لأفراد معينين الإعلان عن أنه لمم تعد هناك حاجة لا إلى الفلسفة 
ولا إلى فلسفة الأخلاق. ههنا يتحقق الوفاء بجزء كبير من وعد بنتام بسياسة علمية. 
سياسة تحل فيها المعرفة العلمية بمشاعر الآخرين محل فوضى وغموض الحوار. لكن 
ليست الحكومة الوطنية التي تسعى وراء المصلحة العامة هي من يقف وراء هذه 
النسخة من السياسة. بل شركة تسعى وراء مصلحة خاصة. 


76 





في مزاج الشراء 

بين الفلسفة والجسد 

في العام 1879 أعلن الفيسيولوجي السابق والفيلسوف العرضي فيلهلم فونت 
هن" تماعطنا)1 أن جزءا معينا من مكتبه في جامعة لايبزيغ أصبح خارج حدود 
الجامعة, وأنه من الآن فصاعداء سيستخدم هذا الجزء في إجراء تجارب لا تختلف 
عما ساعد في إجرائها حين كان يعمل مساعدا للفيزيائي الأماني العظيم هيرمان فون 
هيلمهولتز في هايدلبرغ ع:116106156 في ستينيات القرن التاسع عشر. كان فونت 
قد أجرى أيضا تجارب فيسيولوجية على العضلات البشرية في أثناء مرانه كي يصبح 
طبيبا. لم تكن تنقصه الثقة بالنفس على الإطلاق: وقد وعد في لحظة ما بكشف 
حقيقة المنعكس العضلي :©1646 195د“16118 بصورة نهائية. 

لكن فونت كانت له أيضا طموحات فلسفية لم يعتزم يوما التخلي عنها ماما 
من أجل العلوم الطبيعية. كان على اقتناع بأنه في حين يمكن للسيرورات العقلية 
أن تحدث بطريقة عفوية, فإنها تجري كذلك بسرعة محددة يمكن قياسها من 
حيث المبدأ. وكان الغرض من فضائه التجريبي الجديد هو استقصاء مثل هذه 
الأسئلة الفلسفية باستخدام تقنيات وأدوات استعارها من العلوم الطبيعية؛ إلى 
جانب الاستعانة بمفحوصين من البشر استخدمهم بالطريقة ذاتها حين كان يختبر 
الاستجابات العضلية. 

يُنظر الآن إلى المنطقة المقفلة بمكتب فونت باعتبارها أول مُختبر سيكولوجي في 
العالم. كان تصميم المختبر شديد الرمزية: يُعبر عن الانفصال الصارم لعلم النفس عن 
منطقتي النظرية والعلم اللتين كان يعتمد عليهما في السابق. . لقد أجريت أشكال من 
الأبحاث السيكولوجية في أرجاء أوروبا منذ مطلع القرن التاسع عشر, ينطوي أغلبها 
على عناصر من التجريب كما في تجارب فخنر في رفع الأثقال. لكن تلك الأبحاث 
كانت تُجرى من داخل تقاليد بحث فيسيولوجية و/أو فلسفية, وكان يُجريها إجمالا 
باحثون يُجِرُون التجارب على أنفسهم, بمعنى أنهم كانوا يعتمدون على الاستبطان 
في جمع البيانات. لكن إنجاز فونت كان في فصل السيكولوجيا باعتبارها فرعا معرفيا 
مستقلا بذاتهء بل ربما منفصلا أيضا عن الفيسيولوجيا والفلسفة. 

خلال ذلكء قدم بيانا يضم تضمينات عميقة وبعيدة المدى بشأن الطريقة 
التي نفهم بها أنفسنا والآخرين. إن ما ألمح إليه فونت بشكل فعال هو أن النفس 


77 





م نانة السسعاخذة 


تتأرجح داخل مجالها الخاصء بين عام البيولوجيا الطبيعية وعاط الأفكار الفلسفية. 
كان بنتام قد أرسى تعارضا ثنائيا حادا بين مسائل الواقع (الذي نشير إليه بالعلوم 
الطبيعية) ومسائل الخيال عدية المعنى (التي نُشير إليها بال ماورائيات). كان فونت 
يضيف خيارا ثالثا: شكلا من الواقع في مستطاعنا معرفته لكن من دون حصره 
في قوانين الطبيعة. وهو يضم الفئات المختلفة التي ننظر إليها اليوم باعتبارها 
سيكولوجية: المزاج» التوجه. المعنوياتء الشخصية. الانفعال الذكاء, وهلم جرا. 

ثُرى كيف يمكن أن تتحول هذه الكيانات المفاهيمية غير الملموسة بشكل 
واضح إلى موضوع استقصاء علمي؟ حرص فونت على تجنب اللجوء إلى استبطان 
من النوع الذي كان يستخدمه كثيرون من علماء النفس الإنجليز في خمسينيات 
وستينيات القرن التاسع عشر. كان الهدف من المختبر دراسة السيرورة العقلية 
بطريقة أكثر موضوعية. فأنشأ هو ومساعدوه أدوات مختلفة لاختبار استجابة 
مفحوصين تجريبيين على مثيرات مختلفة. واستعاروا كذلك أدوات شتى من 
مختبرات الفيسيولوجيا والفيزياء لتحديد زمن المنعكسات العصبية. كما صمموا 
نسختهم الخاصة من المنظار التومضي الذي كان يُستعمل في تحديد الزمن 
اللازم لجذب انتباه شخص ما. كانت العيون منطقة مهمة للدراسة بالنسبة إلى 
السيكولوجيين الرواد. وليس في البحث الفيسيولوجي فقط. وصارت الآن توفر 
نظرة خاطفة عن التفكير نفسه. ' 

قد يبدو الكثير من التجارب التي أجريت داخل مختبر فونت شديد التطابق مع 
ما كان يُجرى من تجارب فيسيولوجية على الجسم البشري؛ حيث كان معدل النبض 
وضغط الدم من بين المؤشرات القابلة للقياس على الحالات الانفعالية الداخلية. 
لكن أحد الاختلافات الرئيسة - التي تميز أيضا هذا البحث السيكولوجي الطبكر 
عما سيُجرى لاحقا - هو أن الذين خضعوا للتجارب كانوا من الباحثين والطلاب 
لدى فونت, ممن هم على وعي تام بما تسعى التجارب إلى اختباره. وأسهموا 
باستبصاراتهم الذاتية في النتائج. 

كانت نظرة ا مفحوص التجريبي مهمة هناء وم يكن ثمة معنى في التلاعب بهؤلاء 
ا مفحوصين. كان هناك ما يستدعي احترام الفكر الواعي في حد ذاته, لا أن يختزل 
في مسائل السبب والأثر طبيعية النزعة. فعلى سبيل المثال» يمكن مقارنة سرعة رد 


78 





3 1 4 
لخلا ضرقة قرام 


الفعل الواعي (متى انتبه ا لمفحوص لشيء ما) بسرعة رد الفعل غير الواعي (متى 
وقعت الاستجابة اللاإرادية). كان التحدي أمام فونت يتمثل في تجنب مصادمة 
أبحاثه للفيسيولوجياء وتجنب التأملات الفلسفية الفارغة وغير القابلة للفحص. في 
الحقيقة, كان يمزج بين الأمرين على أمل الوصول إلى نتائج تفوق مجملهما. 

وفقا للباحث في فلسفة الجمال جوناثان كراري 02227 1022:8» كان تركيز 
فونت على العيون والانتباه دالا على تحول فلسفي عميق جرى خلال أواخر القرن 
التاسع عشر”. إذ إن شروط التجربة الذاتية التي كانت تعد من مسائل التأمل 
الفلسفي منذ القرن السابع عشرء صارت تتحول شيئا فشيئا إلى مسائل جسدية 
ومن ثم تكون مرئية لعين الفاحص ال مخبري. م يستغن فونت عن المفهوم الفلسفي 
للوعيء لكنه كان سعيدا بإسقاط بعض الأجزاء منه لاسيما الجزء الذي يُشير إليه 
باعتباره «حقلا للرؤية». في أثناء ذلك تسارع التحول من اللغة المفاهيمية إلى اللغة 
العلمية, ولم تعد القدرة على الشعور بالعالم الخارجي هبة إلهية تقبع في الخفاء 
داخل كل البشر, بل وظيفة يقوم بها الجسم البشري. ومن ثم كما هو واضح, يمكن 
فحصها والتعرف عليها والتأثير فيها. ظ 

على الرغم من الانفصال الرمزي مختبره السيكولوجي عن مكتبه؛ مم يحقق 
فونت نفسه أي تصور جلي للبحث السيكولوجي. فظلت السيكولوجيا في أانيا 
ترتبط ارتباطا وثيقا بالفلسفة حتى اندلاع الحرب العالية الأولى. وخلال السنوات 
الأولى من القرن العشرين؛ سنوات مسيرته المهنية الأخيرة. انجرف فونت عائدا 
إلى الفلسفة. بل إلى منطقة علم الاجتماع أيضا. لكن على رغم تأرجحه بين الطرق 
التي أخذها من البحث الفيزيائيء وقضايا الوعي الميتافيزيقية, أنتج فونت بعض 
النظريات السيكولوجية الطهمة. 

فقد حدد ثلاث طرق مختلفة قابلة للقياس تمكن أن تتباين فيها الانفعالات: 
اللذة/ السأم, التوتر / الهدوءء الإثارة/ الاتزان”'". قد يبدو هذا فجاء لكن آنذاك 
كان التباين بين استبصارات السيكولوجيا العقلية ونظيرتها الاقتصادية يُعلن 
صراحة. ووفقا لفونت فإن استجاباتنا الانفعالية الغريزية حاسمة في تحديد 
اختياراتنا. البشر أكثر تعقيدا من مجرد آلات حاسبة للذة. وقد كشف بزوغ 
التجريب السيكولوجي كيفية ذلك. 


29 





صناعة الشعادة 

لقد أصبح موقع فونت في التاريخ مضمونا بفضل إفساحه المجال للأدوات 
التجريبية كي تتجاوز دراسة الجسم البشري إلى منطقة كان يهيمن عليها الفلاسفة 
في السابق. لقد تخيل كثير من الفلاسفة والاقتصاديين أدوات تستطيع قياس الفكر. 
لكن فونت كان في الواقع هو من بناها واستخدمها. ولم يكن المسار الذي نحته بين 
الفيسيولوجيا والفلسفة ممكنا لولا هذه المعدات الجديدة والسلطة التي ادعاها 
لنفسه في تطبيقها في أثناء دراسة عقول أخرى. اليوم. قد يبدو علم الأعصاب أنه 
يضع نهاية لمشروع فونت؛ إذ م نعد في حاجة إلى الدخول إلى العقل عبر العيون 
أو أي أجزاء أخرى من الجسم. بل نعتقد أننا نستطيع الذهاب مباشرة إلى الدماغ. 
ونتيجة لذلك أصبحت فكرة العقل, بوصفه كيانا يمكن معرفته وهو على رغم ذلك 
غير ماديء: محلا للتساؤل. 

وحتى الآن؛ انطوت مقاربة فونت على أمانة علمية؛ إذ لم يزعم قط الإفلات 
من معضلات فلسفية عميقة. حيث إن العقل م يكن قابلا للانحصار في الجسد. 
لكنه لا ينفصل عنه بالكلية أيضا. فالتفكير والوعي بممارسان تأثيرا في تصرفاتنا 
والأعراض البادية على أجسامناء وإرادتنا الحرة ليست وهما. لذلك السبب 
رفض فونت تطهير السيكولوجيا من اللغة الفلسفية؛ وهو ما أزعج إلى حد كبير 
مجموعة بعينها من طلابه. 


جعل مختبر فونت منه واحدا من المشاهير الأكاديميين. وجعله محط إعجاب 
زوار لايبزيغ وعرابا جذابا لشباب الباحثين الطموحين. فتوافد خريجون عديدون 
للعمل مع فونت الذي أشرف على إتمام 187 رسالة دكتوراه مذهلة على مدار 
حياته المهنية. وصارت لايبزيغ خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر حلقة 
الاتصال بالنسبة إلى أي مهتم بميدان علم النفس التجريبي الناشئ. 

تصادفت هذه التطورات العلمية داخل أطانيا مع الفترة التي شهدت التحولات 
الكبرى في تاريخ أمريكا. ففي الفترة بين العامين 1860 و1890 بلغ عدد سكان 
الولايات المتحدة ثلاثة أضعاف ما كان عليه بسبب تدفق المهاجرين إلى داخل المدن 
بشكل كبير. وشهدت نهاية الحرب الأهلية هجرة عدد كبير من الأفروأمريكيين 


50 





في مزاج الشراء 


من ولايات العبيد السابقة إلى المدن التي تتجه إلى التصنيع بخطوات حثيثة في 
الشمال الشرقي والغيرب الأوسط. بالتزامن مع هذاء حدثت موجة غير مسبوقة من 
الاندماجات التجارية التي أدت إلى إنشاء ما نعرفه الآن بالشركات الحديثة. كان 
هذا يتطلب في المقابل تجهيز كادر جديد من المديرين المحترفين للإشراف على تلك 
المشاريع العملاقة. 

خلال فترة وجيزة نسبياء تحولت أمريكا من الاقتصاد الزراعي الذي يديره 
عدد صغير من أصحاب الأراضي الأنجلو - ساكسون (لايزال كثير من اللمحافظين 
يشتاقون إليه إلى اليوم) إلى الاقتصاد الصناعي المتمدن الذي تُحركه مؤسسات كبرى 
ثدار باحتراف. امتصت العمالة من أطراف فقيرة في أوروبا بسرعة هائلة. ما سبّب 
أزمة هوية عميقة بين مُلاك الأراضي والعبيد في مجتمع تأسس بناء على المشاركة 
الدمموقراطية المحلية. . 

إضافة إلى ذلك. حدث تطور آخر خلال هذه الفترة تمثل في تأسيس عدد من 
الجامعات الأمريكية الجديدة, من بينها كورئيل 1[ع025© وشيكاغو 011880 وجونز 
هوبكنز ومعامه11 وصطور[. ومنذ اللحظة الأولى أرست هذه المؤسسات علاقات 
وثيقة بعام الأعمال. تزايدت درجة قوتها بمرور الوقت وتنامي ثروة هذه الشركات 
وتبرعاتها. وتأسست أول كلية إدارة أعمال في العالم؛ وارتون بنسلفانيا دمغمهط/لا 
قنصة؟الإقصمء2: في العام 1 لدعم الطبقة الإدارية الناشئة. وقد تعاظم نهم 
الشركات للمعرفة التي يمكن استخدامها لاسيما فيما يتعلق بالمستهلكين'" مع 
تنامي حجم الأسواق المحلية بفضل اتساع شبكة السكك الحديد في أنحاء الولايات 
المتحدة. وكانت بعض تقنيات أبحاث السوق البسيطة في المتناول خلال ستينيات 
القرن التاسع عشرء بما فيها الاستفتاءات الاستطلاعية التي تجريها الصحف وتقنيات 
الدراسات المسحية الأولية إلى جانب تأسيس عدد قليل من وكالات الإعلان. بل 
كانت هناك كذلك بعض النظريات الأساسية بشأن سلوك المستهلك استعيرت من 
علم الاقتصاد بدرجة كبيرة. لكن كل ذلك كان مُجرد هراء. 

من سيدرس في كل تلك الجامعات الجديدة؟ ومن أين سيستقون معارفهم؟ 
كانت وتيرة نمو الجامعات الأمانية تتزايد هي الأخرى خلال هذه الفترة؛ فوفرت 
مصدرا مهما للتدريب العلمي لجيل جديد من الباحثين الأمريكيين. وخلال الفترة 


061 





صناعة الشعادة 


بين منتصف القرن التاسع عشر والحرب العالية الأولى» سافر خمسون ألف أمريكي 
إلى أطانيا والنمسا للحصول على درجات جامعية والتدريب على البحث العلمي 
ثم العودة بما تعلموه إلى الولايات اللتحدة2". يُشكل هذا واحدا من أكبر صادرات 
رأس امال الفكري في التاريخ» لاسيما في ميادين مثل الكيمياء والفيسيولوجيا وميدان 
السيكولوجيا الجديد. 

وجدت بين هذا العدد من الباحثين مجموعة من السيكولوجيين الأمريكيين 
حديثي السن نسبيا تتلهف إلى اكتشاف المزيد من التجارب الشهيرة في مختبر 
فونت. من بينهم: ويليام جيمس 13865[ 22ذ107111:, الأب الروحي لعلم النفس 
الأمريكي وشقيق الروائي هنري جيمس 9:265[ 1م116 ووالتر ديل سكوت ,18/8166 
6016 10111 وهارلو جيل 0816© 112:10 رائدا البحث السيكولوجي في مجال 
الإعلان. وجيمس ماكين كاتل [ا66ة) معععلء13/1 5 »:ء الذي أصبح شخصية 
ذات تأثير واسع في صناعة الإعلان في الماديسون آفنيو'* في نيويوركء وغرانفيل 
ستانلي هول 11211 تإعاصة)5 .6. مؤسس المجلة ربع السنوية «أميريكان جورنال 
أوف سيكولوجي» إج108هطع:زة2 06 006281[ موءلرعتصقء الذي ترك لنا مصطلح 
«الروح المعنوية» 840:216. : 

م تكن المدة التي قضاها هؤلاء الأمريكيون في أطانيا سعيدة تماما. في البداية, 
كان ويليام جيمس على علاقة بعيدة المدى بفونت, لكنه أضحى شديد الازدراء للغة 
فونت الغيبية المستمرة التي كان يعتبرها غير علمية وغامضة. أما هول فأصابته 
الرطانة الفلسفية بالهلع الشديد وسرعان ما انسحب عائدا إلى الوطن. هناك بعض 
الإرهاصات الدالة على أن العداء دنيء المستوى بين الزائرين ومضيفيهم كان مشتركا. 
فقد اشتى فونت من أن الأمريكيين هم رجال اقتصاد في الأساسء. يفترضون أن البشر 
عبيد لحوافز خارجية: وليست لديهم في الحقيقة أي إرادة حرة على الإطلاق. ووصف 
ماكين كاتل بال«الأمريكي القح» وهو الوصف الذي م يكن يُقصد به الإطراء بأي حال. 

لكن ما أبهر جيمس ورفاقه على أي حال هو التقانة التي جمعها فونت. كانوا 
ينظرون برهبة إلى المناظير التومضية ا معدلة بشكل رائع وأجهزة التوقيت الأخرى 








(*) ماديسون آفنيو #نادعة 381801508: أحد شوارع مانهاتن في نيويورك. ارتبط اسمه بصناعة الإعلان في الولايات 
المتحدة لوقوع الكثير من وكالات الإعلان فيه. [المحرر. 


82 








في مزاج الشراء 
التي وضعها فونت للعمل في مختبره الذي درسوا تصميمه ورسموا مخططات تصف 
ترتيبه. أغلب الخطاب الفكري المرافق لتلك الأجهزة ترك لحاله, لكن الإلهام كان 
بسبب الأجهزة والحيز اللذين استنسخ الزوار الأمريكيون أغلبهما فور رجوعهم إلى 
الوطن. في الحقيقة تشي مُختبرات علم النفس الأولى في هارفاردء وكورنيل» وشيكاغو. 
وكلارك 1351©: وبيركلي 86116616 وستانفورد بالتأثير الواضح لفونت”". بالإضافة 
إلى استنساخ مخطط البنى والكثير من الأجهزة. استدرج الأمريكيون عددا من 
طلاب فونت للسفر عبر الأطلسي؛ إذ إن جيمس أقنع هوغو مونستربيرغ 1180 
م86:21 بالهجرة إلى الولايات المتحدة حيث أسس أول مختبر لعلم النفس 
في جامعة هارفارد وواصل ليصبح شخصية بارزة في حقل السيكولوجيا الصناعية. 
كتب فريدريك نيتشه في كتابه الصادر في العام 1887؛ «جينيالوجيا الأخلاق» 
دوعولا أه برعم أدعدع0 عط 1: «ثر ى ماذا يريد هؤلاء السيكولوجيون الإنجليز 
بحق؟». كان المقصودون بالتساؤل هم أتباع بنتام وداروين آنذاك من أمثال سولي 
وجيفونز وإدجورث. لم كان هوسهم بفهم التقلبات باللذة؟ لو وجه السؤال 
نفسه إلى معاصريهم الأمريكيين خلال سعيهم المحموم إلى الحصول على مناهج 
وتصميمات يرجعون بها من أطانياء لكان التكهن بالرد أكثر يسرا. بعبارة صريحة. 
أرادوا توفير مجموعة من الأدوات للمديرين. 
ليس لعلم النفس الأمريكي إرث فلسفيء بل ولد داخل عام من الأعمال الكبرى 
والتغير الاجتماعي السريع المهدد بالخروج عن السيطرة. وم يكن هناك ما يبرر 
وجوده بالأساس ما لم يقدم حلولا للمشاكل التي تتعرض لها الصناعة والمجتمع 
الأمريكيان. هكذا كانت, على أي حالء النظرة التي عبر عنها زعماء الرابطة الجديدة 
من الجامعات الذين كانوا متعطشين لإرضاء رعاتهم من الشركات. فصدرت 
للسيكولوجيا في أوائل القرن العشرين إشارة صريحة للعمل باعتباره «العلم 
الرئيس» الذي سيتم من خلاله إنقاذ الحلم الأمريكي*". إذ لو أمكن اختزال صناعة 
القرار الفردي نفسه في علم طبيعي له قوانين شبه طبيعية وإحصائيات. فإنه 
آنئذ يظل من الممكن بالنسبة إلى ا مجتمع متعدد الجنسيات والإثنيات والصناعي 
والجماهيري القيام بوظائفه من دون التخلي عن التمسك بالمبدأ الجوهري للتنوير 
المتعلق بالحرية الذي قامت عليه الجمهورية. 


83 





صناعة الشعادة 

كانت الفترة بين إرساء أسس لعلم نفس أمريكي وتطبيقه على مشاكل الصناعة 
شديدة القصر. فلو أرخنا لبداية علم النفس الحديث بالعام 1879, حين رسم فونت 
حدودا رمزية حول مختبرهء فما هي إلا عشرون عاما أخرى قبل نشوء حقل علم نفس 
المستهلك. إذ عاد جيمس ماكين كاتل وهارلو جيل العام 1900 من لايبزيغ وأجريا 
تجاربهما الخاصة بمساعدة المناظير التومضيةء لاسيما ما كان من أجل فهم كيفية 
استجابة الأفراد لإعلانات مختلفة. وبالاستعانة بأدوات فونتء م يأملوا فهم ردود أفعال 
المستهلكين على إعلانات مختلفة فقطء بل انفعالاتهم كذلك. وأصدر والتر ديل سكوت 
أو ل كتابين كلاسيكيين عن نظرية الإعلان: «نظرية الإعلان» مه أو اخ 4ه بصمعطا, 
و«سيكولوجيا الإعلان» عصزس على كه ترههامطع تروط عط" في العامين 1903 و1908 
على الترتيب. كما دشن بعدها «المؤسسة السيكولوجية» لهءذعمه1مطعئرزوط عط) 
23 >2 وهي مؤسسة استشارية تكيف البحث الأكاديممي في خدمة الزبائن» 
بعد طرده من جامعة كولومبيا في العام 1917 نتيجة للعارضته التجنيد!*. 

ما كان أي من ذلك ممكنا لولا فونتء. لكن أولئك الطلاب السابقين كانوا أقل 
ولاء لإرئه. بل مع دخول أمريكا الحرب العالمية الأولىء شهد الشعور المعادي لأطانيا 
سعي الكثيرين من علماء النفس الأمريكيين إلى شطب فترة لايبزيغ من تاريخهه”"", 
حيث اعتقدوا أنهم وضعوا فونت وماورائياته خلفهم: وأن الطريق أمامهم كانت 
علمية بشكل لا لبس فيه. م تكن مصادفة قط أن هذا ما كانت الشركات الأمريكية 
ترغب في سماعه تحديدا. وكان ويليام جيمس قد عبر قبيل وفاته بفترة قصيرة 
عن أسفه الشديد لما آل إليه علم النفس الأمريي المعادي للفلسفة. كان قلقا من 
المغامرة بطمس أسرار العقل وعفويته من خلال التشديد المبالغ فيه على الملاحظة 
والقياسء لاسيما حين يكون في خدمة النشاط التجاري. لكنء بذلك المعيارء كانت 
الأحعوال على وشك أن تسوء بدرجة أكبر بكثير. 

هل من المستطاع دراسة البشر وفهمهمء من دون السماح للفاهيم مجردة مثل 
الإرادة أو الخبرة أن تتدخل في تقييم المرء؟ وهل يمكن فهمهم من دون إعطائهم 





(*) كان كاتل قد خاطب الكونغرس معارضا إرسال المجندين إلى القتال في الحرب العالمية الأولى. فطردته الجامعة 
بزعم كتابة هذه الرسائل على أوراق الجامعة الخاصة, لكنه قاض الجامعة وحصل على تعويض. [المترجم]. 


54 





في مزاج الشراء 


الفرصة للتعبير عن أنفسهم؟ ربما كان ما يأمله عدد كبير من أبناء الجيل الأول من 
علماء النفس الأمريكيين هو أن تكون الإجابة عن هذين السؤالين بنعم, بالنظر إلى 
تشبثهم بأجهزتهم المختلفة للقياس وعدادات الوقتء لكن ظل التأرجح باقيا. ربما 
نأوا بعيدا عن الفلسفة أو الاستبطان. لكن موضوعات دراساتهم كالانتباه والانفعال 
ظلت مجردة كما هيء وتفترض ما هو إنساني بالفطرة. مع ذلك كان ثمة خيار آخر 
م يضعوه في الاعتبار: ماذا لو كان السيكولوجيون يحاولون نسيان أنهم يدرسون 
البشر من الأساس؟ ظ 


اختراع السلوك الإنساني 

في العام 1913 ألقى متخصص في علم نفس الحيوان يُدعى جون ب. واطسون 
ده5غة .8 صطه[ محاضرة في جامعة كولومبيا هي بمنزلة البيان الرسمي للتقاليد 
العلمية الأكثر تأثيرا في القرن العشرينء ألا وهي السلوكية. كان واطسون يعلن بجلاء 
تفوقه وتفوق النظرية» لا داخل علم النفس الأمريكي بل داخل مساحات مختلفة في 
السياسة والإدارة مما كان في حاجة إلى الصياغة”". «لو قدّر لعلم النفس أن يلتزم 
بالتصور الذي أقترحه. فسيصبح في مقدور مربي والفيزيائي والفقيه القانوني ورجل 
الأعمال استخدام بياناتنا بطريقة عملية بمجرد حصولنا عليها تجريبيا». يصعب 
تخيل عرض أكثر صراحة للتواطؤ العلمي مع السلطة. 

أصبح واطسون في غضون عامينء عقب خطبة كولومبياء رئيسا لاتحاد علماء 
النفس الأمريكيينء واللافت أنه لم يكن قد درس إنسانا واحدا قط حتى هذه 
اللحظة. لو كانت غاية علم النفس الأمريكي هي تبني طرائق فونت ثم التخلص من 
كل الرطانة الميتافيزيقية, فإن ترقية رجل أجرى كل تجاربه على الفثران البيضاء إلى 
المنصب الأرفع كان عملا فذا لا نظير له. 

في أوائل القرن الحادي والعشرينء أصبح مصطلح السلوكية في كل مكان. 
يشغل تغيير السلوك عقول صانعي السياسة في مسعاهم إلى مكافحة السمنة. 
والتدهور البيئي؛ وعدم المشاركة المدنية. كما تزعم سلوكيات الصحة اللمتعلقة 
بالتغذية وممارسة الرياضة الإمساك بمفتاح السيطرة على الميزانيات المتصاعدة. 
ويشير علم الاقتصاد السلوي والتمويل السلوثي إلى الطرق التي يخطئ الناس عبرها 


85 





صناعة السشعادة 


تقدير الاستخدام الأمثل لوقتهم ونقودهم, كما شاع من خلال كتاب «الترغيب» 
ءع0** الذي يقدم مؤلفاه النصح للرؤساء حول العالم. ذلك أننا نستححث كي 
نتعلم حيّلا نبدل بها سلوكنا (أو ننكز أنفسناء وفق صياغة بعض الخبراء). لنساعد 
أنفسنا في أثناء سعينا إلى تحقيق أنماط حياتية أكثر فعالية ومرونة7". 

كانت الحكومة البريطانية قد افتتحت في العام 2010 «وحدة استبصارات 
سلوكية» لتوظيف مثل تلك النتائج في صناعة السياسة. وقد حققت هذه الوحدة 
نجاحا كبيرا لدرجة أن جزءا منها قد خخصخص لتمكينها من تقديم استشارات 
تجارية للحكومات حول العالم. وأدت منحة تقدر بسبعة عشر مليون دولار 
قدمتها أمانة عائلة بيرشنغ سكوير 356ناو5 وصنطومءط الخيرية!**! إلى إطلاق 
مبادرة مؤسسات هافارد للسلوك الإنساني التي تستهدف الدفع بعلم السلوك إلى 
المستوى التالي. إن علوم الدماغ تشغل ميدان الاستقصاء الراهن عما يقودنا حقا 
إلى التصرف بهذه الطريقة. 

مضمون هذين المشروعين السياسيين واحد: وهو أن النشاط الفردي قد ينحرف 
باتجاه غايات تختارها قوى نخبوية. لكن من دون قسر واضح أو تشاور ديموقراطي. 
تبسط السلوكية حلم بنتام الخاص بسياسة علمية إلى أقصى حدء من خلال تصور 
أنه أسفل وهم الحرية الفردية تقبع آلية السبب والأثر الباردة, والتي لا تلاحظها إلا 
العين الخبيرة. إننا حين نؤمن بالحلول السلوكية نفرغها من الجوانب الدموقراطية 
وندفع بها إلى حيز مساو وعلى النقيض منها. 

حتى عشرينيات القرن الماضي» م يكن مصطلح السلوك 8627108 يرتبط 
بالبشر على الإطلاق. بل كان الحديث عن سلوك نبات أو حيوان أمرا معقولا تماما. 
وربما استخدم الأطباء المصطلح للإشارة إلى سلوك جزء أو عضو معين بالجسم*". 


(*) العنوان الكامل للكتاب هو: «الترغيب: تحسين القرارات اللمتعلقة بالصحة والثروة والسعادة» :عم200 
ودعسصتمصة11 مضه ,طتلدء/16 ,طغلدء1] سمط4 مصوزوءء<1 ومتكمءم دول للمؤلفين من جامعتي شيكاغو وهارفارد: 
ريتشارد ثالر #علهط؟ .11 لمهطء21 وكاس سنستاين صاءاكمد5 .10 5و©. اعتمدت هذا الكتاب إدارتا أوباما وديفيد 
كاميرون بالولايات المتحدة وبيريطانيا. يعتمد الترغيب على العمليات الصغيرة ذات التكلفة المحدودة والفعالية 
الكبيرة. بهدف تغيير سلوكيات الناس من دون الحد من خياراتهم بشكل جذري. [المترجم]. 

(*#*) بيرشنغ سكوير 50186 عصتطوءع2: مؤسسة لدعم الابتكار في مجالات التنمية الاقتصادية والتعليم والرعاية 
الصحية وحقوق الإنسان والفنون والتنمية الحضرية؛ أسسها بيل آكمان صقتععاءة 8111 وزوجته كارين آكمان معنة»1 
منقساءهة في العام 06 [المترجم]. 


56 





في مزاج الشراء 
يطلعنا هذا على أمر مهم يتعلق بالإغراء المعاصر للعلم السلوي؛ فحين نستحضر 
هذا الباب لا نصادف تمييزا ممحددا يقول إن السلوك محل البحث صادر عن شخص. 
في مقابل أي شيء آخر يتفاعل مع مثير ما. يعتقد الباحث السلوك أن الملاحظة يمكن 
أن تطلعنا على كل ما نحتاج إلى معرفته, في حين يمكن تفادي تأويل وفهم الأفعال 
والخيارات تماما. 

هذا بالضبط ما جعل واطسون يؤمن بأن المفهوم يحمل مثل هذا الوعد الهائل 
لعلم النفس لو كان جادا في ما يخص التحول إلى علم. وفي العام 1917 (العام الذي 
شهد انتقاله إلى دراسة البشر) أوضح موقفه بشكل موجع: 

لن يصادف القارئ نقاشا للوعي أو أي إشارة إلى مصطلحات مثل 
الإحساس والإدراك والانتباه والإرادة والصورة2*0 وما شابه ذلك. تحظى 
هذه المصطلحات بسمعة جيدة, لكنني اكتشفت أنني أستطيع المضي 
في تنفيذ أبحائي وتقديم السيكولوجيا إلى طلابي بوصفها نظاما من دون 
هذه ا مصطلحات. وبصراحة, أنا أجهل ما تعنيه هذه الكلمات*", 

م يكن هذا اتجاها مضاد! للفلسفة, بل مضاد للسيكولوجيا في واقع الأمر, 
على الأقل بالمعنى الذي نفهمها به. كان تسفيهه المفاهيم العقلية المجردة - مثل 
الإحساس والإدراك... - يحمل أصداء قوية لبنتام» لكن الأخير لم يكن لديه مختبر 
سيكولوجيء كما عجز عن الاستمرار لولا بعض التأملات بشأن طبيعة الدوافع 
البشرية. أما واطسون فكان يستدعي حيلة زملائه: إن كنت ترغب حقا في أن تصبح 
علما صحيحا نقيا من الميتافيزيقا؛ فعليك إذن أن تتخلى عن كل ما لا يمكن ملاحظته 
بطريقة علمية. سيصبح البحث عن واقع علمي موضوعي للنفس الآن حرزا مقتصرا 
على المتخصصينء والمجهّزين بمعدات متخصصة. 

لكن واطسون سدر في غيه؛ ذلك أنه أعلن أن التفكير نشاط قابل للملاحظة 
مثله مثل البيسبولء وسخر من اميزة التي ربطها الفلاسفة بالتجربة الذاتية. واشتهر 
بإعلانه أنه ما لم يكن لأشياء كالشخصية أو القدرة الفطرية وجود؛ فإنه يستطيع أخذ 
(*) يُقصد بها الصورة 1:58 التي يرسمها الشخص لنفسه والتي تتكون مبكرا في عقله منذ الطفولة: أما التصور أو 


الصورة الذهنية فهو ظاهرة لها تأثير في السلوك وصفها شلدر :56106 2 في كتاب «الصورة ومظهر الجسم البشري» 
'إل80 سقصن1]1 غه عمصقعةء درف لصة ععقد] عط" . [المترجم]. 


57 





صناعة الشعادة 
طفل من أي خلفية وتحويله إلى رجل أعمال أو رياضي ناجح من خلال التشريط 
البحت. كان البشر يشبهون الفثران البيضاء التي تستجيب لبيئتها ولأي مثير 
يعترض طريقها. وأفعالنا لا يمكن أن تُعزى بصورة علمية إلينا بوصفنا أشخاصا 
مستقلين ذوي تفكير حرء بل هي غير قابلة للتفسير إلا من ناحية جوانب أخرى في 
بيئتنا أو عوامل بيئية سابقة مرنتنا على التصرف بتلك الطريقة. 

ثمة ما هو شديد الإغراء في تلك الرؤيةء وهو ما قد يعلل شعبيتها المستمرة على 
الرغم من نموذجها التكنوقراطي. إن الترغيب قد انتقد بناء على الأبوية. لكن بطبائع 
الأمور يمكن للأبوية أن تكون مريحة أيضا. فالشعور بأن ثمة من يتخذ القرارات 
المهمة. وأننا معفون من تحمل المسؤولية الكاملة عن أفعالناء قد يُشكل مصدر 
ارتياح. كما قد تمثل معرفة أنني محوسب أو خاضع للتشريط لاتخاذ قرارات بعينها 
استراحة مرحبا بها من مطلب ممارسة الإرادة الحرة الحديث والمستمر. إذ لو كانت 
بيئتنا وطبيعتنا أو تنشئتنا هي ما تشكل أفعالناء فإننا حينئذ نكون على الأقل جزءا 
من جماعة أكبر حتى وإن لم تكن واضحة إلا للخبراء. المشكلة أننا لا نعي في الأغلب 
ماهية ما يريده هؤلاء الخبراء. 

كان ظهور واطسون على المسرح الأكاديمي نذيرا باندلاع نار في اللغة الميتافيزيقية. 
كذلك سيطر علم السلوك على جميع الليادين العلمية المنافسة (كعلم الاجتماع 
والإدارة والسياسة العامة) أو دمرها تماما بكل بساطة (المصير المراد للفلسفة). هل 
كان هذا حقا تقدما فكريا من أي نوع؟ فقط في حال كان يُنظر إلى العلوم الطبيعية 
باعتبارها النموذج الوحيد لنقاش أمين ومعقول. لقد أكنْ برنامج واطسون احتراما 
أكبر لإمكانيات التقانة يفوق ما لدى أسلافه عقب رجوعهم من لايبزيخ. 

إن ما كان يعد به واطسون بشكل فعال هو: أن الملاحظ السيكولوجيء حين 
يستخدم قوى التجريب الفريدة, فإنه سيكشف كل ما يمكن معرفته عن البشرء 
بحيث تغدو جميع المزاعم الأخرى (كالتي يطلقها الشخص المفحوص) تماما غير 
ذات صلة. بهذا المعنىء لمم تكن السلوكية ممكنة لولا إعادة تأسيس ممارسة 





(*#) يقصد بالتشريط ق8ضندطده4016همن ارتباط الاستجابة بالمثير. وهي من أسس نظرية التعلم ويعد الفيسيولوجي 
الروسي إيفان بتروفيتش بافلوفر (1936 -1849) 87107 8 .1 أول من أجرى تجارب التشريط. [المترجم]. 


58 





في مزاج الشراء 


السيكولوجيا بناء على اختلال توازن جوهري للقوىء بين منزلة السيكولوجيين 
ومنزلة الشخص العادي. | 

أصبحت السيكولوجيا بين يدي واطسون أداة لتلاعب المختصين. كان فونت قد 
افترض أن إجراء التجارب على مفحوصين يدركون ما يُختبر أكثر كشفاء وهو السبب 
الذي دفعه إلى إجراء التجارب على طلابه وزملاثه: إِذْ يمكنهم الإسهام في البحث من 
خلال استبصاراتهم. لكن واطسون افترض العكس؛ إِذْ من أجل الكشف عن طريقة 
استجابة الحيوان البشري على مثير مختلفء بل وإعادة برمجته للاستجابة بشكل 
مُغاير. فمن الكاشف أكثر الاستعانة بمفحوصين يجهلون كليا ماهية ما يختبر وكيف 
يُختبر. ربما يضمن ذلك أيضا قدرة السيكولوجيا على الوفاء بوعد توفير نفع عملي 
في أيادي المسوقين وصناع السياسة والمديرين. فلو كان للسيكولوجيا أن تساعد في 
الحفاظ على كتلة المجتمع الأمريكي المركبة مترامية الأطراف تحت سيطرة ماء فلا 
نفع إذن من وراء تلقي استبصارات من دراسات لا تصلح إلا فيما يتعلق بعلماء 
النفس الآخرين. 

لهذه الأسباب تصطدم السلوكية لا محالة بمشاكل أخلاقيات البحث العلمي. إِذْ 
لا تسعى التجارب السلوكية إلى التلاعب فقطء بل يتخللها بعض من الخداع أيضا. 
فحتى حيث تُستخدم الموافقة المطلعة. لا بد أن يظل المفحوصون جاهلين إلى حد ما 
بماهية ما يجري اختباره بالضبط. وإلا فسيبرز الخوف من احتمال تعديل سلوكهم 
بالتبعية. إن الغاية هي خفض الفهم الواعي لطبيعة ما يجري. 

مع ذلك - إن كان لايزال نمة مجال للتفكير في هذه الطريقة - يبرز تناقض 
فلسفي مألوف من جديد. هل ألغي العقل الواعيء؛ الناقد. المستقل حقا من هذا 
العلم السيكولوجي؟ ففي قلب وجهة النظر السلوكية لا يختلف عموم الناس عن 
الفئران البيضاء التي تنعدم لديها فعليا سيرورات التفكير الداخلية» إلى أن تصبح 
قابلة للملاحظة بطريقة ما. لكن أفكار السيكولوجيين أبعد من أن تكون عرضية 
وهي تتواصل من خلال المقالات الأكادممية وال محاضرات والكتب وتقارير السياسة 
والحوارات. إن السلوكية لا تفلح إلا في استبعاد جميع أشكال النظرية أو التأويل. 
لدرجة أنها تخص بالتفضيل وجهة نظر فرع معرفي ومهنة بعينهماء وتسقط كل ما 
عداهما. في هذا الصدد. لن يُفلح اجتثاث الميتافيزيقا إلا بوصفه مشروعا سياسيا 


09 





صناعة الشعادة 


ملموسا لا تمتلك فيه الأغلبية الساحقة للبشر رأيا مشروعا (سواء كان علميا أو 
خلافه) يؤخذ في الحسبان. 


الحيوان ا مشتري 

أصبحت السلوكية جاهزة للزبائن من الحكومات والقطاع الخاص. وم تكن في 
حاجة إلى الكثير من العون كي تنتشر في الماديسون آفنيو وما بعده. على رغم تسارع 
وتيرة الرحلة نتيجة فضيحة مهنية. ذلك أنه خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية 
الأولى أصبح واطسون أكاديميا بالغ الشهرة في جامعة جونز هويكتز, ليحصل على 
كبرى المنح البحثية والزيادات في الأجر. لكن تبين في العام 1920 أنه كان على علاقة 
بطالبته ومساعدته الشابة حديثة التخرج؛ روزالي رابئر 2 تعصوةظ 116هة20 . ولسوء 
حظه. كان آل راينر من ابر ولاية ماريلاند 4صدانومة] المحترمة صاحبة التبرعات 
السخية لجونز هوبكنز. انتشرت الأنباء سريعا عبر الصحف القومية التي نشرت 
واحدة من الرسائل المتبادلة بين واطسون وراينر. 

مم يملك بعض الراقبين» نظرا إلى النظرة العدمية للطبيعة البشرية التي كانت 
تعزز برنامج واطسون البحثيء إلا بناء صلة. فكان لزميله أدولف ماير 40016 
16 الذي سيحظى فيما بعد بتأثير بالغ في مهنة الطب النفسي الأمريكي. 
هذا الرأي: : 

لا أملك إلا أنْ أرى في المسألة برمتها شاهدا عمليا على الافتقار إلى 
مسؤولية اعتناق فلسفة واضحة؛ وعلى نتائج عدم تمييز ال معاني؛ وعلى 
تأكيد تخليص العلم من الأخلاقيات7”. 

أخفق واطسون بجلاء في تجنب «الاستجابة» للمثير المادي الذي تجسّد في 
روزالي راينرء لكن السلوكية م تقبل بهذا باعتبارها دفاعاء فطردته جامعة جونز 
هوبكنز ليغادر بالتيمور :88181500 متجها إلى نيويورك. 

كانت صناعة الإعلان بحلول العام 1920 قد أضحت واعية تماما بالثروة ا ممكنة 
التي يقدمها علم النفس. وفي طليعة هذه الحركة برزت شركة الإعلان جيمس والتر 
تومبسون 150120502" 7881612 .[ التي كان رئيسها آنذاك هو ستانلي ريسور 
50 (إع1[صة5 الذي تعهد بتحويل شركته إلى «جامعة تختص بالإعلان». كان 


90 





في مزاج الشراء 

الإعلان العلمي شديد الرواج» وكان ريسور بالأخص متفائلا بشأن الاحتمالات 
الناشئة. وكان يُجادل بأن: «الإعلان عمل تربوي؛ تعليم جماهيري». وأن حملات 
الإعلان الكبرى في المستقبل ستحمل رسائل مباشرة إلى مستقبليها السلبيين الذين 
. سيستجيبون لها بالتبعية خلال عاداتهم في التسوق. ما كانت هذه الجامعة في 
حاجة إليه هو العلماء كي يزودوهم بالبيانات المتعلقة بكيفية تنفيذ هذا. 

كان ريسور تحديدا يبحث عمن يستشيره بشأن سيكولوجيا الاستمالة. معتقدا 
أن الإعلانات الناجحة تفجّر تلك الاستجابة الانفعالية المطلوبة. ربما بسبب إدراكه 
أنه محتاج إلى باحث ذي أخلاق مرنة اتصل أول الأمر بأكاديمي نالته الفضائح هو 
الآخر أخيراء هو ويليام إسحق توماس 25تقمط]' .1 دهدذ18!1 الذي طرده قسم 
السوسيولوجيا في جامعة شيكاغو بسبب علاقة زنا. رأى توماس في الإعلان صناعة 
شديدة الوضاعة, فمرر الدعوة إلى واطسون الذي كان صديقا شخصيا له. هكذا عثر 
ريسور على ضالته. 

في ذلك العامء التحق واطسون بوكالة جيمس والتر تومبسون باعتباره مسؤول 
الحساب التنفيذي 1576]ناء<© 4نامء30 براتب يبلغ أربعة أضعاف ما كان يتقاضاه 
في جونز هوبكنز. كان عليه. ضمن مهمات منصبه الجديد. الخضوع لبعض التمرين 
الذي يشمل السفر إلى المناطق النائية في تينيسي 18726556" كي يحاول بيع القهوة 
والعمل عدة أشهر في خزانة ماسيز به245!*' في نيويورك. بتلك الطريقة 
المعهودة, أصبح في مستطاعه البدء بتطبيق مذهبه السلوي في تصميم الحملات 
الإعلانيةء وتقديم النصح لزملائه في الوكالة بشأن كيفية إثارة الاستجابات المطلوبة. 

ناشد واطسون زملاءه المعلنين أن يكون أهم ما عليهم تذكره. هو أنهم لا 
يبيعون منتجا على الإطلاقء بل يسعون إلى إنتاج استجابة سيكولوجية: وامْنْتَج ليس 
إلا وسيلة للقيام بذلك إلى جانب الحملة الإعلانية. أما المستهلكون ففي المستطاع 
تكييفهم للقيام بأي شيء إذا صَممت العوامل البيئية بالطريقة الصحيحة. كان 
واطسون يُحذّْر من السعي وراء رغبات وانفعالات المستهلك الموجودة بالفعل, 
بل ينبغي تفجير رغبات وانفعالات جديدة. وقد اكتشفء كجزء من عقد مع شركة 


ملسست لاسي 1ك ك0كك 


(*) سلسلة متاجر شهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية. [المترجم]. 


51 








صناعة السعادة 


جونسون أند جونسون 2هقصطهو[ 8 «دهقوصطم]. طرقا لتسويق مسحوق غسل 
تعتمد على الانفعالات التي تمر بها الأمهات مثل القلق والخوف والرغبة في النقاء. 
كما يُنسب إليه الفضل أيضا في إثبات أن مباركات المشاهير طريقة فعالة في تحقيق 
ارتباط المستهلك بالعلامات التجارية. 

كانت هذه بالضبط نوعية الرسائل والطرق التي كان ريسور يأمل الحصول 
عليها. في العام 1924.: عُين واطسون نائبا لرئيس الوكالة الإعلانية. هكذاء حين كان 
يطل على شارع ليكسينغتون عناهعنلة 108أم1.6»<12 من مكتبه الشاهق في مقر 
وكالة جيمس والتر تومبسون بالقرب من محطة الغراند سنترال [2:)مع0 01220 
10 فإنه يكون قد حقق شهرة وثروة تتجاوزان ما حققه أي سيكولوجي آخر 
بقي داخل الحياة الأكاديمية. 

لكن غطرسة واطسون كانت إشكالية. كانت التجارة شريكا في فكرة أنه في 
مستطاع علم النفس الكشف عن كل ما يحتاج المديرون إلى معرفته لبيع منتجاتهم 
بشكل فعالء لكن واطسون رغب في تأجيج هذا التفاؤل بشكل أكبر. فتبجح قائلا: 
«الحب والخوف والغضب لا يختلف في إيطاليا عنه في الحبشة أو كندا». كان واثقا 
بمعرفته الكيفية التي يفجر بها أي انفعال خلال أي موقف من خلال التصميم 
المجرد للمثير بالطريقة الصائبة. بالنسبة إلى المعلنين والعاملين في السوقء كانت 
هذه طريقة شديدة الإغراء لاستيعاب مهمتهم. لكنها كانت حركة في اتجاه واحد: 
يُطرح المثير السيكولوجي أمام عموم الناس؛ فيستجيبون تبعا لذلك داخل ممرات 
المتاجر الكبرى. لكن تُرى ماذا لو لم يستجيبوا على النحو المرغوب؟ ماذا لو لم يكن 
فهم واطسون الخاص للحب والخوف والغضب يتشابه مع فهم الآخرين لها؟ كيف 
تقف الشركات على حقيقة الأمر؟ 

كان من الضروري لإتمام علم الإعلان بناء شكل ما من التغذية الراجعة داخل 
النظام توفر معلومات للعاملين في التسويق. يمكن فهم ذلك أيضا في الإطار السلوي. 
بمعنى ما إذا كان إعلان ما يُثير استجابة معينة. على سبيل المثال يمكن أن تحتوي 
إعلانات الصحف على قسائم تخفيضات يمكن قصها لاستخدامها في شراء المنتج 
ا معلن عنه. في مستطاع آلية التغذية الراجعة هذه السماح للمسوقين باكتشاف 
ماهية الإعلان الذي يستثير الاستجابة المثلى. بعد سبعين عاما سيجعل صعود الإعلان 


592 





في مزاج الشراء 

عبر الإنترنت أو التجارة الإلكترونية مثل هذا التحليل السلوي لجدوى التسويق أكثر 
انتشارا؛ إذ يسهل تقييم استجابة الشخص عند رؤية إعلان ما من خلال عمليات 
النقر والشراء. 

بحلول العشرينيات أصبحت خطورة الطفرة العلمية التي اعتمد عليها كل من 
ريسور وواطسون تكمن في تغاضيهما عما يفكر فيه أو يشعر به الناس في الحقيقة, 
وثقتهما المبالخ فيها بقدرتهما على إملاء الاستجابات الانفعالية من العدم. م يكن في 
مقدور الشركات الأمريكية الاعتماد على هذه الوثبة الإيمانية وحدهاء وكانت النظرة 
العلمية الراديكالية السلوكية للعقل تقول إنه ما من شيء يخشى منه هنا. ما من 
شيء مستتر خفي داخل تجاويف العقل يمكن لعلماء النفس ملاحظته. الحقيقة أن 
فكرة العقل نفسها كانت مُجرد إلهاء فلسفي. 

كان القلق الذي تولد عن هذه الأفكار هو احتمال أن تغدو علامة تجارية ما (أو 
فيما يتعلق بهذا الشأن. رجل سياسة أو أيديولوجيا أو سياسة ما) غير جذابة بشكل 
واضح للعامة في حين يخفى على العلماء والنخبة. كما كان علم الرغبة يتطلب هو 
الآخر اكتشاف ماهية ما يحتاج إليه الناسء والتعرف على ما يأملونه إضافة إلى 
محاولة تشكيله. كان القيام بهذا يتطلب تقنية سيكولوجية غير عادية أمل واطسون 
في التخلي عنها: التحدث إلى الناس. 


دمموقراطية خاطفة 
لم يكن في وسع واطسون إغفال ميل البشر إلى الكلام: وقد أشار إلى هذا الميل 
باعتباره «سلوكا لفظيا». بل كان مستعد! لقبول أن بإمكان هذا السلوك تأدية دور 
في البحث السيكولوجيء وإن كان دورا باعثا على الأسف الشديد. في هذا الشأن 
يكتب راثيا: 
نعاني أشد ما تكون المعاناة في علم النفس اليوم بسبب الافتقار 
عموما إلى وسائل ملاحظة ما يجري داخل اليكانيزمات الداخلية لفرد 
آخر. لهذا السبب نضطر إلى الاعتماد جزئيا على الأقل على ما يقوله 
بشأن ما يحدث. إننا نفلت شيئا فشيئا من هذه الطريقة غير الدقيقة؛ 
وستتسارع وتيرة إفلاتنا حين تصبح الحاجة أكثر اعتيادية إجمالا2". 


53 





صتاعة السحسادة 


إن ما أطلق عليه بنتام «طغيان الأصوات» يُحبط السلوي بقدر ما يُحبط 
النفعي. اليوم. يعيش مبرمجو الوجوه والمسوقون العصبيون ومتتبعو العيون حلم 
واطسون ب «الإفلات» من التقارير الذاتية عن الخبرات النفسية؛ والعثور على ما 
يُفترض أنها طرق أكثر موضوعية إلى حالاتنا الداخلية. 

قبل أن يحقق علم النفس السلوي أو أبحاث السوق هذا الانفصال الفذء ألفيا 
نفسيهما داخل حلف غير عادي بعض الشيء. في أثناء ذلك أصبحت المؤسسات 
التجارية تعي أن البشر ليسوا مستقبلين سلبيين للتربية أو امثير الرأسماليء بل 
فاعلون ‏ سياسيون ناشطون من حيث المبدأ لديهم اجتهاداتهم بشأن العالم. وإذا 
كانت المهمة هي التعرف على ما يشعر به؛ أو يحتاج إليه؛ أو يفكر فيه الناس» فإن 
الذهاب إليهم وسؤالهم يهدد بالكشف عن استجابات أكثر راديكالية مما كانت 
وكالة جيمس والتر تومبسون أو واطسون على استعداد للإقرار به. ثرى ماذا لو 
كانوا يتقززون من السلع المنتجة بشكل واسع؟ ماذا لو كانوا غير راغبين في مزيد 
من الإعلان؟ وماذا لو كانت لديهم, قبل كل شيء. رغبة في أن يصبح لهم صوت؟ 

مع اجتياح صرعة التحليل السيكولوجي المؤسسات التجارية الأمريكية خلال 
عشرينيات القرن الطاضي» انتبهت مؤسسات مثل روكفيلار 101161165 وكارنيغي 
عنععدئة0 يلأهمية تمويل أشكال مُعاصرة من أبحاث السوق. وكان خبراء الإحصاء 
قد ابتكروا من فورهم طرقا لاختيار العينات بطريقة عشوائية حسنت بشكل كبير 
سطوة الدراسات المسحية باعتبارها تمثيلات لعدد كبير من السكان”". وقبل أن 
تصبح طرق اختيار العينات متاحة. كانت الدراسات المسحية قد تعرضت لتشوه 
هائل فيما يتعلق بهوية من يتصادف أن يرد عليها. كانت تفوح منها رائحة الرأي, 
لكن هذا ما لا يمكن اعتباره نموذجيا. لذا عرضت المؤسسات تمويل الباحثين القادرين 
على وضع تقنيات اختيار العينات الجديدة للعمل في خدمة استخبارات أفضل 
عن السوق لمصلحة الشركات الأمريكية. لكن اكتشاف أن أغلب الأفراد أو الهيئات 
القادرة على إنتاج هذا النوع من المعرفة هم من النشطاء السياسيين والاشتراكيين 
وعلماء الاجتماع: أصابهم بالإحباط*. 

منذُ إجراء الدراسات المسحية الاجتماعية أول مرة في أوروبا في ثمانينيات القرن 
التاسع عشرء كانت تنزع إلى أن تُجرى سعيا وراء البرامج السياسية التقدمية. وقد 


54 





في مزاج الشراء 

هيأ كل من تشارلز بوث ط5غه800 وع[مقط© في إيست لندن. ودو بويز 5ذه8 بادآ في 
فيلادلفياء الأجواء للبحث السوسيولوجي الكمي الذي سيخرج ويكتشف الطريقة 
التي يحيا بها الناس العاديون من خلال ملاحظتهم داخل بيثاتهم المحلية وطرح 
الأسئلة عليهم. وازدادت احترافية تقنيات تنفيذ هذا العمل مع تأسيس مؤسسات 
تقدمية مثل كلية لندن للاقتصاد و5عنتصمصمء8 4ه أه0مطء5 1,0200602 ومعهد 
بروكينغز 125]1)806 وع8 820012 156' في واشنطن العاصمة. 

ومع التطور الذي شهدته التقنيات الإحصائية في البحث الاجتماعي. صارت 
مادة فتن بها عموم الناس. وأصبحت إحدى الدراسات التي مولتها مؤسسة روكفيلار 
هوسا قومياء وطرحت للنقاش في كل وسائل الإعلام الرئيسة. حيثٌ أدت الدراسة 
التي أجراها زوجان اشتراكيان هما روبرت وهيلين ليند 50تآ] معاع11 لصة غرءعطه8 
بدءا من العام 4 بعنوان «دراسات ميديلتاون» 5610165 08052غ)8110016: إلى 
إنتاج سلسلة من الكتب التي حققت أعلى مبيعات. كان البحث يزعم الإمساك 
بمرآة للمجتمع الأمريي تكشف تفاصيل دقيقة. عادية وساحرة في آنء بشأن 
الطريقة التي يدير بها الناس شؤونهم اليومية. كان الباحثان يأملان أن يقرأ الناس 
تلك الدراسات ويتصدوا للثقافة الاستهلاكية التي كانت تبتلعهم. 

لقد اعتقدت مؤسسة روكفيلار أنها تساعد على تحديد طرق جديدة تربط 
القيم الاجتماعية بمصالح الشركات: وتصور الزوجان ليند أنهما يساعدان على 
النهوض بوعي طبقي. وحين يتشابك السوق مع الاشتراكية الديموقراطية يصبح 
في مستطاع تقنيات الدراسات المسحية الجديدة خدمة كلا الهدفين في الآن ذاته. 
وقد أعلنت صحيفة تختص بالمبيعات عقب صدور تتمة للدراسة الأولى في العام 
7 يبعنوان ده اتعصة” صذ صعرهغ 810016 أن: «الكتابين الوحيدين اللذين 
لهما ضرورة مطلقة بالنسبة إلى العاملين في مجال الإعلان هما الكتاب المقدس 
والميديلتاون!»”©. لقد نشأ شكل جديد من الوعي الذاتي القومي ال مشتركء. وآثاره 
السياسية غير محددة على الإطلاق. 

أصبحت هذه الأنواع من الاصطفافات الأيديولوجية ال مستبعدة أبرز سمات 
الطريقة التي ستتقدم بها الدراسات المسحية السيكولوجية في أثناء ثلاثينيات القرن 
الماضي. فراحت تقنيات البحث نفسها تتنقل بسهولة تامة بين أقسام أبحاث السوق 


55 





صناعة الشعادة 


وعلم الاجتماع والحملات الاشتراكية ووسائل الإعلام. في واحد من أكثر التوازنات 
الأيديولوجية تطرفاء كلف ثيودور أدورنو ممصعملق +ملمعط1: الماركسي اللاجئ» 
وعضو مدرسة فرانكفورت؛ بالعمل في مشروع بحثي آخر مولته مؤسسة روكفيلار 
لدراسة جمهور إذاعة سي بي إس 085 إلى جانب عالمي النفس هادلي كانتريل 
لتخصةن ,2201 وبول لازارسفيلد 1.222:51614 لدسه2 ورئيس 0185 في المستقبل؛ 
فرانك ستانتون هه:صة؛5 علصهء8. لم يكن لأدورنو أي اعتراض مباشر على استخدام 
طرق الدراسات المسحية التي رأى فيها تحررا مُحتملا؛ إذ أدرك أنه في مستطاع 
الدراسات المسحية التصدي لهيمنة السوق باعتباره شكلا من أشكال التعبير 
الجماعي. لكنه سرعان ما أصيب بالفزع بسبب الجانب الأبسط في البحث والذي 
يُدعى فيه الأفراد إلى كبس أحد زري «أعجبني»»: أو «م يعجبني» في أثناء عزف 
مقطوعات موسيقية مختلفة: فغادر المشروع الذي أعيد تصميمه بسرعة لخدمة 
احتياجات قسم التسويق بال 685 بصورة أقرب. 

في بريطانيا كان عدد من المفكرين والمدافعين اليساريين في طليعة رواد أبحاث 
السوقء من بينهم الإنساني جوزيف رونتري 208256 05655[ ومستشار حزب 
العمال مارك آبرامز ودمهءطى 34:1 9. وكشأن الزوجين ليند انتقدت شخصيات 
مثل آبرامز الإعلان وثقافة الاستهلاك بكل صراحةء وعلى رغم ذلك لم يكفوا قط عن 
الاعتقاد بإمكانية استخدام أبحاث السوق على نحو أكثر نبلا. فمن خلال معرفة أكثر 
موضوعية بالطريقة التي يعيش بها الناس فعلاء ربما تتمكن المؤسسات التجارية من 
التركيز على خدمة رغبات وحاجات حقيقية. لا اصطناع رغبات وحاجات جديدة. 
هكذا أطلق مُعادل بريطاني لدراسات الميديلتاون» وهو «مشروع مراقبة الجماهير» 
اءءزم8 صمتكوصعو0 81655 غط1' العام 1937. 

في تحد للتحيز السلوكي القائل إن البشر مصمّمون كي يُيرمجواء صار أولئك 
ا متخصصون في الدراسات المسحية ينظرون إلى الأفراد بوصفهم حاملين لاتجاهاتهم 
الشخصية نحو كل شيء بدءا من كوكاكولاء مرورا بالكنيسة الكاثوليكية. وحتى 
الحكومة. كانت الاتجاهات ظاهرة سيكولوجية قابلة للقياس الكمي. فبصفتي 
شخصا ذا اتجاه. أستطيع أن أقول لك إلى أي مدى أنا معجب. بمنتج أو مؤسسة 
ما على مقياس يبدأ ب «5-» وينتهي ب «5+». لكن بشكل حاسم., وبطرق تتحدى 


56 





في مزاج الشراء 
التحيز السلويء أنا وحدي أفضل من يعرف ماهية هذا الاتجاه. وأي عام يتمنى 
معرفة هذا الاتجاه سيكون عليه سؤالي. كانت ماكينات كبس الزر لاستخلاص 
الاتجاهات (مثل الدودة!* التي تكشف مشاعر الحاضرين خلال مناظرة رئاسية, 
أو زر «أعجبني» في الفيسبوك) تسقط استخدام الكلام من بحوث الاتجاهات. لا 
حكم صاحب الاتجاه. هذه كانت المنطقة الديموقراطية الخفية الفاسدة بالكيفية 
التي تطورت بها أبحاث السوق في أثناء سيطرة الكساد الكبيرء وتنامي اهتمام 
النخب بما كان يشغل عقول الجماهير. 
لقد أصبح فهم اتجاهات جماهير الإذاعة وقراء الصحف ومن يملكون حق 
التصويتء. نشاطا تجاريا كبيرا خلال ثلاثينيات القرن المنصرمء كما أضحى سياسة 
كبرى أيضا. ففي العامين 1929 و1931 أمر الرئيس هربرت هوفر غ2:6»62ع11 
11007 بإجراء دراسات مسحية على النزعات الاجتماعية والعادات الاستهلاكية 
على أمل الوقوفء ولو جزئياء على مستوى الاضطراب السياسي الذي ربما كان 
يتخلق آنذاك. سرعان ما صارت هذه التشكيلة من المعارف السياسية متاحة 
للاستخدام التجاري مع تأسيس شركة جورج غالوب لاستطلاعات الرأي في العام 
5. إذ علا نجم تقنياتها حين تنبأت بنتيجة انتخابات العام 1936 الرئاسية 
بدقة غريبةء وأصبح الرئيس فرانكلين روزفلت موفدا ملزما باستطلاعات الرأي 
منذ ذلك الحين. ووظف هاددلي كانتريل (الذي عمل سابقا ضمن مشروع أبحاث 
راديو85©) مستطلع الآراء الخاص. 


مناهضة الرأسمالية ددونله)امهء1)ضى للبيع 

بمجرد القبول برأي وصوت الشخص العادي في أبحاث السوقء يُصبح من ا ممكن 
البدء باتخاذ منحى ديموقراطي. يعد هذا موقفا لا يمكن التنبؤ به و- من منظور 
شركة أو حكومة أو مدير حساب تنفيذي مسؤول عن الإعلانات - باعثا على القلق. 
إذ يشمل الإمكانية التي دفعت الزوجين ليند إلى إجراء دراسات الميديلتاون أو التي 
(*) الدودة صعهلةا: أداة تحليل تُستخدم في أبحاث السوق طورها مركز أبحاث روي مورغان صدهءه84 80 في 


أسترالياء بهدف قياس رد فعل الجمهور على مثير ما مرثي خلال فترة زمنية مُحددة, ويصف الاسم شكل الرسم البياني 
الناتج صعود! وهبوطا. [المترجم]. 


57 





صناعة الشعادة 
دفعت آبرامز إلى إجراء أنشطته البحثية فيما يخص السوقء وأعني بها احتمال إدلاء 
الناس بموقف سلبي تجاه النزعة الاستهلاكية, أو ربما تجاه الرأسمالية نفسها. 

على الجانب الآخرء فإن هذه القدرة تحديدا على الكشف عن مثل هذه 
التهديدات هي ما جعل تلك التقنيات لا غنى عنها بالنسبة إلى الشركات 
والحكومات. ربما أجرى روزفلت ما لا يُحصى من استطلاعات الرأي بشأن طريقة 
تعاطي الشعب مع سياساته. لكنه لمم يغير أيا من تلك السياسات, ولو مرة واحدة, 
استجابة للنتائج. لقد كشف كانتريل أن كل لجنة كلفت بإجراء دراسة اتجاهات 
ما كانت تشمل أيضا متطلبات تقديم المشورة عن «كيفية تصحيح الاتجاه». وهو 
ما يُطلق عليه «بروباغند|»20. 

ألف بين تقنية تقنية مسح فعالة ومقاربة سلوكية صلبة للإعلان وستحصل على حلقة 
معلومات كاملة. تصدر الرسائل إلى الناس, فيستجيب الأفراد من خلال السلوك 
والدراسات المسحية. من ثم تعود المعلومات إلى مرسل الرسالة. لقد تغير كل 
عنصر من هذه الحلقة بشكل مثير منذ الثلاثينيات. حيث يؤرخ ظهور التشديد 
على المجتمع الجماهيري!*! واتجاهات عموم الناس بفترة ما بعد الحربء مع بدء 
ظهور الأسواق المتخصصة وازدهارها. وتصدّر الواجهة شكل آخر من أشكال التشاور 
الديموقراطي الخفيء وأعني به «الجلسات النقاشية» 5مناه6:0 وناءه80: بدلا من 
الدراسات المسحية الجماهيرية. ويشكل ضعود التحليل المنطقي الرقمي للبيانات 
المرحلة الأخيرة في هذه الثورة. في هذه الأثناء جعلت الحقول السلوكية الجديدة 
للتسويق العصبي جون ب. واطسون يبدو بريئا قطعيا مقارنة بها. 

إن ما ظل مستمراء على أي حال هو التأثير المتبادل والتوتر بين التقنية السلوكية 
والأشكال شبه الديموقراطية لصوت المستهلك. فالسلوي لا يرغب في سماع ما يشعر 
به الناس أو يحتاجون إليه أو يطلبونه, بل يرغب في اكتشاف طرق لإنتاج المشاعر 
والحاجات والمتطلبات بوصفها كيانات موضوعية نمكن رؤيتها. بهذه الطريقة, 
يعتقد السلوي أن بإمكانه استبعاد الذات من ن علم | النفس تماما وإنتاج قاعدة علمية 


(*) المجتمع الجماهيري إاع50“1 84386: مجتمع يتميز بالتنقل المكثف والتمايز الاجتماعي وفقدان الجذور 
(الأصول) والقيم والروابط التقليدية. (قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية). [المترجم]. 


58 








في مزاج الشراء 
كليا للممارسات التجارية مثل الإعلان. المأزق أن الحال تنتهي به معولا على فرضياته 
المسبقة بشأن ما تعنيه تلك ال مشاعر. منساقا وراء خبراته وعقائده المتعلقة بما قد 
يبدو عليه السلوك العقلاني. ما من بيانات قادرة على تفسير ما تعنيه السعادة أو 
الخوف لشخص م يشعر بهما من قبل قط. وإذا تصادف وجود الباحث في وكالة 
إعلانية أو كلية إدارة أعمال, فإن مصطلحات ك «الاختيار» و«الرغبة» و«الانفعال» 
و«العقلانية» تضطلع بمسحة استهلاكية لا مناص منها. إن السلوكية وصناعة الإعلان 
إما أن تتطفلا حتما على الفضاءات الموجودة مسبقا وتقنيات التداولء وإما ألا يكون 
هناك سبيل أمامهما للإفلات من فرضياتهما المسبقة. أو اكتشاف ما تعنيه انفعالات 
ورغبات الآخرين الحقيقية. 
ربما تنزعج المشتغلة بالإعلان التي تنصت حقاء على الجانب الآخرء بسبب ما 
تسمعه. قد تكتشف أن الناس يريدون شكلا من الأصالة أو الجماعة أو الواقع 
الخالص؛ وهو ما لا يمكن لأي مُنْتج أو إعلان توفيره. آنئذ يصبح التحدي هو كيفية 
تعبئة نماذج دمموقراطية؛ سياسية؛ حاسمة بطرق يمكن تمريرها بأمان عبر المنتجات 
أو السياسات العامة من دون إثارة الاضطرابات في الوضع الراهن. لطاما كانت 
عناصر من السياسات المناهضة للرأسمالية التي تعد بوجود غير سلعي أكثر نزاهة, 
مكونا أساسيا في نسختها الإعلانية9. وإذا دققنا النظر في إعلانات الستينيات» 
فسنجد أنها كانت تحتوي صورا من الحياة العائلية الشعبية ا ماقبل صناعية التي. 
كانت تبدو كأنها مهددة بالتعرض لخطر الفوضى المتمثل في المدينة الصناعية 
الأمريكية”©. إن المعتقدات السياسية تتحول رويدا رويداء بتأثير من أبحاث السوق. 
إلى رغبة اقتصادية. حيث تضحي آليات التسويق الباردة ونقد الرأسمالية حبيسي 
حلقة تغذية راجعة داممة, لهذا السبب ما من فكرة متبقية عما قد تعنيه الحرية, 
بخلاف حرية الاستهلاك. 
من الناحية النفعية. تتمثل خدعة التسويق في الحفاظ على توازن دقيق بين 
السعادة والتعاسة؛ اللذة والألم. فالسوق لا بد أن يُصمم باعتباره مكانا يمكن فيه 
السعي وراء الرغبات لكن من دون إشباعها تماماء وإلا تضاءل النهم للاستهلاك. 
يتكلم المسوقون عن انفعالات شتى اليوم, بما فيها الإعجاب والسعادة. لكن هذه 
المشاعر الإيجابية لا يمكن أن تكون نهاية المطاف أبدا. إذ القلق والخوف جزءان 


59 





صناعة الشعادة 
مهمان أيضا من المزيجء وإلا فسيصادف الزبون درجة من السلام والراحة لا تتطلب 
مزيدا من الإشباع. 

يحظى علماء النفس والأعصاب الرائجون في القرن الحادي والعشرين بتجارة 
رابحة باعتبارهم مستشارين ومؤلفين. من خلال الوعد بالكشف عن حقيقة 
الطريقة التي نتخذ بها قراراتناء وكيف يقع التأثير. وماهية ما سيفي بالانفعالات 
والحالات المزاجية المستهدفة. وتميل الحاجة إلى سؤال الناس عما يحتاجونه إلى 
التناقص بعض الشيء أثناء تلك التقلبات في الثورة السلوكية: تماما كما كان الوضع 
إبان واطسون. ويُشكل الارتياب البنتامي في اللغة بوصفها مؤشرا إلى مشاعرنا برهانا 
على الكيفية التي يزعم المسوقون العصبيون أنهم يتحاشون بها ما نقول إننا نشعر 
به إلى المشاعر نفسها مباشرة. 

تقوم وجاهة هذا المشروع على عدد من الأعمال الاستراتيجية كنسيان أو عدم 
رؤية كل من التاريخ أو الإمكانية السياسية. إما أن يسقط التازيخ على جانب 
الطريقء وإما أن ينتبه شخص ما إلى أن موجات طفرة التسويق العلمي تميل إلى 
التشابه وعلى رغم ذلك لم تحقق قط ما وعدت بتحقيقه في الأصل. دائما ما يخيب 
حلم جعل الناس قابلين للتنبؤ والسيطرة تماماء فيُعاد تقديم ذلك الشكل البديل 
منخفض التقانة من الاشتباك - أي الحوار- بشكل أو بآخر. وتختفي السياسة. إلى 
حد أنه متى عاد الحوارء فإنه يعود داخل رتابة وفضاءات مُدارة بشكل آمن حيث 
يصبح في مستطاع الرغبة السياسية الظهورء لا أن تترجم إلى تحول سياسي. 

تكمن قوة الخطاب الإنسانيء في نهاية الأمرء في ضرورته لتعزيز الثقافة 
الاستهلاكية. في حين لا يكفي علم, قام على دراسة الفثران البيضاء. وامتزج بأدوات 
ذكية للتحديق في عيوننا وبقية أعضاء أجسامنا الأخرىء لبيع المنتجات بالتحليل 
الأخير. فضلا عن كفايته لإدارة البشر داخل أماكن العمل. وفي سبيل هذه الغاية 
الأخيرة» على رغم أننا لانزال في حاجة إلى تقنيات ووسائل وأجهزة قياس أخرى. 
تشكل تقييمات السعادة الدفعة الأخيرة. 


100 





الموظف السيكوسوماني”» 


غالبا ما تتصوّر نهاية الرأسمالية باعتبارها 
أزمة ذات أبعاد ملحمية. فقد تندلح أزمة 
مالية بالغة الجسامة تخفق معها حتى موارد 
الحكومة امالية في إنقاذ النظام. وقد يتحول 
الغضب التنامي للأفراد المستغلين شيئا فشيئا 
إلى حركة سياسية تؤدي إلى ثورة. أم ثرى تدفع 
كارثة بيئية النظام إلى التوقف؟ يقول السيناريو 
الأكثر تفاؤلا إن الرأسمالية ربما كانت شديدة 
الابتكار إلى درجة أنها قد تنتج في نهاية ا مطاف 
وريثها المتفوق من خلال اختراع تقني ما. 
أله 
«إن المتطلبات المفرطة لم تكن وحدها 
هي ما يؤذي البشرء بل كان شح 


مقتضيات العمل (السأم) هو الآخر 
ضارا» 


(:*#) سيكوسوماي عنغةتممومطعء/زة2: وصف يشير إلى ما يرتبط 
بعلاقة النفس/ العقل بالجسد؛ فهو يعني حرفيا «النفس جسمي» 
وهو يتكون من شقين إغريقيين: عنروط أي العقلء ووحده5 أي 
الجسد. [المحرر]. 





101 





صناعة النسعادة 

لكن في السنوات التي تلت احتضار اشتراكية الدولة الذي كان خلال السنوات 
الأولى من تسعينيات القرن الماضي, أطلت إمكانية أكثر شحوبا. إذ تُرى ماذا لو كان 
أكبر تهديد للرأسمالية, داخل الغرب الليبرالي على الأقل, هو ببساطة نقصٌ الهمة 
والنشاط؟ ماذا لو قوبلت الرأسمالية المعاصرة بالتثاؤب بدلا من التحريض على 
العنف أو الرفض الصريح؟ من وجهة نظر سياسية رما يكون هذا مخييا للآمال 
بعض الشيء. مع ذلكء يمثل هذا عقبة أمام حيوية الرأسمالية على المدى الطويل؛ إذ 
دون مستوى معين من الالتزام من جانب الموظفين. يصطدم العمل ببعض المشاكل 
الملموسة جدا التي سرعان ما تتجلى في الأرباح. 

سيطرت هذه المخاوف على خيال المديرين وصناع القرار السياسي خلال 
السنوات الأخيرة لأسباب وجيهة. حيث ألقت العديد من الدراسات بشأن الولاء 
الوظيفي )7262م ديم ععترهامدمظ الضوء على التكاليف الاقتصادية للسماح 
للعمال بأن يكونوا منسحبين عقليا من وظائفهم. وتجري غالوب دراسات متواترة 
واسعة النطاق في تلك المنطقة, اكتشفت عبرها أن ثلاث عشرة في المائة فقط 
من قوة العمل العالمية «موالية» كما ينبغيء في حين أن نحو عشرين في المائة 
من موظفي أمريكا الشمالية وأوروبا غير موالين بشكل فعال". كما قدّرت تلك 
الدراسات أن غياب الولاء الفعال يكلف اقتصاد الولايات المتحدة ما يقرب من 
خمسمائة وخمسين مليار دولار سنويا. ويعتقد أن غياب الولاء للعمل يكشف 
عن نفسه من خلال التغيب والمرض - والأكثر إشكالية في بعض الأحيان - الحضور 
للعمل في حال المرض «قاع276860]6 لمجرد إثبات الحضور”. وتقترح دراسة كندية 
أن غياب أكثر من ربع قوة العمل يكون بسبب الإنهاك لا المرض9, 

آنئذ يتعين على بعض مديري القطاع الخاص التفاوض مع النقابات فترة 
أطول, لكنهم يواجهون جميعا تحديا أكثر مخاتلة يتمثل في التعامل مع موظفين 
يتغيبون بانتظام؛ بلا دافع؛ أو يعانون باستمرار مشكلات انخفاض مستوى الصحة 
العقلية. م تعد مقاومة العمل تكشف عن نفسها من خلال صوت منظم أو رفض 
صريح.ء بل عبر أشكال متفرقة من اللامبالاة والمشاكل الصحية ال مزمنة. ويشكل 
الخيط الرفيع الذي يفصل الملل العام عن مشاكل الصحة العقلية ا لمرضية تحديا 
أمام المديرين داخل مقرات العمل في القرن الحادي والعشرين؛ إذ يبدو هذا 


102 





الموظف السيكوسوماتي 
التحدي كأنه يقتضي: منهم طرح أسئلة شخصية عن مسائل هم غير مؤهلين 
للتعامل معها إلى حد كبير. 

يمثل نقص الولاء من جانب قوة العمل مشكلة للحكومات أيضا؛ نظرا إلى أنه 
يقضم الناتج الاقتصاديء ويؤثر سلبا خلال ذلك في الإيرادات الضريبية. وتصبح 
المشكلة أكثر خطورة في المجتمعات التي يوجد بها تأمين صحي اجتماعي وتأمين ضد 
البطالة» حيث تنشأ مشكلة اقتصادية متنامية هي تسرب الأفراد من العمل بسبب 
مشكلة شخصية غير محددة وغير ملموسة في الأغلب, يتلوها الاستسلام تدريجيا إلى 
خمول أكثر عمومية. أولئك الناس قد يترددون بانتظام على الأطباء لإجراء الفحوص. 
شاكين من آلام ومشاكل غير قابلة للتشخيص. يحدث هذا في الأغلب نتيجة عدم 
وجود من يبادلونهم الحديث وإحساسهم بالوحدة؛ إذ تقوض البطالة إحساسهم 
بكفاءتهم الذاتية» ويصيبهم التعطل عن العمل بأزمات «نفس جسدية» أخرى. 
وفي النهاية تُصاب قدراتهم البدنية والنفسية بالانكماش الذي تسدد كثير من 
ا مجتمعات فواتيره. 

لا ينحصر التهديد الاقتصادي الناجم عن انحدار الصحة العقلية داخل حدود 
أسواق العمل فقط. فقد أثارت منظمة الصحة العالمية في العام 2001 ضجة حين 
تنبأت بأن اضطرابات الصحة العقلية قد تصبح السبب الأكبر في الإعاقة والموت 
في العالم بحلول العام 2020. وتقول بعض التقديرات حاليا إن أكثر من ثلث 
البالغين في أوروبا وأمريكا يعانون مشاكل في صحتهم العقلية: وإن ظل أغلبها غير 
مشخص”". والتكاليف الاقتصادية التي تفرضها هذه المشاكل هائلة؛ حيث تقدر 
تكلفة اضطرابات الصحة العقلية بنحو 3 - 4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي 
في أوروبا وأمريكا الشمالية. في حين تبلخ التكلفة الإجمالية لهذه الاضطرابات في 
بريطانيا (وتشمل عناصر شتى كالتغيب عن العمل وانخفاض الإنتاجية والتكاليف 
الطبية) نحو 110 مليارات جنيه إسترليني سنويا". هذه التكلفة تفوق بكثير 
التكلفة الاقتصادية للجريمة, وعلى رغم ذلك من المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم 
خلال السنوات العشرين اللمقبلة, ما لم يتحول الاتجاه الحالي بطريقة ما”. 

لاريب أن أسباب مشاكل الصحة العقلية معقدة وأنها لا تعود إلى الاقتصاد 
أو كيمياء الدماغ وحدهما. لكن الطريقة التي تعلن بها هذه المشاكل عن نفسها 


103 





صناعة الشعادة 


داخل أماكن العمل بشكل يهدد الإنتاجية. هي ما وضعها بين أكبر المشاكل التي 
تواجه الرأسمالية اليوم؛ وهي السبب الرئيس وراء انشغال المنتدى الاقتصادي 
العالمي الشديد بصحتنا وسعادتنا©. واقتضت المنطقة الرمادية الغامضة التي 
تفصل النفور من مكان العمل عن الاضطراب المرضي وجودٌ مديرينء ومهنة الموارد 
البشرية على وجه التحديد. يسلحون أنفسهم بطرق جديدة مغايرة جمكنهم من 
التطفل على عقول وأجسام وسلوك العمالة لديهم. وا مصطلح الشائع استخدامه 
لوصف الغاية من هذه التدخلات هو «الرفاهية» التي تتضمن السعادة والصحة 
اللتين يحس بهما الموظفون. | 

ثمة حافز اقتصادي واضح يدفع المديرين إلى الاهتمام باتجاهات موظفيهم 
الإيجابية. إذ كشفت الكثير من الدراسات أن إنتاجية العمال تزداد حين يحسون 
بالسعادة, بنسبة تقدر تقريبا ب 12 في المائة من العائد الكلي”. كما أنهم يبذلون 
على الأرجح جهدا أكبر حينما يلاقون الاحترام والإنصات والرغبة في سماع مشورتهم 
ومشاركتهم في أماكن العملء ويقل احتمال لجوثهم إلى الإجازات المرضية. ومن 
المعلوم أنه حين لا يكون للموظفين رأي في طريقة تنظيم عملهم تتولد بعض 
ا مشكلات السيكولوجية التي باتت تمس الشركات الآن. والتي قد تصل إلى مشاكل 
الصحة العقلية”". ويأمل المديرون من خلال التشديد على الرفاهية في تحويل 
حلقة خبيثة من عدم الاندماج واعتلال الصحة إلى أخرى سليمة من الفعالية 
والتجاوب والالتزام. ْ 

تبدو السخرية من بعض هذه الأشياء أمرا مغريا: فالمديرون في النهاية كما هم, 
يسعون إلى انتزاع الجهد من العامل. لكن لم لا نعي أيضا الفرصة المتضمّنة في هذا 
القلق الرأسمالي الراهن؟ فإذا كانت الرأسمالية دُستنرّف بسبب استلاب مزمن غير 
محدد يُصاب به من تعتمد عليهم, ٠‏ فلا ريب إذن أن حل تلك المشكلة قد يفتح 
الباب أمام احتمالات إصلاح سياسي. إن التكاليف الاقتصادية الصعبة التي يضعها 
التبرم الآن على كاهل أصحاب العمل والحكومات تعني أن البؤس الإنساني أمسى 
مشكلة مزمنة لا يمكن للنخبة تنحيثها جانبا بسهولة. وأن مسألة أي أنماط العمل, 
وأي أنماط تنظيم مكان العمل قد يسفر عن إحساس حقيقي بالالتزام والحماس من 
جانب العمال, لا ينبغي التخلي عنها كليا. 


104 





الموظف السيكوسوماتي 


تكمن الصعوبة في أن الحماس الذي يسعى المديرون إلى تعزيزه لا يقل 
غموضا عن المشكلات السيكوسوماتية التي يسعون إلى تحاشيها. حيث كشف 
تقرير بتكليف من الحكومة البريطانية عن أهمية ولاء الموظفين, استحالة تحديد 
ماهية ما يتألف منه هذا الكيان الهلامي. ويرى الخبراء أنك «نوعا ما تشمه» 
و«تعرفه حين تراه»؛ مقرين بوجود نقص في الموضوعية المتعلقة بهذه القضية 
تحديدا'''. ويتطلع المديرون وصانعو القرار السياسي إلى علم مادي يدرس 
السعادة في مكان العمل لكن في هذا النوع من العلم المادي على وجه الخصوص 
تندلع الكثير من مشكلاتنا. 


معسكرات التدريب على السعادة 

حين واجه كبار صناع القرار مشاكل الآخرين ال ملتبسة والشخصية: كانت لهم 
طرق مجرّبة ومختبرة للتعامل معها: فجلبوا وسطاء ومستشارين من الخارج. ثمة 
طلب سياسي وسوقي غزير على الخبراء المستعدين للحديث عن رفاهية الآخرين 
والتصرف بناء عليهاء مستمدين ذلك من سند علمي مفترض ما. وهؤلاء الخبراء 
يتفاوتون من ممارسي الطب المؤهلين إلى الحمقى غير المطلعين. وعند تناول 
المشاكل المؤطة التي تتعلق بصحة أشخاص آخرين وسعادتهم: تكون لدى الموظفين 
الخارجيين فرصة أكبر لتفادي المساءلة الأخلاقية وللانسحاب من الأمر برمته إن 
لزم الأمر. لقد كان تصور بنتام لشركة قومية للأعمال الخيرية» وهي شركة تؤسسها 
الدولة لتوظيف الناس, يؤذن بعام اليوم المعتم من الرفاه الاجتماعي المشروط الذي 
يقبع داخل الفجوات غير المبررة بين السوق والدولة. 

كانت الحكومة البريطانية. خلال سعيها إلى دفع الناس إلى التخلي عن الاعتماد 
على دولة الرفاهية والتحول إلى سوق العملء قد عيّنت شركة «آتوس» 05غه 
للخدمات العامة لمصلحة الغير لتجري تقييما فرديا لقدرة الأفراد على العمل. 
وقد ترتب على تفعيل هذا البرنامج على يد حكومة المحافظين منذ العام 2010 
عدد من امآسي والتصرفات الوحشية بلغت حد انتحار رجل كفيف مصاب برهاب 
الأماكن المفتوحة يبلغ من العمر 53 عاماء هو تيم سالتر 53165 1150 بعد أسابيع 
من إيقاف المساعدات التي كان يحصل عليها في العام 2013 نتيجة تقييم أجرته 


105 





صناعة الشعادة 
«آتوس» أفاد بقدرته على العمل2". كما وجدت «آتوس» أيضا أن أفرادا مصابين 
بتلف الدماغ وسرطان مزمن «ملائمون للعمل». وكان المجلس الطبي العام في 
بريطانيا قد أجرى تحقيقا في العام 2011 مع اثني عشر طبيبا يعملون لدى «آتوس» 
مقومين للإعاقة بسبب ادعاءات بعدم قيامهم بواجبات الرعاية نحو ايلرضى 2 
وقد لقي نحو عشرة آلاف وستمائة مريض ومعاق حتفهم خلال ستة أسابيع من 
إيقاف المساعدات امالية لهم في الفترة من يناير إلى نوفمبر 2011*". وفي واحدة 
من اختلالات الحاسوب الوظيفية الهزلية السوداء, أكدت «آتوس» أن هناك مطالبين 
بإعانة العجز لديهم قدرة على العمل حتى بعد وفاتهم من جراء المرض. 

مرة أخرىء تتنحى الحكومة أيضا مفسحة المجال للوسطاء كي يقوموا بالتدخلات 
السيكولوجية الأكثر إثارة للجدلء حين يستدعي الأمر تحفيز الناس على البحث عن 
عمل. فأولئك الذين يُدفعون دفعا إلى البحث عن عمل يخضعون لتقييم اتجاهاتهم 
وتفاؤلهم ومن ثم يُعاد تنشيط ما لديهم من حافز. والشركتان اللتان تنفذان هذه 
المهمة داخل بريطانيا هما «إيه فور إي» »44 و«إينجوس» وناءع128؛ حيث تعاقدتا 
مع الحكومة لدفع العاطلين إلى العمل: وقد أوردت تقاريرهما أن ما يقرب من 
ثلث مَن ترددوا على أبوابهما يعانون مشكلة في صحتهم العقلية, على رغم تشكك 
الشركات في أن المعدل الحقيقي ضعف هذا القدر. وتُستّخدم الاستبيانات لفحص 
واستجلاء العراقيل العقلية والسلوكية التي تحول دون العمل (لا ينظر إلى نقص 
الوظائف على أنه مبرر كاف). | 

تمثل البطالة في عيون أولئك الوسطاء «عَرّضا» لمرض شخصي أوسع. يعلن عن 
نفسه من خلال الخمول. ويشمل الحل عددا من برامج التدريب إلى جانب دورات 
التنشيط السلويء وكلتاهما تستهدف استعادة ثقة الفرد العاطل بنفسه وتفاؤله 
بكفاءة لا تلين. وكما أفاد أحد المشاركين في حلقة دراسية ب «46ه8» فإن مُعلُما 
للاعتماد على النفس قد صرخ فيهم قائلا: «تكلم؛ تنفس؛ كُل؛ آمن بنفسك» وأنك: 
«المنتج - سواء آمنت بذلك أم الح 

أينما تصبح اقتصاديات الصحة العقلية أكثر وضوحاء تميل الفجوة بين الرعاية 
والعقاب إلى الانكماش. في العام 2007 وضع الاقتصادي ريتشارد لايارد تصميم 
دراسة الجدوى للعلاج السلوكي المعرفي مدللا على قدرة هذا العلاج على توفير نقود 


106 





الموظف السيكوسوماتي 
الحكومة البريطانية, بالنظر إلى معدل النجاح الظاهر والمقتضب في دفع الناس إلى 
مواصلة العمل9". كان هذا البرنامج فعالا في زيادة الإقبال على برنامج العلاجات 
السيكولوجية الذي شمل صعودا مذهلا في عدد ا معالجين السلوكيين المعرفيين الذين 
تلقوا تدريبهم في هيئة الخدمات الصحية الوطنية عع271ء5 طالوء11 [هده112)16 
وعَيّنوا فيها. 

لكن مع بزوغ سياسات التقشفء بدأ هذا التعاطف مع العلاجات بالكلام يبدو 
مختلفا بعض الشيء. إذ أعلنت الحكومة في العام 2014 أن ما يتلقاه المطالبون 
بإعانات العجز من مساعدات قد يتوقف في حال رفضوا حضور جلسات العلاج 
المعرفي السلوي. سيضطر الناس إلى تلقي العلاج بالكلام بشكل فعّالء لكن الذي 
م يفسر تحديدا هو كيف ينتظر أن ينجح علاج ماء في حين أن الدافع الوحيد إلى 
الخضوع له هو التهديد بفقدان خمسة وثمانين جنيها إسترلينيا كل أسبوع. 

ولغلق كل منافذ التهرب من العملء كان من الضروري تجنيد الأطباء أيضا 
بهذا البرنامج السيامي. حيث اشتى تقرير حكومي بريطاني شر في العام 2008 
من أن «مغالطة المرض يتعارض مع العمل» التي يتهم الأطباء بترويجها «لاتزال 
قائمة»”". فأطلقت حملة حكومية لصرف الأطباء عن هذه الفكرة والعدول عن 
كتابة شهاداتهم المرضية الرسمية (التي كان الأطباء يوقعونها ذات يوم لإعلان أن 
فردا يجب ألا يعمل) واستبدالها بمذكرة لياقة تتطلب من الأطباء وصف ما تبقى من 
وسائل يستطيع من خلالها الفرد أن يظل في وظيفته على رغم الأمراض والإعاقات. 
لقد لاقى الأطباء تشجيعا على التوقيع على مسودة بيان كتبته الدولة» يوافقون فيها 
على أنه في العمل خير الناس. 

تبدو الأحوال على الطرف المقابل من سوق العمالة أكثر إشراقاء لكنها لا تقل 
وحشية بطريقة أو بأخرى. ففي حين تتصدى «آتوس» و«إيه فور إي» و«إينجوس» 
لبلادة وتشاؤم الفقراءء يجني مستشارو العافية الراقون مبالغ هائلة من خلال تلقين 
النخب بالشركات كيفية الإبقاء على أنفسهم داخل حالة من اللياقة السيكوسوماتية 
المثلى. فدروس 5ك «البرنامج الرياضي للشركات» عدتتاهن عاعلطتط عتهجوم02) 
الذي يقدمه د. جيم لوهر عطءه.1آ دطأ[ - ومدته يومان ونصف اليوم بقيمة 4.900 
دولار - تَعرّف المديرين التنفيذيين باستراتيجيات نخبوية في استثمار الطاقة تمكنهم 


107 





صناعة الشعادة 


من تحقيق مستوى أداء رفيع للعافية الجسدية والعقلية. ويبيع معلم الإنتاجية 
الأمريكي تيم فيريس 56:15 1:0" النصح بشأن الطريقة المثلى التي يُوظف بها 
المديرون الكبار أدمغتهم في أثناء يوم العمل» بعد عمله السابق في بيع مكملات 
غذائية مشكوك فيها لتحسين وظائف الدماغ. 

تنتقل دائرة الاستشارات هذه بسلاسة بين مجالات خبرة منفصلة بشكل واضح. 
إذ تمتزج سيكولوجيا الدافعية مع فيسيولوجيا الصحة. منتجة بين الحين والآخر 
استبصارات من مدربين رياضيين وخبراء تغذية يضاف إليها خليط من شائعات 
علم الأعصاب وممارسات التأمل البوذيء فتتداخل مفاهيم شتى عن «اللياقة» 
و«السعادة» و«الإيجابية» و«النجاح» من دون شرح واف عن الكيفية أو السبب. 

. والفكرة التي تلازم كل هذا هي أن هناك شكلا مثاليا واحدا للوجود الإنساني: 

مجدًا في العمل؛ سعيداء يتمتع بالصحة؛ وفوق كل شيء, ثريا. ويُبنى علم يختص 
بكمال الصفوة مستثمرا نجاح هذه الرؤية الرأسمالية البطولية. لكن الجانب الآخر 
من هذاء والقوة الدافعة الحقيقية وراء الكثير من البرامج المعنية بعافية المديرين 
التنفيذيينء هو مجموعة من المخاطر التي خضعت للبحث الجيد الذي أجراه رجال 
أعمال على درجة عالية من التنافسية؛ والتي اشتهرت بين العامة باسم «الإنهاك» 
81113-0104 وتشمل: الفرصة الكبيرة للإصابة بالنوبات القلبية, والسكتات الدماغية, 
والانهيارات العصبية. :. 

بالطبع: يستقر أغلبية الراشدين الذين يعيشون داخل مجتمعات رأسمالية 
في مكان ما بين إطار «آتوس» وشقيقاتها من ناحيةء ومعلمي «عافية المديرين 
التنفيذيين» من ناحية أخرى. أليس هناك مجال لرؤية أقل فردية للرفاهية عبر 
المساحات الوسطى في سوق العمالة؟ ربما يوجد. لكن يوجد هنا أيضا بعض 
الأوامر التنافسية القاسية التي تُقدم لأولئك المديرين المشغولين بعدم ولاء العامل 
وتأثيره في الإنتاجية. 

يُجادل أحد معلمي أمريكا الرواد في مجال السعادة بمحلات العمل؛ المتعهد 
توني شيه طء2151 بده" بأن الشركات التجارية الأنجح هي التي تنمي السعادة 
بشكل متعمد وإستراتيجي في كل هيئاتها. إذ على الشركات توظيف مسؤولين كبار 
عن السعادة لضمان ألا يفر أحد من السعادة في مقر العمل. لكن إذا كان هذا يبدو 


108 


الموظف السيكوسوماتي 

وصفة لمجتمع شاملء فإن الحقيقة خلاف ذلك. فشيه ينصح الشركات بأن تحدد 10 
في المائة من الموظفين الأقل حماسا نحو برنامج السعادة, تمهيدا لعزلهم*"'. وبمجرد 
الانتهاء من ذلك يصبح ال90 في المائة الباقون فائقي الولاء بشكل جلي» وهي نتيجة 
تنفتح على ما يتعدى مُجرد تفسير سيكولوجي واحد. 

مع اقتراب علم السعادة من الخط الأمامي لأعمال زيادة الأرباح» أصابه أمر 
غريب. بالنسبة إلى بنتام كانت السعادة شيئا ناجما عن خيارات وأنشطة ما. 
وقد افترض الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد من أمثال جيفونز, وعلماء النفس 
السلوكيون من أمثال واطسونء شيئا مشابهاء ملمحين إلى إمكانية استمالة الأفراد 
ليقدموا على خيارات معينة من خلال تعليق جزرة اللذة أمامهم. لكن السعادة 
تبدو مُغايرة تماما في سياق الأعمال الاستشارية وتدريب الأفراد؛ إذ تُصوّر فجأة على 
أنها مُدخل بمشاريع وإستراتيجيات مُعينة. أو مصدر يُستند إليه من شأنه إدرار 
مزيد من النقود في المقابل. هكذا تنقلب فرضية بنتام وجيفونز السيكولوجية التي 
تقول إن المال يدر كمية متناسبة من السعادة, وتقول بدلا من ذلك إن كمية ما من 
السعادة هي ما ستدر كمية ما من النقود. 

يوجز أحد أبناء جيل جديد من مُعلمي إدارة علم النفس الإيجابي؛ شون أكور 
تمطءة مححمط5:ء مجموعة من البيانات في كتابه «ميزة السعادة» و5ع5أممة11 ع1 
0772 لل مقترحا فكرة أن السعداء ينجزون أكثر ف أعمالهه”"؛ ويترقون أكثر؛ 
ويبيعون أكثر (إن كانوا يعملون بالتسويق). ويحظون بصحة أفضل. تصبح السعادة 
صيغة من صيغ رأس امال الذي يمكنهم الركون إليه وسط اضطرابات اقتصاد 
ملتبس. تصبح. كما يشير عنوان هذا الكتاب» مصدر تميز في معركة النجاح. لو كانت 
هذه حدود حكمة أكور, فإنه قد يكون قدريا؛ فهو يقول: المتفائلون أسعد حظا في 
جميع النواحي من المتشائمينء هي هكذا فقط. 

الإضافة الحاسمة لهذه المجموعة من البيانات هي أننا جميعاء كما يُفترضء 
قادرون على التأثير في مستويات إحساسنا بالسعادة. فالأخيرة. كما يُخبرنا أكور, 
ليست إلا خيارا: إما أن نختار أن نكون سعداء (ومن ثم ناجحين) وإما أن نختار 
ألا نكون سعداء (ونعاني التبعات). يطرح عام الأعصاب بول زاك عله 811 وهو 
متحدث ومستشار بارز في تلك المسائلء فكرة أن نرى سعادتنا باعتبارها عضلة 


109 


صناعة الشعادة 


تحتاج إلى التمرين بشكل منتظم كي نحتفظ بها في كامل لياقتهاء إلى أن يحين الوقت 
الذي نحتاج إليها فيه. لكن داخل هذا البرنامج شديد التخصيص تكمن القدرة 
على إلقاء اللوم على الآخرين بسبب بؤسهم وإخفاقهم اللذين عجزوا بوضوح عن 
التصرف حيالهما على نحو ملائم. 

ماذا تعني السعادة حقا حين يجري تصورها على هذا النحو؟ تبدو كأنها تنطوي 
ضمنا على مصدر طاقة ومرونة, لكنها توجه داما إلى أهداف مُغايرة لأن يكون المرء 
سعيداء كالمنزلة والنفوذ والتوظيف وامال. يطلب معلمو الدافعية بكل بساطة, في 
وجه سأم محل العمل والبوار السيكولوجيء مزيدا من قوة الإرادة. من وجهة النظر 
هذه تعد النشاطات التي قد تؤدي إلى إحساس بالسعادة, مثل التواصل الاجتماعي 
أو الاسترخاء. غير ذات قيمة إلا لكونها قد تعيد الدماغ والجسم إلى مستوى من 
اللياقة يمكن الدفع به لاحقا إلى التحدي العملي التالي. تعني هذه النسخة الفريدة 
من النفعية توسيع منطق الشركات ليشمل كل مناحي الحياة. مثال ذلك أنه توجد 
الآن طريقة مثلى لأخذ قسط من الراحة من العملء والذهاب بكل بساطة لتمشية 
يمكن النظر إليها باعتبارها نشاطا محسوبا ضمن إدارة الإنتاجية”". ماذا يجري؟ إن 
بؤس العاملين مشكلة سياسية خطيرة. كيف صارت أسيرة بهذه الطريقة؟ 


استخلاص الجهد !| 

أطلق اكتشاف «مبدأ حفظ الطاقة» في أربعينيات القرن التاسع عشرء وهو 
الذي ألهب حماس الفيسيولوجيين والفلاسفة من أمثال فخنرء العنان كذلك لوجة 
من الحماس بين رجال الصناعة والمخترعين. فلو كانت كميات من الطاقة تظل كما 
هي في أثناء انتقالها بين البشر وامادة والحرارة والحركةء عندئذ يكون في مستطاع 
التحليل الرياضياتي إنتاج تقنيات مثمرة أكثر من أي وقت مضى. وكان البحث عن 
آلات دائمة الحركة دليلا على هذا التفاؤل. 

على أي حالء سرعان ما هدأ هذا الحماس من خلال كشف مقلق قام به عالم 
الفيزياء رودلف كلاوسيوس 151005اة61© 1610014 في العام 1865. أوضح هذا الكشف 
أن كمية الطاقة لا تبقى كما هي في النهايةء بسبب تغيرها من حالة إلى أخرى. 
بل تتناقص بالتدريج في واقع الأمر. كان هذا هو «قانون الإنتروبيا» 12 عط 


110 





الموظف السيكوسوماتي 


برومئغم5 006*. الذي أثار موجة من القلق والتشاؤم بشأن مستقبل الرأسمالية 
الصناعية القريب. خلال سبعينيات القرن التاسع عشرء الفترة التي كان جيفونز 
يحول فيها علم الاقتصاد إلى شكل من الرياضيات السيكولوجية: كان انشغال علماء 
الفيسيولوجيا - ورجال الصناعة - بمشكلة الإعياء البدني» لاسيما داخل المصنع: يزداد 
بصورة مطردة. كان الفيكتوريون بميلون إلى النظر إلى الخمول والبطالة باعتبارهما 
إخفاقات أخلاقية تقترن بشرب الكحوليات والطابع السيئ للشخصية. لكن بحلول 
الثمانينيات من القرن التاسع عشرء زحف قلق من أن العمل الصناعي كان يطحن 
البشر ليس إلا. كان البشر يفقدون الدافعية. 

تطور عُصاب نهاية القرن. فمع تناقص موارد الرأسمالية من البشرء أصبحت 
الحيوية التي ترتكز إليها الحضارة الغربية تعاني انحدارا لا يتوقف. وأوقعت 
متلازمة الوهن العصبي 8 نع - وهي شكل من الإنهاك العصبي ربما كان 
السبب فيه هو ضغوط الحياة المدنية المعاصرة - آلاف الضحايا من أبناء البرجوازية 
الأوروبية والأمريكية. إنه تقدم لا يستحق ما بذل فيه من جهد. 

كان علم العمل عند نهاية القرن التاسع عشر لا يختلف على الإطلاق عن شكله 
اليوم. وقد استحوذ الإعياء على التفكير كما يستحوذ الخمول العام (بالنسبة إلى 
الفقراء) أو الإنهاك (بالنسبة إلى الأثرياء) على التفكير اليوم. كان يُنظر إلى هذه المسألة 
باعتبارها أولوية اقتصادية قومية: كانت التفاوتات في الناتج الاقتصادي القومي تعزى 
إلى الاختلافات في فيسيولوجيا وتغذية العمالة الوطنية المتنافسة”'. ووفقا بلا اقترحته 
إحدى الدراسات. فربما كان ما ثميز الاقتصاد البريطاني عن نظيره الأماني هو أن العمال 
في الأول يتناولون لحما أكثر, بينما يتناول العمال في الأخير البطاطس. لقد نشأ علم 
هندسة العوامل البشرية وعنمدهدوع:8 لدراسة وتصويز الأجسام في أثناء الحركة, في 
مسعى لتحديد المكان الذي ثهدر منه الطاقة تحديدا. خضعت العضلات» بل الدم. 
للفحص لاختبار وفهم كيف حلت الإنتروبيا بالجسم البشري داخل مكان العمل. 





(*) الإنتروبي أو الإنتروبيا برهه:54: هو كمية الطاقة غير المتاحة للقيام بعمل في نظام فيزيائيء وقد استلهم 
كلاوسيوس مصطلح الإنتروبي من كلمة ذمه1' التي تعني التحولء واختيرت لتكون أقرب ما يمكن من كلمة 
الطاقة تره:ءدظ, ووفقا للقانون الثاني في الديناميكا الحرارية فإنه لا يمكن لإنتروبي نظام فيزيائي مُغلق أن يتناقص 
أبدا. [المترجم]. 


111 





صناعة الشعادة 

هكذا كان السياق الذي استهل فيه المهندس اميكانيكي فريدريك وينسلو تايلور 
هنج" 1و أقصة8؟ علء1ءل8:60 مهنته بوصفه أول مستشار إداري في العالم. كان 
تايلور قد ولد لأسرة بارزة وثرية في فيلادلفياء بجذور ترجع إلى إدوارد وينسلو 
و [كصة8؟ 0:ه80؛ أحد ركاب سفينة ميفلاور +ع02422240*). كان هذا الإرث 
مصيريا؛ فقد كان اسم عائلته المرموق هو ما منحه امتياز دخول اللؤسسات 
الصناعية داخل اللدينة بطرق كانت ذات تأثير حاسم في عمله. خلال سبعينيات 
وثمانينيات القرن التاسع عشرء اشتغل تايلور في عدد من مصانع الصلب والصناعات 
التحويلية الناجحة في ا منطقة, وحصل خلالها على ترقيات آلية لمناصب إدارية نظرا 
إلى علاقات أسرته. 

مم يكن تايلور في حد ذاته أحد رجالات الصناعة على الإطلاق: بل كان أمله 
في المقام الأول هو امتهان المحاماة. وضعه ذلك في موقف متضارب سيسري 
على كل مستشاري الإدارة من بعده: موقف العارف ببواطن الأمور (الموظف 
الداخلي) 9 والغريب (المستشار الخارجي) 4 في الوقت نفسه. 
وهو ما وفر له إطلالة فريدة في أماكن العمل بالمؤسسات الصناعية التي كان 
ينظر إليها من مكانه بوصفه موظفا متجردا يبدو موضوعياء نظرة استهتار. كان 
نافذا في الأوساط الصناعية» لكنه كان يتمتع بالحياد العلمي أيضا. وكان أغلب 
ما شهده من نقطة الرصد المميزة هذه يبدو إسرافا شديدا. فما من تحليل 
علمي منهجي أجري في حقل تصميم سيرورات العمل؛ إذ في الوقت الذي كانت 
تتاح فيه لمديري الشركات أقدار مُعينة من الموارد والساعات خلال اليوم, حرموا 
من أي منطق رياضياتي تمكنهم من خلاله استغلال تلك الموارد لتحقيق أعلى 
عائد منها. 

لم يمكث تايلور في شركة واحدة فترة طويلة قطء مؤسسا بذلك لسابقة استقرت 
من بعده في صناعة الاستشارات. فراح يتنقل بين رجالات الصناعة في فيلادلفياء 
مراكما الاستبصارات بشأن ما يعيقنا عن الأخذ بالطرق الأكفأ لتنظيم مكان العمل. 
لكنه لم يعد نفسه مستشارا مستقلا رسميا وم يبع معرفته سوى في العام 1893. 


(*) سفينة ميفلاور 348(:807*5: هي السفينة التي نقلت المهاجرين من إنجلترا إلى أمريكا في العام 1620. [المحرر]. 


112 





الموظف السيكوسوماتي 


كان مكتوبا على بطاقة تعريفه: مهندس استشاري - إدارة تنظيم املؤسسات. 

في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشرء عينت شركة «بيث لحم» 
للصلب آع566 «عطء1ط]86 تايلور لدراسة تصنيع الحديد الخام: وكان هذا 
هو موضوع أول تحليل علمي كمي له عن الزمن والحركة داخل مكان 
العملء فهو يبحث تحديدا عن طريقة لزيادة كمية الحديد الخام التي 
يستطيع العمال تحميلها داخل عربة قطار خلال يوم2". لم يتأمل تايلور 
سيرورة العمل وحدهاء بل أحوال العمال الجسمانية. وجزأ الإنتاج إلى 
مهمات فردية تسجّل وتفسّر منطقيا. ذلك أنه حتى إن كان الاقتصاد قد 
تحول أخيرا إلى دراسة نفعية للاستهلاك. فإن مشاكل الإدارة الصناعية تظل 
فيزيائية كليا من حيث طريقة استخلاص أكبر قدر ممكن من الإنتاج من 
أقل عدد ممكن من الآلات والبشر. وقد زعم أنه رفع متوسط إنتاج عمال 
شحن الحديد الخام من 12.5 إلى 47.5 طن يومياء من خلال ترشيد أوقاتهم 
وحركتهم وحوافزهم النقدية فقط. 

حولت دراسة شركة بيت لحم تايلور إلى أحد مشاهير دوائر الأعمال 
والبحث الأكادممي. فطرحت كلية هارفارد لإدارة الأعمال في العام 1908 درجة 
الماجستير للمرة الأولى لكن من دون أي فكرة عما تدور حوله. وتلقى تايلور 
الدعوة باعتباره أبرز علماء الإدارة في العالم حينذاك لتدريس المقررء وفي العام 
1 نشر مستخلصا لنظرياته السابقة بعنوان «مبادئ الإدارة العلمية» ع1" 
1 11ظ1ك1ظ1 عقكخمعك5 2ه وع1مءواءط. أصبحت دراسات الزمن والحركة 
هي الموضة الشائعة بين رجال الصناعة. ووصلت إلى المصانع الأوروبية قبيل 
اندلاع الحرب العالمية الأولى مباشرة. 

وبينما اهتم عملاء خدمات تايلور الفوريون بتعظيم عوائد أعمالهم: كان 
الإغراء السياسي بالإدارة العلمية شديد الوضوح. إذ آمن التقدميون الأمريكيون 
أنه في المستطاع بمزيد من الاستبصار العلمي تسخير الشركات للمصلحة العامة. 
ورأى الاشتراكيون» ومن بينهم لينين» في مذهب تايلور نموذجا للكيفية التي يمكن 
أن يُدار بها ا مجتمع ذاته بطريقة فعالة من دون اعتماد على الأسواق. 


113 





صناعة السشعادة 

وقد ربط تايلور بنفسه هدفا اجتماعيا أسمى بعلمه الجديدء معتقدا أن الإدارة 
العلمية تكتب نهاية الصراع الصناعي بالاستعاضة بالتعاون الأخوي الرقيق عن 
النزاع والشقاق. لقد كانت من أبرز ميزاته ا مزعومة. حين دخل عدد! من الشركات 
بوصفه موظفا أجنبياء أنه تمكن من تجنب التورط في صراعات صناعية بين المديرين 
والعمال. وحافظ على موقف مُحايد سياسيا. ففي مواقع العمل التي مزقها الصراع» 
يحظى المستشار بتأثير ملطف - على الرغم من أنه ليس العمال بالطبع هم من 
دعوا المستشار إلى التدخل في المقام الأول. 

شكلت مصادفة الجذور الأرستقراطية لتايلور قالبا للطريقة التي أصبح مستشارو 
الإدارة يتصرفون بها منذ ذلك الحين. حيث تفترض شركات مثل ماكنزي وشركاه 
هن ع8 برعسصلكك11.؛ وأكسنتشر 0156ا]طءع©ة؛ وبرايس ووتر هاوس كوبرز 6م51 
(5180) ومع م000 ع5نامطئع169 شكلا ممائلا من التميزء متعهدين بنثر خبراتها على 
الهيئات وأماكن العمل, ثم ترحل في كثير من الأحيان قبل ظهور النتائج بشكل واضح. 
رما كان ذلك هو إرث تايلور الأقوى؛ لأنه خلف ذلك اكتسب مصطلح «التايلورية» 
ووأ بعض الدلالات السلبية الواسعة. فحتى مع استمرار الشركات في الدفع 
بالمراقبة والتحليل العلمي لمستويات أبعد داخل حيوات عمالهم, الآن من خلال تحليل 
البيانات الرقمية والأجهزة المحمولةء ظلت العودة بالذكرى لتحليل فريدريك تايلور 
العلمي الجاف غير عصرية إطلاقا بعض الوقت. والسبب في ذلك شديد البساطة: 
المقاربة القاسية للإدارة يُنظر إليها على أنها تجعل البشر غير سعداء. 

قد يبدو الدفاع عن التايلورية جنوحاء لكن على الأقل نمة شفافية في منطقها. فقد 
وجِدّ المديرون وأماكن العمل لاستخلاص القيمة بأكثر الأساليب كفاءة, ولم يكن من 
المنتظر على الإطلاق أن يعجب العمال بهذا الأمر الذي كان خاضعا لإرادتهم إلى حد 
ما. فكما قال إين كورتيس 005615 1280 المغني الرئيس في فرقة «جوي ديفيجون» 'إ0[ 
ه1151 الذي شنق نفسه في سن الثالثة والعشرينء ذات مرة: «اعتدت العمل في 
مصنع وكنت سعيدا بحق لأن أحلام اليقظة كانت تراودني طوال النهار». تأتي العمالة 
بقدراتها البدنية للعمل في مصنع يطبق مذهب تايلور ي تستغل تلك القدرات من 
غير ريبء لكن من دون أن نتوقع منهم قطعا تقديم ما هو شخصي أو معنوي. ولهذا 
السبب تحديدا سرعان ما أدار المديرون ظهورهم لرؤية تايلور للإدارة العلمية. 


114 





الموظف السيكوسوماتي 

علم النفس يُسْمُْرْ عن ساعده 

في العام 8 حلس باحث من كلية هارفارد لإدارة الأعمال مع امرأة شابة 
تعمل في مصنع إنتاج هواتف في سيسيرو 01650) بولاية إلينوي. وطرح عليها سؤالا 
غير معتاد: «لو أعطيت ثلاث أمنيات, ماذا ستكون؟» توقفت المرأة كي تفكر قبل أن 
تعدد أمنياتها: «الصحة؛ الرجوع إلى البيت في رأس السنة؛ القيام برحلة زفاف إلى 
النرويج خلال الربيع المقبل». 

كان السبب الذي جعل السؤال غير معتاد هو أن الباحث لم يكنء بشكل 
جوهريء مهتما بحياة المرأة أو تحقيق أمانيها. بل كان» كشأن تايلور من قبله؛ مهتما 
بإنتاجيتها. كان الحماس للذهب تايلور قد تضاءل بدرجة كبيرة عقب الذروة التي 
شهدها خلال السنوات التي سبقت الحرب العالية الأولى مباشرة. لكن طموحات 
تايلور العلمية الأساسية بقيت مؤكدة كما هي إلى حد كبير بين منظري الإدارة. فقط 
في العام 1927, أسست كلية هارفارد لإدارة الأعمال مختبرا للإعياء حوى غرفا ذات 
درجات حرارة مختلفة وأجهزة بأحدث تقانة لدراسة ردود أفعال الجسم البشري 
على أنماط مختلفة من العمل والاستجمام. لقد بدت الفيسيولوجيا والبنية التحتية 
في اقتصاد لايزال يُهيمن عليه التصنيع والعمل اليدويء كأنهما يمسكان بمفتاح إطلاق 
العنان لأداء أفضل داخل أماكن العمل. آنئذء لم يكن المديرون يعتبرون رأس السنة 
أو خطط السفر الخاصة مموظفيهم من شؤونهم. 

كان الرجل الذي يطرح الأسئلة في مصنع إنتاج الهواتف هذا هو إلتون مايو 
وبزة31 دما أستراليًا ذا معرفة واسعة جاءت من مصادر علمية مشكوك في أمرها 
نوعا ما؛ إِذْ مارس الفلسفة والطب والتحليل النفسيء كما خضع لإغراء الكثير من 
المقالات النقدية الثقافية المأساوية التي نشرت خلال السنوات التي تلت الحرب 
العالمية الأولى» مثل كتاب أوزوالد شبنغلر +عاعهءم5 05:14 «تدهور الحضارة 
الغربية» 77656 عط) 4ه عصناء»2. كان مايو مقتنعا بأن الحضارة في سبيلها إلى الانهيار 
وأن الصراع الصناعي سيكون ممنزلة شرارة هذا الانهيار. هكذا كانت النقابات العمالية 
والاشتراكيون خطراء لا على الإدارة ورأس امال وحدهماء بل على السلام العالمي. 

كانت الاشتراكية» في بعض نظريات مايو الأغرب. محض عرض للإعياء البدني 
والمرض النفسيء فكان يجزم بأنه: «بالنسبة إلى أي سيكولوجي بمارس البحثء يبدو 


115 





صناعة الشعادة 
أمرا بالغ الوضوح أن النظريات العامة للاشتراكية؛ والاشتراكية النقابية؛ والأنذاركية؛ 
وكل ما بماثلها ليست إلا أبنية عُصابية خيالية»". وتصور أن الحل الوحيد يكمن في 
مؤسسات تأت لتوفير أشكال العلاج القائم على التحليل النفسي لموظفيهم؛ يُخفف 
آلامهم؛ ويقربهم من أحضان أصحاب العمل. أما الموظفون الذين يقاومون سلطة 
مديريهم فكانوا في حاجة إلى المعالجة. 

هاجر مايو إلى الولايات المتحدة في العام 1922, أولا إلى سان فرانسيسكو حيثٌ 
عمل محاضرا زائرا في بيركلي. لكنه سرعان ما اكتشف أن مؤسسة روكفيلار كانت 
مصدرا مهما لتمويل أي شخص يسعى إلى إجراء أبحاث صديقة للعمل التجاري. 
فحظي بسلسلة من المنح المثمرة على مدى العشرين عاما التالية جعلته يتمتع 
بشيء من الرفاهية الشخصية. أخذته تلك الدراسات إلى الساحل الشرقي حيتٌُ 
سنحت له الفرصة لزيارة عدد من المصائع وتأمل كيفية تطبيق أفكاره. افترضت 
نظرياته السيكوسوماتية أن المشاكل النفسية داخل مكان العمل لن تتعلن عن 
نفسها من خلال انخفاض الإنتاجية والاضطراب الصناعي فقطء بل من خلال ارتفاع 
ضغط الدم أيضا. وخلال الفترة بين 1923 و1925 تجول بين عدد من المصانع في 
بوسطون بصحبة ممرضة وجهاز لقياس ضغط الدمء في مسعى إلى إثبات هذه 
العلاقة بين ما هو عقليء واقتصادي, وجسماني» وهي العلاقة التي كان مقتنعا تماما 
بوجودها بصرف النظر عن الدليل. 

كانت الدراسة السيكولوجية للعمل حقلا ناشئا خلال فترة العشرينيات من 
القرن الماضيء والذي أسسه بعض الباحثين الذين وضعوا الحجر الأساس من قبل 
للدراسة السيكولوجية للإعلان قبل سنوات قليلة. لكن مايو كانت له بعض النظريات 
بعيدة المدى المتعلقة بالطرق التي تستطيع من خلالها استبصارات السيكولوجيا 
إصلاح وإنقاذ الرأسمالية بشكل جوهري. حيثٌ يمكن للعمل, من خلال التركيز على 
الشخص كاملا داخل مكان العملء بما في ذلك جميع اهتماماته الشخصية ورفاهيته 
العقلية, تزويد العمال بأعمق مصادر ال معنى وتجنب مخاطر الاضطرابات الصناعية 
إلى الأبد. وفي العام 6 وظفته كلية هارفارد لإدارة الأعمال. 

سرعان ما أصبحت الدراسة التي تجرى في سيسيرو بولاية إلينويء والتي 


2 


عُرفت باسم «تجارب هوثورن» 5عنلد56 عدعمط12 156 نسبة إلى المصنع 


116 





الموظف السيكوسوماتي 
الذي أجر يت فيه هذة التجارب. معلما رئيسا في علم الإدارة#”. كان مايو أحد 
مؤسسي مختبر الإعياء» لكن أثر عمله تمثل في صرف الأنظار بعيدا عن الجسد 
العامل وإلى سعادة الموظفين العقلية. طبقا للميثولوجيا التي تحيط الآن بتجارب 
هوثورن, جاء اكتشاف مايو الرئيس بمحض المصادفة. إِذْ كانت المرأة العاملة التي 
اختيرت للخضوع للمراقبة والإجابة عن الأسئلة محض عاملة عادية دفعوا بها إلى 
غرفة الفحص حيث يتمكن ال مفحوصون هناك من الاسترخاء والتفاعل في أجواء أقل 
رسمية وأكثر أريحية. بدا هذا كأنه يرتبط بالأداء المحسنء وكانت لدى مايو فكرة 
عن السبب: فالدراسة نفسهاء بما فيها عملية المقابلة, كانت هي ما أدى إلى الزيادة 
في الإنتاجية؛ لأن النساء طورن إحساسا أعلى بهوية الجماعة بينهنء وازداد حماسهن 
للعمل مع تزايد قدرتهن على بناء علاقات فيما بينهن. تُعرف الآن الظاهرة العامة 
التي كانت تُدرس استجابات ا مفحوصات عليها باسم «أثر هوثورن» 1120556 
+5111 لهذا السبب. 
كان الدرس الذي استخلصه مايو من زياراته المتكررة لمصنع هوثورن هو أن 
على المديرين تعلم كيف يتكلمون مع موظفيهم إذا أرادوا استخلاص أكبر إنتاجية 
منهم. كان العامل غير السعيد يعني كذلك عاملا غير مُنتج» حيث التعاسة نابعة 
من شعور غائر بالعزلة. كان عليهم أيضا استيعاب الخصائص السيكولوجية الفريدة 
للمجموعات الاجتماعية التي لا يمكن بأي حال اختزالها في حوافز فردية كما كانت 
تفترض التايلورية وعلم الاقتصاد النيوكلاسيي. فمقدار السعادة التي في مستطاع 
هوية جماعة متآزرة وخصبة أن تسببه للموظف. ومن ثم مقدار المحصلة النهائية 
لما يجنيه المديرونء أكثر بكثير مما تسببه زيادة الراتب. 
ثمة أساس ما للشك فيما إذا كان مايو قد تكلم بناء على بيانات فعلية استقاها 
من هوثورن أم إنه كان ببساطة يعيد ترتيب بعض النظريات التي لطاما اعتنقها 
بشأن مستقبل الرأسمالية. الحقيقة أن إنتاجية النساء كانت تتزامن مع زيادة في 
الراتب في العام 1929 لكن مايو كان غائبا آنذاك» واختار تجاهل هذه الزيادة في 
تحليله”©. وبغض النظر عن الصلاحية العلمية لأبحاثه فإن تأثير مايو في الفكر 
الإداري كان عميقا وطويلا. فأينما نسمع الآن أن على المديرين التركيز على كامل 
الشخص. وليس جانب الموظف فقطء أو أن سعادة الموظف مسألة حاسمة في 


117 





صناعة الشعادة 

المحصلة النهائية» أو أنه ينبغي علينا أن نحب ما نعمل أو أن نكشف عن معدننا 
الأصيل في العملء فنحن نشهد تأثير مايو. وحين يسعى المديرون إلى مزيد من 
الضحك داخل مكان العملء كما يصر الآن بعض المستشارين على ضرورة ذلك. 
أو يسعون إلى تبديل رائحة المكان من أجل تحسين مشاعرنا الذاتية, فهم بذلك 
يمارسون ما نصح به مايو في المقام الأول29, 


إدارة علاجية 

إن ما يلفت الانتباه بشأن مُداخلة مايو خلال التار يخ الأطول لخبرة السعادة. 
هو أنه قلل من قيمة الطرق اللادية الأوضح لتطويع لذات العقل وآلامه. فلم يعتبر 
النقود ولا الجسم ملائمين لفهم مستويات السعادة أو التأثير فيهاء في حال حاولنا 
فهم مكان العمل في ضوء سيكولوجيا الجماعة. وبدلا من ذلك. أصبح الحديث 
مع العمال وتسهيل العلاقات فيما بينهم. هي الأدوات الرئيسة لقياس وتحسين 
إحساسهم بالسعادة. لقد أصبحت الإدارة التي كانت في الأساس تقنية للسيطرة على 
العبيد داخل المزارع» وتطورت باعتبارها وسائل لإدارة شركات الصناعات الثقيلة, 
مهارة ناعمة. اجتماعية وسيكولوجية. 

لكن بينما لم يتصور مايو الأشياء بهذه الطريقة تماماء إلا أنها كانت شكلا من التدخل 
السيكوسوماتي أشبه بالعلاج البديل. كان الهدف من الإدارة في ثلاثينيات القرن الماضي 
على أي حالء لايزال الهدف نفسه في زمن تايلور: زيادة عائد الإنتاج. لكن الآن؛ يركز 
المديرون على العناصر السيكولوجية والاجتماعية بدلا من التركيز على سيرورة العمل 
البدني والفيسيولوجيء متوقعين أن يُثمر ذلك إصلاحات سلوكية ومادية واقتصادية. 

يشير مصطلح «العلاج النفسي» :(صة:046ع[25 اليوم إلى طيف من العلاجات 
يمتد من مزيد من التحليل النفسي والعلاقات طويلة الأمدء إلى العلاجات السريعة 
مثل العلاج المعرفي السلوي الأشبه بالتمرين أو الترويض. لكن الاستخدامات الأولى 
المعروفة للمصطلح كانت تشير إلى العلاج بالكلام الذي وفره الأطباء المتخصصون 
في أواخر القرن التاسع عشرء والذين أدركوا أن استجابة مرضاهم كانت تعتمد 
في الأغلب على طريقة الحديث معهم, الطريقة نفسها التي كانوا يستجيبون بها 
للعلاج الطبي الذي كانوا يتلقونه. 


118 





الموظف السيكوسوماتي 
إن كان ما ينصح به مايو هو الموازي الصناعي لهذا: علاقة حوارية مفتوحة 
يمكن أن تقام بحيث تحدث تغييرا في ذهنية العاملء وبالتبعية تغييرا في أدائه 
البدني. تحول الكلام إلى أداة لدفع الناس إلى الشعور بتحسنء وبالتاليء يتحسن 
سلوكهم. بدا هذا معقولا تماما باعتباره منشطا لآليات التايلورية القاسية. بل يمكن 
فهمه في إطار اتجاهات أكثر تحررية يُفحص من خلالها الجماعات باعتبارهم 
كيانات مستقلة قد تتيح للمؤسسات أن تدار بصورة أكثر دمموقراطية في المستقبل. 
لقد وضع بحث سيكولوجيا الجماعات في خدمة العديد من الأمور إبان الأربعينيات 
والخمسينيات من القرن الماضيء بدءا من تحليل قيادة الدبابات في أثناء الحرب إلى 
تحليل المستهلكين عبر جلسات النقاش”*. 
كان مايو يصبو بصفة شخصية إلى تخدير العواطف السياسية. حيث كان من 
شأن الإدارة العلاجية تقليل التعاسة, وإلى جانبهاء المقاومة. كانت الدروب الأخرى 
متاحة أيضا. فبمجرد النظر إلى الحديث والتعاون على أنهما عنصران جوهريان في 
الإنتاج الاقتصاديء نبصر بريق اقتصاد تحويلي أكثر ديموقراطية. ألا يمكن أن تكون 
الخطوة التالية عقب سؤال اللمرأة العاملة عن أمانيها الثلاث. هي دعوتها إلى الإدلاء 
برأيها في الطريقة التي يُدار بها العمل؟ وألا يمكن أن تتقدم الأمور سياسيا بدءا من 
هذه النقطة؟ لقد تهكم مايو من الفكرة. لكن نقد الأوليغاركية الإدارية لا يمكنه 
إهمال الإمكانية التحررية للسيكولوجيا الاجتماعية كليا. 
مع ذلك أضحت القارنة مع العلاجات الطبية السيكوسوماتية كاشفة أكثر مع 
التقدم الذي حدث في الفترة التي تلت الحربء وذلك لسببين متزامنين: الأولء هو أن 
طبيعة العمل في الغرب أصبحت أقل اعتمادا بشكل مطرد على القوة البدنية خلال 
النصف الثاني من القرن العشرين. فبحلول ثمانينيات القرن الماضيء م تعد رعاية 
الموظف ولا أخلاقيات الخدمة ولا الحماس لها مصادر عقلية وجدت للمساعدة في 
انتزاع مزيد من المنتجات؟ إذ أصبحت هي امنتج ذاته. هكذا تضحي أهمية سعادة 
الموظف والولاء السيكؤلوجي أكبر بمجرد ضلوع الشركات في تجارة بيع الأفكار 
والخبرات والخدمات. تنطق الشركات التجارية بلسان حال الأصول غير ال ملموسة 
ورأس امال البشري على أمل الإمساك بروح مكان العمل عديمة الشكل هذه. لكنها 
عمليا لا تشبه أصلا ولا رأسّ مال. لذلك ثمة حاجة إلى طريقة أخرى لتصور العمل. 


119 





صناعة الشعادة 

السبب الثاني هو بدء مفهوم الصحة في التعرض لبعض التغيرات العميقة. ففي 
العام 1948, أعادت منظمة الصحة العالمية الناشئة تعريف الصحة باعتبارها: 
«حالة من الرفاهية الجسمانية والعقلية والاجتماعية الشاملة»- وهو افتراض شديد 
الطوباوية مم يبلغه أي منا قط. فتتصدر الجوانب غير الملموسة من الصحة والمرض 
المشهدء خصوصا أن فكرة المرض العقلي نشأت في الوقت نفسه الذي تقلص فيه 
عدد المشافي العقلية 25دن انكف [85012:5 وهي فئة من الأمراض ممكنها أنْ تسري 
حرفيا بين بشر يمارسون حيوات عادية نسبيا داخل المجتمع؛ لا تختلف عمن يعانون 
أمراضا جسمانية شائعة. 

لقد مارس الوعي بأن السيرورات العقلية مكوّن حاسم في الصحة. تأثيرا عميقا 
في السياسة الصحية والممارسة الطبية؛ مُجريا تبديلات على طبيعة الخبرة الطبية في 
أثناء ذلك. كان هذا يُعرف في بعض الأحيان باسم «طب الإحساس» بوصفه يُقحم 
إحساس المرضىء لا أجسادهم فقطء في التقييم الطبي لأول مرة. وبحلول سبعينيات 
القرن العشرينء توافر عدد من مقاييس جودة الحياة التي استعملت في تقييم مار 
الصحة والتي كانت تراعي وجهة النظر الذاتية للمريضء وليس حالته الجسمانية 
فقط”*”. وظهرت مقاييس متدرجة للعافية بدلا من التحليلات الثنائية بين الحياة 
والموت والصحة والمرض. ويعد هذا في جزء منه إرهاصا بتقدم طبي: فمادام أداء 
الطب في منع الوفاة آخذا في التحسنء فلا مندوحة من تحويل الانتباه إلى مسألة 
مدى كفاءته في دعم الحياة. 

لكن ما علاقة أي من ذلك بالإدارة أو العمل؟ كانت المشكلة التي تواجه 
ا لمديرين وصانعي القرار السيامي خلال النصف الثاني من القرن العشرين هي أن 
كل شيء بدا كأنه يتبخر في الهواء في الوقت ذاته. صار العمل غير ملموس مع فقدان 
التصنيع لأهميته. وأصبح المرض غير مرثئي مع ازدياد المشاكل العقلية والسلوكية. بل 
أصبحت النقود نفسها غير ملموسة مع عولة النظام مالي منذ أواخر الستينيات. 
فراحت مشكلات النشاط والحماس تنتقل بشكل مراوغ بين مجالات الطب والعلاج 
النفسي وإدارة مكان العمل وعلم الاقتصاد. أصبح الفصل بين تحديات الرعاية 
الصحية وتحديات العمل التجاري تزداد صعوبة مع تصدر مسألة الصحة العقلية 
واجهة التواصل بينهما. وباتت وظيفة الإدارة تشبه بشكل متزايد وظيفة العلاج 


120 





الموظف السيكوسوماتي 


النفسي بنفس التصوز المبدئي للعلاج بالكلام ودعم رفاهية الأفراد. من أجل الحفاظ 
على حماسهم للوظائف الخدمية مستعرا قدر الإمكان. 

ومع تغير طبيعة العمل والإدارة تغيرت أيضا طبيعة المقاومة. حيثُ تتخذ 
معارضة الإدارة في العادة شكلا يختلف عما يفضله المدير ذاته. فالوضع الكلاسيكي 
بالنسبة إلى العامل كي يُعارض التايلورية في سعيها إلى تقليص البشر لمجرد رأس مال 
جسديء يتمثل في الرد أو الإضراب من خلال نقابة مهنية. ويُقال للمديرين آنذاك. 
وقد تجاهلوا مشاعر أو رغبات العامل؛ أن الأخير سيعجز عن الاستمرار في إضرابه 
لفترات أطول. ظ 

لكن مع تمدد أسلوب مايو في الإدارة العلاجية خلال فترة ما بعد الحربء بدأت 
المعارضة تتخذ شكلا معاكسا. شيئا فشيئاء مع تشجيع عمال ما بعد التصنيع على 
التصرف على سجيتهم والكلام بصراحة وصدق مع مديريهم: أصبح الشكل الباقي 
الوحيد للمعارضة هو العودة إلى الجسد المادي مرة أخرى. المفر الوحيد من مدير 
يرغب في أن يصبح صديقك هو أن تصبح مريضا بدنيا. هكذا بات المرضء مع اتساع 
قائمة التشخيصات المتاحة و«مثلنة» الصحة الشاملة, واحدا من الطرق المهيمنة 
التي يُعلن من خلالها رفض العمل عن نفسهء منذ سبعينيات القرن العشرين 
بخاصة. من الواضح أن الإدارة لا تستطيع التركيز على العلاقات والمشاعر الذاتية 
وحدهاء تماما مثلما تعجز عن التركيز على الجسد الْنْتجٍ وحده. فما نحن في حاجة 
إليه. إذا كان الأمر يتعلق بتوريط الموظفين تماماء هو علم «نفس جسدي» حقيقي 
يستطيع التعامل مع العقل والجسم باعتباره جزءا متكاملا من نظام واحد في سبيل 
تحسينه. يجرنا هذا إلى فصل أخير في حكاية الإدارة السيكوسوماتية. 


العمل الكلي 7011 1810[15)16”* والرفاهية 

في العام 1925, لاحظ طالب طب غنمساوي يبلغ من العمر تسعة عشر عاماء 
ويدرس في جامعة براغ, اسمه هانز سيلاي ع5 5هدآ2 شيئا شديد الوضوح إلى 
درجة أنه لمم يجرؤ على إبلاغ معلمه عنه. ذلك أنه خلال ملاحظة صفه الدرامي عددا 
(*) الكلية صددناه1؟: نظرية وضعتها الطبيبة النفسية كارين هورني (1952-1885) بإعمه11 دعمه»! تعتبر الشخص 


كلا واحدا يؤثر في الوسط المحيط ويتأثر به. [المترجم]. 


121 





صناعة السعادة 


من المرضى المصابين بعلل مختلفة, طرأ إلى سيلاي بغتة وجود شبه ما بين جميع 
المرضىء بصرف النظر عن حالتهم الطبية. كانوا جميعا يشكون صداعا وآلاما في 
المفاصل وفقدانا للشهية ولسانا مُبيضًا. باختصار, بدوا جميعا مرضى. 
وقد صوّر هذه اللحظة فيما بعد هكذا: 
حتى الآن - بعد نصف قرن - لاأزال أذكر بوضوح الانطباع العميق 
الذي تركته تلك الأفكار علي آنذاك. إذ لم أع سبباء منذ فجر تاريخ 
الطبء يضطر الأطباء إلى السعي إلى تركيز كل جهودهم على التعرف 
على أمراض الفرد واكتشاف علاجات مُحددة لهاء من دون إيلاء أي انتباه 
يُذكر ا هو أشد وضوحا وهو «متلازمة أن تكون مريضا فقط»!”. 
تلقى سيلايء حين عرض هذه الفكرة على أستاذه - والتي مفادها أن المرضى 
يبدون مرضى- ردا ساخرا فحواه أن الرجل إذا كان سمينا؛ فهو يبدو سمينا. لكن 
سيلاي رفض التخلي عن فكرته. كان في طفولته يلازم أباه. وهو واحد من طابور 
الأطباء الطويل في عائلة سيلايء في أثناء زياراته للأسر الفقيرة في فييناء وكان يحظى 
بموهبة خاصة في استيعابه المتوارث, والكلي بعض الشيء. لعملية الشفاء””. فوفقا 
لما أدركه الأطباء النفسيون, كان التفاعل الشخصي من جانب الطبيب مع المريض 
مكونا حاسما في كيفية استجابة المرضى للعلاج. 
يمتلئ تاريخ النفعية بآمال متقطعة بشأن احتمال وجود مقياس موحد لتفاؤل 
البشر بمكنه العمل كأداة يمكن من خلالها اتخاذ جميع القرارات العامة والشخصية. 
يرتكز هذا النموذج إلى رجاء مفاده أن التغلب على التباس الثقافة البشرية 
وتعدديتها قد يكون ممكنا عبر معرفة كيان واحد يمكن قياسه. وسواء كان عبر فكرة 
المنفعة؛ أو الطاقة؛ أو القيمة أو الانفعال. فإن مشروع الواحدية «ددنصده]2 دانما ما 
يحتوي على هذا الشكل من التبسيط. كان سيلاي يضرب على وتر رؤية أخرى لهذا 
النموذج» من خلال ملحوظته شديدة الابتذال هذهء وهي أن ال مرضى يبدون مرضى. 
وقد استغرقت منه عشر سنوات أخرى حتى يطورها إلى نظرية علمية اصطلح على 
تسميتها «متلازمة التكيف العام» 57201026 8)105]م603. 
كان الجديد في هذه الفكرة من منظور الطبء هو أن المتلازمة التي كان سيلاي 
يصفها غير مُحددة: إذ إن لها مجموعة من الأعراض الشائعة, لكنها لا ترتبط. بصورة 


122 





الموظف السيكوسوماتي 

حازمة بأي مسيبات أو اضطرابات بعينها. كان يستكشف هذه المتلازمة من خلال 
إجراء تجارب مختلفة على الحيوانات. فكان يغرقها في الماء البارد؛ ويجرحها؛ ويدس 
لها السم؛ كي يرى كيف تحفز أشكال متباينة من الأعمال الوحشية صيغ الاستجابة 
البيولوجية المتطابقة. 

وكشأن أي نظام بيولوجيء. يحس جسم الحيوان بمنبهات وتدخلات وحاجات 
خارجية مختلفة عليه الاستجابة لها. وما كان سيلاي مهتما به هو طبيعة تلك 
الاستجابات التي يمكنها أحيانا أن تتحول إلى مشكلة في حد ذاتها؛ ذلك أن 
الأنظمة البيولوجية التي تتعرض لفرط التنبيه أو ندرته تشرع في التوقف عن 
العمل. حيث ترتكز صحة أي حيوان إلى مستوى مثالي من النشاط بعيد عن 
الإفراط أو الضآلة. وم يكن البشر مختلفين من وجهة نظر سيلايء فالمرضى 
الذين بدوا ببساطة مرضى في صفه الطبي ذلك اليوم كان لديهم جميعا شكل 
عام من رد الفعل الجسماني على مجموعة شديدة التباين من الأمراض. كانت 
نمة نظرية واحدية تنشأ عن الصحة العامة. 

حتى أربعينيات القرن العشرينء كان مصطلح الإجهاد 5555 يستخدم ف 
المقام الأول للإشارة إلى الفلزات, وم يكن معروفا قط خارج دنيا الهندسة والفيزياء. 
فالقضيب ال معدني يُصبح مجهدا حين يعجز عن مجاراة الضغوط المفروضة عليه. 
وقد أدرك سيلاي أن ما اعتيره ا مهندسون تلفا في جسر مثلاء كان هو المشكلة ذاتها 
التي اصطلح سيلاي على تسميتها ب «متلازمة التكيف العام» في الجسم البشري. 
كانت تلك المتلازمة مؤشرا عمليا إلى معدل التلف داخل الجسم””. لكنه أعطى 
المتلازمة اسما جديدا في أعقاب الحرب العالمية الثانية, هو «الإجهاد النفسي» 
9. وبحلول الخمسينيات أصبحت هذه التلازمة حقلا جديدا مميزا للبحث 
الطبي والبيولوجي. 

وكشأن مايوء لم ير سيلاي نفسه قط أكاديميا فقط: بل كان في مهمة. ووفقا 
لفهمه الكلي للمرض فإنه في مستطاع مجتمعات وثقافات بأكملها أن تصبح مريضة 
إذا خسرت قدرتها على التكيف مع المنبهات والمطالب الخارجية. وبالمثلء فإنها 
يمكن أن تسقط في خمول سلبي إن لم تتعرض لمنبهات كافية. لقد ظل سيلاي مع 
تقدمه في العمر يطور هذه الفكرة إلى شيء يكاد يكون فلسفة أخلاقية. وإن كانت 


123 





صناعة الشعادة 


فلسفة متمركزة حول الذات بشكل مخيف. كان يقول إن المجتمع الصحي هو 
ا مجتمع الذي يُبنى على الغيرية الأنانية ددوندغل4 ع وزمع8 التي هب من خلالها 
كل فرد لبذل قصارى جهده للفوز بافتتان الآخرين. ينتج هذا شكلا من التوازن 
الطبيعي يُصبح فيه الأناني ونظامه الاجتماعي متتامين: 
لا أحد يصنع عداوات شخصية مادام تمركزه حول ذاته؛ وتكديسه 
القسري للأشياء الثمينة لا يُعلنان عن نفسيهما إلا من خلال تحريض 
مشاعر الاحترام والامتنان والرضا وكل المشاعر الإيجابية الأخرى التي 
تُحيله إلى شخص مفيد وغالبا لا غنى عنه بالنسبة إلى المحيطين به”". 
لكن على رغم طموحه في تقديم علم قادر على تشخيص جميع المشكلات 
الاجتماعية, قيدت البيولوجيا سيلاي كثيرا حين تعلق الأمر بتقديم تفسيرات. إذ 
كانت فرضيته الواحدية المميزة تقوم على أن أي مجتمع أو هيئة هي مجرد نظام 
بيولوجي أوسع وأكثر تعقيداء بمكن تفسير سلوكه على أساس تصرفات الكائنات 
الحية والخلايا داخله. 
وبعيدا عن دراسة سيلاي البيولوجية. وسياسته التحررية مفتولة العضلات؛ فإن 
الطبيعة غير المحددة للإجهاد النفسي مثلت فرصة ستتغلغل في نهاية المطاف داخل 
عام الإدارة. فالإجهاد النفسي, كما قال سيلايء ليس إلا نمطا خاصا من رد الفعل على 
أي طلب زائد. وكان هذا أمرا يناسب صيغ البحث السيكولوجي أو التنظيمي على 
السواء. في الحقيقة, كان الجيش الأمريكي قد انتبه للمتلازمة نفسها خلال الحرب 
العالمية الثانية من دون أن يستخدم لفظ الإجهاد. في الأشكال الشائعة من الانهيار 
النفسي الذي يتعرض له الجنود الذين يقضون فترات طويلة جدا في أرض المعركة. 
ذلك أن المطالب المجهدة التي توضع على عاتق الإنسان ليست جسمانية فقطء بل 
اجتماعية وسيكولوجية كذلك. كان ما يجري بين الحاجة والاستجابة مفتوحا على 
طيف من التفسيرات العلمية المختلفة التي تتجاوز مجرد التفسيرات البيولوجية 
وحدها. ما جعل دراسة الإجهاد النفسي تتحول إلى حقل متعدد الاختصاصات 
بشكل واضح. 
ونظرا إلى أن تلك الأبحاث تختص بدراسة كيف يتعامل البشر مع الحاجات 
الجسمانية والعقلية. فقد أعارت نفسها أيضا إلى دراسة العمل. فوفقا للتعريف. 


124 





الموظف السيكوسوماتي 
يعد الإجهاد النفسي شيئا نصادفه من دون اختيار مناء لكن لا نستطيع تحاشيه. 
وهو غالبا ما يحدث حين نقع في شرك موقف ما ونضطر إلى التجاوب معه. لقد 
نشأ حقل الصحة المهنية خلال ستينيات القرن العشرين بهدف استيعاب الطريقة 
التي يؤثر من خلالها العمل فيناء جسمانيا وعقليا. وقد أثمرت دراسة كيف تتطلب 
أنماط مختلفة من المهن إصدار استجابات هرمونية وانفعالية متباينة عددا من 
النتائج الفارقة بالفعل. ذلك أن المتطلبات المفرطة لم تكن وحدها ما يؤذي البشرء 
بل كان شح مقتضيات مكان العمل- السأم- هو الآخر ضارا وفقا لا أدرك سيلاي. 
إن انشغالنا الراهن بالبطالة باعتبارها خطرا محتملا على الصحة هو أحد تجليات 
التخوف من الأمر الأخير. 
وتماما كما أدى تشديد مايو على الحوار إلى الانفتاح لتلقي نقد مساواتي 
أكثر دقة للتسلسل الهرمي للعمل التجاري. حققت دراسة الإجهاد النفسي 
داخل مكان العمل شيئا مماثلا فترة وجيزة. إذ سلطت الأبحاث التي أجراها 
عام النفس روبرت كان صطهةكا 80562 كان وزملاؤه في جامعة ميشيغان في 
أوائل الستينيات من القرن الماضيء الضوء على الطرق الكثيرة التي تؤثر من 
خلالها بنى السلطة وتصميم العمل في صحة الموظفين”. فالوظائف التي تُصمم 
بشكل سيئ ونقص اللمعرفة بمكان العمل كانا شريكين واضحين باعتلال الصحة 
الجسمانية والعقلية. حيثٌ يُعد غياب أي تأثير في مكان وزمان قيام الفرد بأداء 
مهمة ماء عامل إجهاد نفسي يلقي بظلاله الضارة على العقل والجسم. كما أصبح 
عدد من المسارات الواضحة التي تربط بين ظلم هرمية العمل وثغرات الجسم 
البشريء بالغة الوضوح. أحد تلك المسارات شديدة الأهمية كان اكتشاف أن 
الإجهاد النفسي يسبب إفراز هرمون الكورتيزول في الدم مما يؤدي إلى تصلب 
الشرايين وزيادة مخاطر الإصابة بالنوبات القلبية””. وعلى رغم الهاجس القوي 
بشأن إنهاك الرؤساء التنفيذيين» فإن هذا الشكل من الإجهاد النفسي أكثر شيوعا 
بين أولئك الذين يفتقرون إلى النفوذ أو المنزلة الخاصة في العمل. 
بحلول الثمانينيات, أصبحت المتلازمة غير المحددة التي بينها سيلاي أول مرة في 
قاعة محاضراته في العام 1925 إحدى أكثر المشكلات التي تواجه المديرين في العالم 
الغربي إلحاحا. إذ مم يعد العمال يبلغون عن إعياء جسماني صريح من النوع الذي 


125 





صناعة الشعادة 


ربما يكون فريدريك تايلور قد وعاه. ولا كانوا غير سعداء بالطريقة التي ربما يكون 
إلتون مايو قد أدركها بها. بل باتوا الآن يبدون انكماشا في النشاط؛ وشكلا من الانهيار 
السيكوسومات الذي أصبحنا نتعارف عليه بمفهوم الإجهاد النفسي. في المملكة المتحدة, 
في العام 2012 تخطى الإجهاد النفسي إصابات الإجهاد المتكررة باعتباره السبب 
الرئيس في الغياب عن العمل. لا يسهل تصنيف الإجهاد النفسي على أنه مرض عضوي 
أو مرض عقاي؛ فقد يكون ما يُعززه هو العمل أو أنماط أخرى من المطالب الاجتماعية 
أو السيكولوجية أو الجسمائية التي لا يستطيع الفرد التعاطي معها ببساطة. 

كان علم الإجهاد النفسي ذا أهمية بالغة للمديرين المشغولين بنضوب عمالهم. 
كما أضحى أحد الاهتمامات الأساسية بمهنة الموارد البشرية التي كانت تسعى خلف 
حكمة بدائية بناء على نطاق واسع من الشكاوى البيولوجية والنفسية والاجتماعية. 
لقد أدى الاتساع المطلق للعوامل المساهمة في الإجهاد النفسي - وبعضها ملموس. 
والآخر غير ملموس - إلى إضفاء صعوبة بالغة على تحقيق أي تحكم فيها. هذا 
بالإضافة إلى المخاطر السيكوسوماتية الجسيمة التي يتعرض لها أصحاب الوظائف 
غير المستقرة ممن يتنقلون بين مهن مختلفة. من دون وجود مديرين يدعمونهم 
من شهر إلى آخر. إن أحد الاستنتاجات التي نخرج بها من ذلك هو أنه طبقا 
لدراسات الصحة المهنية التي أجريت في الستينيات: فإن سياسات العمل الأساسية 
باتت قاصرة عن أداء مهمتهاء » وهي في حاجة إلى مزيد من التحول الكامل» لا لمجرد 
علاج طبي متدرج. لكن ثرى هل يكون هذا هو الدرس الذي تعلمناه؟ 


ثأر تايلور 

كان موقف إطلاع المرأة الشابة التي تعمل في مصنع «هوثورن» إلتون مايو في 
العام 1928 على أنها كانت تتمنى زيارة النرويج لقضاء رحلة زفاف هناك. سيمثل 
مستوى غير مسبوق من الحميمية لو كان مايو مديرها في العمل. لكن مديري 
الشركات الكبرى في أوائل القرن العشرين ينشدون شكلا مغايرا تماما من الحميمية 
مع موظفيهم. 

لنأخذ يونيليفر +©#ءلنهت]. وهي شركة عالمية لتصنيع المنتجات الغذائية 
ومنتجات التجميل والنظافة.: مثالا. في العام 2001 طليت إدارتها العليا برنامجا 


126 





الموظف السيكوسوماتي 
لمساعدتهم شخصيا على إدارة مستويات الطاقة لديهم. وذلك بسبب المخاوف 
التي كانت تراودهم بشأن تبعات أنماط الحياة العملية للمسؤولين التنفيذين69,. 
وبسبب وجودهم داخل الصناعة التي هم فيهاء كانت نمة خبرة واسعة تُعينهم على 
تصميم هذا البرنامج. فكان برنامج الصحة والرفاهية «لامبلايتر» #ءقطعن1اصصنة.آ 
(أطلق عليه اسم «إيغنايت يو» 17 166مج1 في أستراليا) هو النتيجة, وهو منتج يدوي 
لمساعدة الإدارة العليا على الحفاظ على مستويات أدائها ومقابلة خطر الإصابة 
بالإجهاد النفسي. سرعان ما أصبحت الفوائد التجارية للبرنامج شديدة الوضوح. 
مع تقدير يقول إن كل جنيه يُصرف على البرنامج يُدر 3.73 من الجنيهات في 
المقابل. فسارعوا بطرحه في عشرات المكاتب الخاصة بشركة يونيليفر حول العالم 
إن برامج مثل :118]6م1.20 تزداد انتشارا يوما تلو الآخرء وهي تسعى إلى 
تحديد طيف واسع من مخاطر الصحة والرفاهية بين العمالء بما في ذلك أنشطة 
الموظفين الرياضية ومرونتهم العقلية. ويقتضي البرنامج خضوع موظفي يونيليفر 
بشكل رسمي (وإن كان بشكل سري) للتقييم فيما يتعلق بسلسلة من السلوكيات 
المرتبطة بالتغذية والتدخين وتناول الكحوليات وممارسة التمرين والإجهاد النفسي 
الشخصي. حيث أخذ مكان العمل الحديث على عاتقه اليوم عددا من السمات 
الخاصة بغرفة الفحص لدى الأطباء. تماما كما كان يُطلب من الأطباء الاضطلاع 
بمهارات ادير التحفيزي. إن ما يشار إليه باعتباره «تقانات هيلث2.0» طغله»11 
0 من أجل المراقبة الرقمية للرفاهية هي غالبا تقانات لا يمكن تمييزها عن تقانات 
تحسين الإنتاجية. كما قوبل تطبيق «هيلث» طالهء11 في آيفون 6 عصمطط1 الذي 
أطلق في سبتمبر 2014 بحفاوة باعتباره مثالا آخر على تصور شركة آبل عاصمه 
لحيواتنا اليومية»ء من دون التوقف كثيرا للتفكير في هوية من صمم هذا التطبيق 
لأجله في الحقيقة. كما أنه لا حاجة إلى التذكير بأن أصحاب العمل وشركات التأمين 
على الصحة ومقدمي الخدمات الصحية هم من بين أكثر المتحمسين لقياس الهاتف 
المستمر للسلوك الجسماني. 
ويقدم كثيرون من أصحاب العمل المؤيدين للممارسة المثلى عضوية مجانية 
في صالات الألعاب الرياضية لموظفيهم الأكثر تقديراء بل وإرشادا نفسيا مجانيا. 


127 





صناعة السعادة 


وتطرح شركات خدمات رجال الأعمال مثل فيرجين بالس 156نا8 صذع»ة (وهو 
اسم كاشفء حيث يبدو معدل النبض كأنه يمثل الحياة في صورتها الأكثر قابلية 
للقياس)!*2. مجموعة متكاملة من البرامج السيكوسوماتية التي تهدف إلى تحسين 
طاقاتهم البدنية ومدى اهتمامهم ودوافعهم الحقيقية. من خلال مراقبة وتمرين 
رقميين واسعين. وكلما بدأ الطابعان المادي والنفسي للعمل - وللمرض كذلك - في 
الامتزاج معاء أصبح التمييز بين مفاهيم الصحة والسعادة والإنتاجية أكثر صعوبة. 
وينتهي الحال بأصحاب العمل بأن يتعاملوا مع الأمور الثلاثة بوصفها كيانا واحدا 
ينبغي تعظيمه عبر عدد من المنبهات والأدوات. هذه هي الفلسفة الواحدية 
لمديري القرن الحادي والعشرين: كل عامل يمكنه أن يصبح أفضلء من حيث الجسم 
والعقل والإنتاج. 

تحول الأمل السياسي في أن تلقى الفوائد التي يحظى بها البشر من الحوار 
والتمكين وفي مقر العمل مزيدا من الاعتراف. إلى مصدر إحباط؛ وذلك بسبب دمج 
إدارة الأداء والرعاية الصحية في علم واحد يختص بتحسين الرفاهية. وعلى رغم ذلك 
ثمة علماء اقتصاد سيامي مغالون يمثل لهم تجريد العمل المعاصر من طبيعته المادية 
مجالا يسمح ببناء نموذج اقتصادي جديد كليا". إذ من الممكن أن يُصبح الانتقال 
إلى اقتصاد قائم على المعرفة تكون فيه الأفكار والعلاقات هي المصدر الرئيس لقيمة 
العمل أساسا لبنى جديدة كليا لمكان الغمل تُصبح فيه السلطة لامركزية وتتخذ 
فيه القرارات بشكل جماعي. مة أسباب معقولة تدفع إلى الظن بأن نماذج كهذه 
ربما تنتج إجهادات «نفس جسدية» أقل, ما يعني أنها ربما تكون أكثر كفاءة من 
النماذج الراهنة. لكن إذا كان الحوار داخل مقر العمل عاملا ضروريا لزيادة الإنتاج 
- كما سلم مايو - فلماذا إذن لا نقر بوجود تأثير حقيقي له في كيفية اتخاذ القرارات 
حتى أعلى مستوى؟ وبدلا من حديث الإدارة الساخر الذي يلوي الكلمات للتلاعب 
بالعواطف في انتظار أن يثمر ذلك عائدا أكبرء فإن مزيدا من التفكير الأمين في 
مشاكل اعتلال الصحة المهنية قد يقود إلى التساؤل عن احتكار المناصب والمكافآت 
من قبل عدد ضئيل من المديرين الكبار. عوضا عن ذلك يجري إنقاذ أشكال الإدارة 





(؛*) كلمة مواد التي يتضمنها اسم الشركة تعني «النيض». [المحرر]. 


128 





الموظف السيكوسوماتي 
والهرمية التقليدية على يد مراقبة رقمية مطلقة تتيح تعقب السلوك والاتصال غير 
الرسميء, وتحليله وإدارته. 
نشهد الآنء بدلا من صعود شركات بديلة, العودة الحذرة إلى أسلوب الإدارة 
العلمية الذي نادى به فريدريك وينسلو تايلورء في الوقت الذي تتوافر فيه قدرة 
أكبر على الفحص العلمي للجسم والحركة والأداء. لقد انتقل خط النار في تقويم 
أداء العامل إلى أجهزة مراقبة الجسم ومعدل النبض ومشاركة بيانات الحالة الصحية 
الراهنة. وذلك من أجل تحليل احتمالات الإصابة بالإجهاد النفسي. من المستغرب 
أن نقول إن المفهوم الذي يمثل العامل «الجيد» قد عاد إلى نقطة البداية الأولى 
في سبعينيات القرن التاسع عشرء بدءا من جذور دراسات التخلص من الإعياء, 
مرورا بعلم النفسء والطب السيكوسوماتي رجوعا إلى الجسم من جديد. ربما 4 لون 
العقيدة الإدارية بشأن تحقيق الأمثل في حاجة إلى شيء ملموس تتشبث 


109 





أزمة السلطة 


طفق حزب المحافظين البريطانيء خلال 
السنوات الأخيرةء ينظر إلى مؤتمره السنوي 
باعتباره كارثة علاقات عامة في انتظار الوقوع. 
إذ تشهد هذه اللقاءات التي تنعقد على نحو 
تقليدي في مدن ساحلية مثل برايتون «مخطعمء8 
وبلاكبول 0[1هجكء813. حضور آلاف اللمندوبين 
عن نوادي المحافظين المحلية الذين يجتمعون 
بحثا عن قادة راغبين في التخلص أخيرا من 
إزعاج الصواب السياسي والقيم الحديثة. فهناك 
حرج محتمل يتربص من كل زاوية إما بسبب 
العنصرية الرخيصة التي تتدفق من منصة 
ا مؤتمرء أو نتيجة المواقف الذكورية المبتذلة وغير 
الواضحة للشخصيات الواقعة في دائرة الضوء. 


7 
«ضمت حركة مناهضة الطب النفسي 
بعضا ممن رأوا مهنة الطب النفسي 
برمتها مشروعا سياسيا يهدف إلى 

السيطرة الاجتماعية» 





131 





صناعة الشعادة 


لكن في العام 7, بعد عامين من زعامة مارغريت تاتشر للحزبء كان قد 
جرى حقن أعمال المؤتمر بجرعة من الألوان الشابة والمفاجئة. وذلك حين اعتلى 
المنصة طالب يبلغ من العمر ستة عشر عاما يتحدث بلكنة شمالية ثقيلة يُدعى 
ويليام هيغ عدوةة1 دصدنال18 وأثار عاصفة من التصفيق بين الحاضرين الذين 
يتصفون بالرزانة عادة: ومن بينهم المرأة التي ستواصل لتصبح رئيسة الوزراء 
طوال أحد عشر عاما. ْ 

راح المراهق يسخر برفق من مستمعيه وسط انتقاد عنيف لدولة حكومة 
حزب العمال الاشتراكية, بقوله: «الأمور لا بأس بها بالنسبة إلى أغلبكم, فنصفكم 
لن يكون هنا خلال ثلاثين أو أربعين عاما». مستمرا في تحديد جوهر التهديد 
الاشتراكي: «هناك مدرسة واحدة على الأقل داخل لندن لا يسمح فيها لكل تلميذ 
بالفوز بسباق في الركض سوى مرة واحدة. بدعوى الخوف من أن الفوز أكثر من 
مرة يجعل التلاميذ الآخرين يبدون أقل شأنا. هذا مثال كلاسيكي للدولة الاشتراكية 
التي تنجرف إلينا أكثر فأكثر مع كل حكومة يُشكلها حزب العمال». 

بعد عشرين عاماء أصبح هيخ الزعيم الجديد للحزبء لكنه م يفلح قط في 
تذوق طعم النصر الانتخابي كزعيم كما فعلت بطلته خلال الثمانينيات. على أنه 
ما من ريب في أنه كان مبتهجا بالكيفية التي تطور بها المجتمع البريطاني خلال 
تلك الفترة. فبعد عشرين عاما من السياسات التاتشرية؛ مم تعد مظاهر الدولة 
الاشتراكية تُلاحظ بأي مكان إلا نادراء لعل أقلها كان في حكومة طوني بلير العمالية 
المنتخبة حديثا. كانت قد ترسخت عقيدة سوق حر داعم لرأس المال بأرجاء العالم 
الغربي, وتماشيا مع رؤية هيغ في سنوات المراهقة؛ لم تكن الجاذبية السياسية 
للرياضة التنافسية أقوى من ذلك بأي فترة أخرى قط. 

ظلت الرياضة خلال فترة الازدهار الاقتصادي الطويلة التي استمرت منذ 
أوائل التسعينيات حتى الانهيارات المصرفية في العامين 2007 و22008 فضيلة 
الزعماء السياسيين بكل مكان التي لا يرقى إليها الشك. فأصبح اجتذاب المنافسات 
الرياضية الدولية, ككأس العام لكرة القدم والألعاب الأوليمبية بالنسبة إلى بعض 
المدنء شأنا عاما بالنسبة إلى النخبة السياسية التي تأمل الاستمتاع بالدفء الذي 
يعكسه مجد الرياضيين امُحترفين الناجحين. هكذا بدأ طوني بليرء بوصفه رئيس 


132 





ازمة السلطة 

وزراءء يعتاد أريكة برنامج هيئة الإذاعة البريطانية الرئيس المخصص لكرة القدم 
كي يثرثر بأريحية عن مهارات لاعب خط الوسط الأثير لديه. كذلك حاول خليفته؛ 
جوردون براونء الفوز بنصيبء. حيث استغل يومه الأول في مقر رئاسة الوزراء 
لإلقاء خطاب استشهد فيه بفريق كرة القدم الأمريكية في مدرسته باعتباره 
مصدر إلهامه المستمر. وحين ترنحت سلطته في صيف العام 2008 عاد براون إلى 
«ثيمة» هيغ الأصلية, ملقيا بكل ثقله على مزيد من الرياضة المدرسية التنافسية, 
حين أعلن: «هذه هي الروح التي نرغب في تشجيعها داخل مدارسناء لا ثقافة 
«الأوسمة للجميع» كما شهدنا في السنوات السابقة. بل مزيد من التنافس». 

في أثناء ذلك: كان هناك القليل من الاستعارات الرياضية التي لا يمكن 
تسويغها على ما يبدو. إذ كان كل تضخم يصيب أجور التنفيذيين يُفسّر على 
أنه مصلحة الحفاظ على تكافؤ للفرص في حرب على المواهب. فحين وقع طوني 
بلير تحت ضغط محاور في العام 2005 سأله عن تفاقم اللامساواة التي كانت 
حكومته تباشرهاء أجاب: «التأكد من تقاضي ديفيد بيكهام أجرا أقل ليس طموحا 
مستعرا بالنسبة إلي» على الرغم من أن كرة القدم لم تكن لها علاقة بالسؤال". 

حتى بعد الفشل الملحمي للنموذج النيوليبرالي في العام 2008, عادت الطبقة 
السياسية البريطانية إلى هذه الطنطنة معلنة أن السباق العامي يستدعي خفض 
الرفاهية وتحرير أسواق العمل أكثر. لقد أصبحت الحاجة إلى ترسيخ المنافسة, 
باعتبارها الثقافة ا مميزة للشركات والمدن والمدارس والأمة بأكملها من أجل التغلب 
على المنافسين الدوليينء شعار فترة ما بعد تاتشر. ويحشد الآن علمٌ يختص بالفوز, 
سواء أكان في العمل التجاري أم الرياضة أم في الحياة فقطء رياضيين سابقين 
ومعلمي إدارة أعمال وإحصائيين بهدف استخلاص دروس من الرياضة وتطبيقها 
على السياسة. ومن الحرب لتطبيقها على إستراتيجية إدارة الأعمال. ومن التدريب 
على الحياة لتطبيقها على المدارس. 

لكن كما تصور الشاب المراهق هيغ المستقبل خلال ثلاثين أو أربعين عاما 
تالية»ء فلم يكن هناك سوى اتجاه رئيس واحد للمرحلة الجديدة لمم يستطع هو 
أو أي شخص آخر التكهن به. وهو يُظهر أن المنافسة وثقافة التنافس. بما في ذلك 
التنافس الرياضيء على علاقة وثيقة باضطراب نادرا ما كان يُطرح للمناقشة في 


133 





صناعة الشعادة 
العام 1977 لكنه أصبح شاغلا أساسيا من شواغل السياسة في نهاية القرن. فمع 
اقتراب عقد السبعينيات من نهايتهء كانت الدول الرأسمالية الغربية قد وقفت 
على أعتاب مرحلة جديدة كليا من الإدارة السيكولوجية؛ وكان الاكتئاب هو 
الاضطراب الذي يصيب قلب هذه المرحلة. 

إحدى طرق ملاحظة العلاقة بين الاكتئاب والمنافسة تتمثل في العلاقات 
الإحصائية المتبادلة بين معدلات التشخيص ومستويات التفاوت الاقتصادي 
بالمجتمع. فوظيفة التنافس على أي حال هي إنتاج عائد غير متساو. وتسجل 
المجتمعات الأكثر مساواة, كالدول الاسكندنافية: مستويات اكتئاب أقل ومستويات 
رفاهية أعلى إجمالاء في حين يتفشى الاكتئاب في ا مجتمعات التي تعاني اللامساواة 
بصورة حادة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة”. وتشدد الإحصاءات كذلك 
على أن العوز النسبي - أي أن تكون فقيرا مقارنة بالآخرين - يمكنه أن يسبب 
بؤسا مماثل لما قد يؤدي إليه العوز المطلقء طارحة بذلك أن الإحساس بالدونية 
وحالة القلق هما ما يشعلان شرارة الاكتئاب إضافة إلى ضغط القلق بشأن النقود. 
لهذا السببء يبدو أثر اللامساواة على الاكتئاب واضحا مع تدرج الدخل. 

على رغم ذلكء ثمة ما يتجاوز مُجرد علاقة إحصائية متبادلة؛ فخلف الأرقام, 
هناك دليل مزعج على أن روح اللنافسة ذاتها قد تسبب الاكتئاب. لتصيب 
به لا الخاسرين فقطء بل الرابحين أيضطء لقد ثبت أنْ جِغْل المنافسة كثيرا من 
الناس يبدون أقل شأنا - وهو ما عرفه هيخ بأنه تخوف اشتراي - أكثر صلاحية 
بكثير مما تصور معلمو المدارس اليساريون أثناء السبعينيات؛ ذلك أنه يخيرهم 
هم أيضا أنهم أقل شأنا. خلال السنوات الأخيرة ظهرت موجة من الرياضيين 
امُحترفين الذين يعترفون بمعاركهم مع الاكتئاب. ففي أبريل 2014 كتب فريق 
من الرياضيين السابقين البارزين في المملكة المتحدة خطابا مفتوحا يحثون فيه 
«المديرين الرياضيين؛ والمدربين؛ وقادة برامج التنمية على حضور تنمية «اللياقة 
الداخلية» إلى جانب «اللياقة البدنية», وذلك بهدف وقاية الرياضيين المحترفين 
من هذا الوباء». 

كانت دراسة أجريت في جامعة جورجتاون قد اكتشفت أن احتمال إصابة 
لاعبي كرة القدم الجامعيين بالاكتئاب يبلغ ضعف احتمال إصابة من لا يمارسون 


134 





أزمة السلطة 

اللعبة. واكتشفت دراسة أخرى أن النساء الرياضيات يكشفن عن سمات شخصية 
مشابهة لسمات من يعانين اضطرابات في الأكل؛ إذ ترتبط السمات في الحالتين 
بهوس الكمال©. كما أجرى عام النفس الأمريكي تيم كاسر 16295565 1152" سلسلة 
من التجارب والدراسات المسحية كشفت عن ارتباط القيم الطموحة المنصبة 
على النقود والمنزلة والنفوذ, باحتمالات أكبر للإصابة بالاكتئاب وإحساس أدنى 
بتحقيق الذات”. فأينما نقيس جدارتنا الذاتية بالنسبة إلى الآخرينء» كما تضطرنا 
كل المنافساتء فإننا بذلك نخاطر بفقدان إحساسنا بقيمة الذات تماما. إحدى 
المفارقات الأكثر إثارة للحزن هُنا هي أن أثر هذا يتمثل في صد الناسء بمن فيهم 
أطفال المدارسء عن الانخراط في التمرين البدني من الأساس". 

قد لا يكون من المفاحئ إذن أن مجتمعا مثل المجتمع الأمريكي الذي يمنح 
ميزات خاصة للعقلية الفردية التنافسية بكل لحظة في الحياة, قد تخللته تماما 
اضطرابات اكتئابية وطلب على مضادات الاكتئاب. اليوم. يعتقد نحو ثلث 
الراشدين في الولايات المتحدة والنصف تقريبا في المملكة المتحدة أن نوبات من 
الاكتئاب تراودهم بين الحين والآخرء على رغم أن معدلات التشخيص أقل من 
ذلك بكثير. وقد كشف علماء النفس أن الأفراد يميلون إلى الإحساس بسعادة أكبر 
إذا ما نسبوا إلى أنفسهم الفضل في نجاحاتهم, لا إخفاقاتهم. قد يبدو ذلك أحد 
أعراض التوهم. لكن يمكن القول إنه ليس أكثر توهما من ثقافة تنافسية اكتئابية 
تنسب كل نجاح وكل إخفاق إلى قدرة وجهد الفرد. 

ألم تكن أمريكا دانما مجتمعا تنافسيا؟ أليس هذا هو حلم المستوطنين 
الأصلي؛ الآباء المؤسسين ورجال الأعمال الذين بنوا الرأسمالية الأمريكية؟ لا 
ريب أن أسطورة المجتمع التنافسي كما في الرياضة تعود إلى وقت يسبق 
بكثير أواخر السبعينيات. وعلى رغم ذلك لم يترسخ وباء الاكتئاب ذاك أول 
مرة إلا في تلك الفترة. يبدو مُستغربا الآن التفكير في أنه في العام 1972 
كان الأطباء النفسيون البريطانيون يشخصون الاكتئاب بمعدل يساوي خمسة 
أضعاف مثيله لدى نظرائهم الأمريكيين. مع ذلكء. لايزال الأمريكيون منذ 
العام 0 يستهلكون مهدثئات تتجاوز ضعف ما يستهلكونه من مضادات 
للاكتئاب... ما الذي تغير؟ 


135 





صناعة الشعادة 


من الأفضل إلى المزيد 

اعتلى هيغ البالغ من العمر ستة عشر عاما منصة المؤتمر أثناء نقطة 
تحول في تاريخ صناعة السياسة الاقتصادية بالعالم الغربي. وطبقا لأكثر مقياس 
مُحترم للامساواة في الدخل, فإن بريطانيا لم تكن أكثر مساواة في أي لحظة من 
تاريخها منذ العام 71977. لكن في الوقت نفسه. كانت مسألة رفع القيود 
عن السوق تكتسب أرضية أقوى, وتكافح لأجلها الشركات التي أحست أنها 
وقعت ضحية للمنظمين والنقابات وجماعات ضغط المستهلكين'”. دائما 
ما كان التضخم يقود عددا من الحكوماتء. من بينها الحكومة البريطانية, 
للتجريب في ترشيد الإنفاقء وهو مسعى للتحكم في كمية النقود المتداولة 
لكنه يشكل تهديدا للنمو الاقتصادي والوظائف أيضا. كانت تاتشر ورونالد 
ريغان صدودءع1 4ه متأهبين لإعلان بداية ال مرحلة التي سوف تعرف 
باسم الليبرالية الجديدة أو النيوليبرالية. 

إن إحدى طرق استيعاب النيوليبرالية هي دراسة كيف تطورت الأمور: تصاعد 
أجور التنفيذيين؛ ا مستويات غير المسبوقة للبطالة؛ الهيمنة المتزايدة للقطاع امالي 
على بقية الاقتصاد والمجتمع؛ توسعة تقنيات إدارة القطاع الخاص لتشمل كل 
مناحي الحياة. إن تحليل هذه الاتجاهات أمر شديد الأهمية؛ لكن من المهم أيضا 
استيعاب كيف وئاذا كانت هذه الاتجانات ممكنة. وهو ما يقتضي التحول إلى 
الاتجاه المعاكس, صوب العشرين عاما التي سبقت دعوة هيغ الشاب إلى حمل 
السلاح. فخلال هذين العقدين انزاح كثير من مكونات النيوليبرالية الحاسمة من 
الهوامش الخارجية إلى الاحترام الفكري والسياسيء لتصبح ال معتقد المؤسس لرحلة 
جديدة. وكان من بين تلك المكونات التقدير المجدّد للتنافسية وإدارة السعادة. 

كانت هناك نسبية حادة في جوهر معارك الستينيات الثقافية والسياسية, 
أجهزت على جذور السلطة الأخلاقية والفكرية والثقافية, بل العلمية. حيث صار 
الحق في إعلان أن بعض السلوكيات «معيارية»» وأن مزاعم بعينها «حقيقية», وأن 
نتائج محددة «عادلة»», أو أن ثقافة ما هي «الأسمى» - موضع شك. وحين هممت 
منابع السلطة التقليدية على تلك الأشياء بالدفاع عن مزاعمهاء وجدت نفسها 
متهمة بتقديم منظور جزئي واحدء وأنها تستغل لغتها الأبرشية لتحقيق ذلك. 


1036 





أزمة السلطة 

وحلت مواءمة بسيطة بين الشيء ونقيضه بدلا من جعل بعض القيم أفضل أو أكثر 
صحة من غيرها. 

كانت الأسئلة السياسية والفلسفية الجوهرية المطروحة إبان الستينيات هي 
التالي: كيف يمكن اتخاذ أي قرارات مشروعة علانية: في الوقت الذي مم يعد فيه وجود 
لتسلسلات هرمية معترف بها عموما أو لقيم مُشتركة؟ ومن أي مصدر ستستقي 
السياسة لغتها الدارجة. في الوقت الذي أصبحت فيه اللغة نفسها مُسيسة؟ وكيف 
سيُمثل العام والمجتمع, في حين أصبح يُنظر إلى التمثيل نفسه باعتباره منحازا وعملا 
سياسيا؟ كانت المشكلة» من وجهة نظر حكومية: هي أن مدى الديموقراطية صار 
يمتد بعيدا. 

كان ما يحرك رؤية جيرمي بنتام لسياسة علمية نفعية مبدئيا هو إلحاح على 
تطهير السيرورة القانونية والعقاب من هراء التجريد الذي اعتقد أنه لايزال يلوث 
لغة القضاة والسياسيين. بهذا ال معنى» كان يأمل أن تنقذ هذه الرؤية السياسة من 
الفلسفة. لكن نظر إليها بشكل مُختلف؛ سيتبين أنه يمكنها أيضا خدمة وظيفة 
مغايرة. ففي مستطاع اللجوء إلى القياس الرياضياتي إنقاذ السياسة من الديموقراطية 
المفرطة والتعددية الثقافية أيضا. وقد عاود التشديد البنتامي على قياس قوي 
وعلمي للرفاهة السيكولوجية الظهورٌ في أعقاب عقد الستينيات في أشكال مُختلفة, 
بعضها اقترن بالثقافة المضادة, والبعض الآخر كان يُنادي به المحافظون في الظاهر. 
لكنهم نجحوا سياسيا إلى حد أنه كان في مستطاعهم الزعم بوجودهم خارج نطاق 
الجدل. فما كان يجمعهم هو استخدام الأرقام باعتبارها وسائل لإعادة خلق لغة 
عامة مشتركة. 

في عام نعجز عن الاتفاق فيه على ما يعد خيراء وما يُعد شرا؛ لأن المسألة برمتها 
مسألة منظور شخصي أو ثقافيء يتقدم القياس باعتباره حلا. فبدلا من الإشارة إلى 
الجودة. يُشير إلى الكمية. ومن تمثيل مدى النفع. يُشير إلى الكم. ومن هرمية القيم 
بدءا من الأسوأ إلى الأفضل. يطرح مسطرة تبدأ بالحد الأدنى إلى الأقصى. تستطيع 
الأرقام تسوية النزاعات حين يعجز ما عداها على -الأرجح عن ذلك. 

إن جوهر إرث الستينيات هو أن ما هو أكثر أفضل بالضرورة مما هو أقل. وأن 
تنمو يعني أن تتقدم. وبغض النظر عما يريده الفرد أو يرغب فيه أو يؤمن به 


137 





صناعة الشعادة 
فإن الأفضل له هو الحصول على أكبر قدر ممكن من تلك الحاجات أو الرغبات 
أو المعتقدات. صار هذا الإيمان بالنمو بوصفه خيرا في حد ذاته واضحا من خلال 
بعض الحركات السيكولوجية وحركات الثقافات الفرعية. حيث حاول علم النفس 
الإنسانوي كما طوره أبراهام ماسلو 2135101 تضقطةءطة وكارل روجرز 02:21 
5 إعادة توجيه علم النفس- والمجتمع ككل - بحيث يبتعدان عن مبادئ 
الاعتيادية ويتجهان إلى السعي إلى تحقيق إنجاز يفوق ما عداه”. كان يُنظر إلى 
الأفراد على أنهم منضوون تحت مواءمة ثقافة الخمسينيات البليدة التي أعاقت 
قدرتهم على النمو. ولافتراض ذلك كان افتراض أن ثمة حدا طبيعيا أو أخلاقيا للنمو 
الشخصي يعد تراجعا إلى التقاليد القمعية. لكن لم يمض وقت طويل قبل أن تقيم 
الشركات حجة مماثلة بشأن التأثير المؤذي لتنظيم السوق في نمو الأرباح. 

أجرد بت المحاولة الأولى على الإطلاق لقارئة مستويات السعادة لدى أمم بأكملها في 
العام 1965, على يد مستطلع الآراء السابق للرئيس روزفلت؛ هادلي كانتريل 11201 
لص . حيثٌ أجرى. بالتعاون مع شركة غالوب لاستطلاع الرأي. دراسات مسحية 
على أفراد من الجمهور حول العام بطريقة جديدة تماماء اصطلح على تسميتها 
ب«مقياس التحديد الذاني للازدهار» علهء5 عستحلن5 عد مطعءمة- 11ء5. لطاما كان 
مستطلعو الآراء مهتمين تاريخيا بمشاعر الأفراد تجاه المنتجات والسياسات والزعماء 
أو مؤسسات بعينها. خمثل ابتكار كانتريل في سؤالهم عما يحسونه تجاه حيواتهم 
بالنسبة إلى تطلعاتهم. حيثُ دعا البحث السلوي الناس إلى أن يطلوا على العالم 
ويعبروا عن آرائهم في صورة أرقام. كما طلب منهم كانتريل التفتيش داخلهم وفعل 
ا مثل. كانت هذه الدراسات حدثا بارزا في مسار تطوير دراسات السعادة المعاصرة. 
لكن داخل فكرة التحديد الذاتي للازدهارء هناك أيضا تلميح إلى عزلة وتشتت مجتمع 
لا شيء لديه سوى الإنجاز الخاص باعتباره اللبدأ الأشمل. 

المشكلة أنه حتى مجتمع تحقيق الذات والنمو لايزال في حاجة إلى أحد أشكال 
الحكومة وسلطة معتمدة. لكن من سيوفر ذلك؟ من أين ستأقي الخبرة لكتابة . 
القواعد المؤسسة لهذا المجتمع النسبي المهووس حديثا بالنمو؟ 

إن ما نشهده. في الفترة من أواخر الخمسينيات إلى أواخر السبعينياتء هو 
صعود سلالة جديدة من الخبراء القادرين على إعادة بناء سلطة مناسبة لهذا 


138 





أزمة السلطة 
المشهد الثقافي الجديد. وعلى خلاف السلطات العلمية والسياسية التي يزيحونها 
- غالبا عن عمد - فإن سلطتهم كانت تخلو من النظريات الأخلاقية التقليدية 
البالية عن النزعة المهنية» وتضرب بجذورها بدلا من ذلك في قدرة متجردة على 
القياس والتصنيف والمقارنة والفرز والتشخيصء غير مثقلة على ما يبدو بهموم 
أخلاقية وفلسفية أو اجتماعية. كان الخبراء القدامى يحتفظون بأفكار مثل المصلحة 
العامة والعدالة والحقيقة. قريبة منهم. ووفق طرح بنتام, فقد كانوا ضحايا طغيان 
الأصوات التي تجهد بها النظرية العقل. كان الخبراء الجدد محض تقنيينء يطبقون 
الأدوات والمقاييس التي تباهوا بإعلان أنها تمثل نظرية غير منحازة. 
وفي الوقت الذي كانت فيه النزاعات السياسية تستعر إلى حد اندلاع العنف 
بل أكثر. شكل العلماء التجريديون المؤهلون للقياس والتصنيف مصدرا جديدا 
جذابا للسلطة. كانت هذه الروح مضادة ثقافيا ومحافظة في ذات الوقت: مضادة 
ثقافيا لأنها انتزعت سلطات المؤسسة القديبمة من عليائها. ومحافظة لأنها كانت 
تفتقر إلى أي رؤية لتقدم سياسي خاص بها. في هذا الصدد., قدم أولئك الخبراء 
مخرجا من الحروب الثقافية. ومن خلال سير ثلة من الباحثين الذين انتقلوا 
من أطرا اف الأوساط الأكاديمية الأمريكية نحو العام 1960 ليصبحوا المهندسين 
ا معماريين مجتمع جديد تنافسي قمعي بحلول العام 1980 في مستطاعنا رؤية 
بذور النيوليبرالية تُغرس. 


بنتام في شيكاغو 

فمة شيء غريب بعض الشيء يتعلق بالمنطقة المجاورة لهايد بارك شيكاغو 
عاتهظ ع20ز115 5' مودءنط0؛ فشوارعها التي تصطف على جانبيها الأشجار ومنازلها 
التي تعود إلى القرن التاسع عشر تبدو كالكثير من ضواحي الطبقة الوسطى العليا 
التقليدية الأمريكية. وفي وسطها ترتفع جامعة شيكاغو المهيبة التي تُحاي الأسلوب 
القوطي بكلية من كليات أكسفورد. وتكتمل بأبراج قروسطية ونوافذ ذات زجاج 
ملون. يمكن أن نغفر للسائح الذي يتجول في أرجاء الهايد بارك المحاطة بالأشجار, 
حيثُ يتسلق شجر اللبلاب الجدران والعشب المشذب بعناية. نسيان أين كان 
تحديداء قبل أن يجيء تذكير في صورة هواتف الطوارئ المثبتة فوق أعمدة بيضاء 


139 





صناعة الشعادة . 


في كل ركن داخل الجامعة وحولهاء وتبث نورا أزرق من فوقها. إن هايد بارك حرم 
للسلم والمعرفة, لكنها تقع داخل الجانب الجنوبي لشيكاغو؛ حيثُ يسدى النصح 
للزوار ألا يضلوا بعيدا بأي اتجاه مشيا على الأقدام. 

كانت هذه الشرنقة التي تقع داخلها الجامعة عاملا مميزا في تطوير مدرسة 
شيكاغو في علم الاقتصاد. والتي كانت ذرائعية المنحى في تصميم وتطبيق ثورة 
السياسة النيوليبرالية. تبعد شيكاغو نفسها 700 ميل عن واشنطن العاصمة. و850 
ميلا عن كامبريدج في ولاية ماساتشوستس 5فا»ةنادء113553حيتُ جامعة هارفارد 
ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجياء معقلا الاقتصاد الأمريكي الأصيلان. مم يكن الأمر 
يقتصر على احتشاد اقتصاديي مدرسة شيكاغو داخل هايد بارك. بل وجودهم على 
مسافة مئات الأميال فقط من قلب المؤسسات الأكاديمية والسياسية. هكذا لم يكن 
أمامهم خيار سوى النقاش معاء فانخرطوا فيه على مدى ثلاثة عقود عقب نهاية 
الحرب العاطية الثانية من دون أن يصيبهم التبرم إلا فيما ندر. 

بدأ الباحثون الذين أصبحوا يُعرفون بمدرسة شيكاغو بالالتفاف حول قيادة 
عالي الاقتصاد يعقوب فينر #عصالا طمء2[ وفرانك نايت غطونص! علصوءظ إبان 
الثلاثينيات. وبحلول أواخر الخمسينيات أصبحوا أسرة شديدة التماسك. وفي حالة 
واحدة. تحولت الروابط الأسرية إلى روابط فعلية: حين تزوج ميلتون فريدمان 
مممرل 72 ده]3411 من روز ديركتور 217602 2056 شقيقة أرون ديركتور 
مم21 رمعدة عصب مدرسة شيكاغو فترة ما بعد الحرب. وإلى جانب 
وجودهم داخل عزلة جغرافية ماء حظي أولئك الاقتصاديون بعدد من السمات 
الفكرية والثقافية المشتركة, من بينها حساسية المنبوذين. 

كانت شيكاغو حتى ظهور التصدعات في برنامج السياسة الكينزية!* الذي 
هيمن في السابق إبان السنوات الأولى من السبعينيات. نادرا ما تؤخذ على 
محمل الجد بوصفها مركزا لعلم الاقتصاد. وم تنل إلا اعتراف هارفارد ومعهد 
ماساتشوستس للتكنولوجيا على مضض مع تكشف ثورة ريغان. آنذاك. على رغم 
ذلك. شرع اقتصاديو شيكاغو في مراكمة جوائز نوبل بشكل ثابت. كان فريدمان 


(#) نسبة إلى جون مينارد كينز (1883 - 1946) وعصرع! 4مقصترة84 صطول, عام الاقتصاد الإنجليزي الشهير الذي 
كان لأفكاره أثر كبير في الاقتصاد املعاصر والنظريات السياسية والنقدية للحكومات. [اللترجم]. 


10 











أزمة النستطة 
الذي حاز مكانة بين مشاهير المحافظين مع انقضاء عقد الستينياتء ابنا ممهاجرين 
يهوديين» وكان يتباهى بافتقاره إلى أوراق اعتماد مؤسساتية. واعترف غاري بيكر 
#عءاء»8 :إ5و. وهو عضو آخر بارز في المدرسة» بأن هناك «شظية على كتف كل 
منهم»!*0100. كان إحساسهم بضرورة تحطيم المعتقدات التقليدية يدفعه شعور بأن 
أمريكا كانت تديرها نخبة من المفكرين الليبراليين من أبناء الشمال الشرقي الذين 
يدُعون ببساطة أن لهم الحق في الحكم. 
تلا ذلك ارتياب مشترك في الحكومة. وأحد الأشكال التي ذاع من خلالها 
هذا الارتياب كان تطبيق التحليل الاقتصادي على سلوك المشرعين وبيروقراطيي 
الحكومة لبيان أنهم انتهازيون سواء مؤسسات أم مستهلكين داخل السوق. 
كما صرف عمل جورج ستيغلر 568165 660:86 المعروف «بالسيد مايكرو» 
10 .:34: قياسا للقب فريدمان «السيد ماكرو» 3818750 .3011 (وهي مزحة 
نظرا إلى كون عاط الاقتصاد الجزئي 241506200070156 ستيغلر أطول بما يزيد 
على قدم من صديقه عام الاقتصاد الكلي أكتصمدهءء21220): أنظار التحليل 
الاقتصادي بعيدا عن الأسواق. صوب أولئك القابعين في واشنطن ممن كانوا 
يزعمون العمل للمصلحة العامة. | 
لا يعني الارتياب في الحكومة مناهضة الدولة بالضرورة, كما تبين لاحقا. فريدمان 
زار تشيلي في ربيع العام 1975., بأكثر الحلقات إثارة للجدل في حياة مهنية مثيرة 
للخلافء لتقديم النصح لنظام حكم بينوشيه (1915 - 2006) غ6ء100ف2 السلطوي. 
وأقل ما يُقال عن هذا الانخراط مع ديكتاتور عسكري. بالنسبة إلى رجل أعلن 
تعاطفه مع الأناركية, أنه كان رياء. لكن فريدمان دافع عن نفسه ببساطة باعتباره 
رجلا كان يسعى وراء المعرفة العلمية وعلى استعداد للشاركتها مع أيما شخص يجد 
لديه الرغبة. على أي حالء لم تكن شكوى مدرسة شيكاغو ضد الحكومات تتعلق 
بامتلاكها نفوذا مفرطاء بل - وفقا لبنتام - لأنها كانت تستخدم هذا النفوذ بشكل 
غير علمي. باختصار, كان صناع القرار السياسي في حاجة إلى الإنصات للاقتصاديين 
من كثبء وهي النظرة التي تكشف أكثر ما يميز مدرسة شيكاغو: الإيمان الجوهري 





(*) أن تكون هناك شظية على كتف المرء 146#نامطة عط ده صلطء 5 عحقط 10: تعبير أمريي يقصد به أن يغضب 
المرء لنفسه ويحمل نقمة على من يعاملونه معاملة غير عادلة. [المحرر]. 


11 





صناعة الشعادة 


بأن الاقتصاد علم موضوعي يختص بالسلوك الإنساني الذي يمكن فصله تماما عن 
جميع الاعتبارات الأخلاقية أو السياسية. 

مة نموذج بسيظ للسيكولوجيا يمكن اقتفاء أثره عبر جيفونز وصولا إلى 
بنتام. يشكل أساسا لهذا العلم. ووفق هذا النموذج. لا يكف البشر عن عمل 
مقايضات بين التكلفة والعائد سعيا إلى تحقيق مصالحهم. حيثٌ يفسر جيفونز 
حركة أسعار السوق بناء على تلك العقلانية السيكولوجية من جانب ال مستهلكين 
الذين يطمحون باستمرار إلى تحقيق أعلى عائد بأقل مقابل (أو أعلى قيمة بأقل 
تكلفة). كان ما يميز مدرسة شيكاغو هو أنها نشرت نموذج علم النفس هذا 
ليتجاوز حدود استهلاك السوقء ي ينطبق على جميع أشكال السلوك البشري. 
رعاية الأطفال؛ التواصل الاجتماعي مع الأصدقاء؛ الزواج؛ تصميم برنامج رعاية 
اجتماعية؛ التبرع للجمعيات الخيرية؛ تعاطي المخدرات- كل تلك الأنشطة التي 
تبدو اجتماعية أو أخلاقية أو طقوسية أو غير منطقية في ظاهرهاء أعيد تصورها 
داخل شيكاغو باعتبارها استراتيجيات محسوبة لتعظيم المكسب السيكولوجي 
الخاص. وأطلقوا على هذا النموذج السيكولوجي «نظرية السعر» عءاءط 
لمع ط1:؛ وم يروا حدا لتطبيقها. 

م يضع شخص يده على مضامين هذه النظرية كما فعل غاري بيكر, الذي 
يشتهر اليوم بأنه مطور فكرة رأس الال الإنسانيء وهو مفهوم أسهم في تشكيل 
وتسويغ خصخصة التعليم العالي من خلال إثبات أن الأفراد يتلقون عائدا نقديا 
من الاستثمار في مهاراتهم”". لكن تأثير بيكر الأكبر يتضح في مقاربة تختزل جميع 
المسائل الأخلاقية والقانونية في مشاكل تحليل التكلفة والمنفعة. هل يدمن الأفراد 
المخدرات؟ لا ريب أن سعر المخدرات منخفض جداء أو ربما اللذة التي يحصلون 
عليها منها عالية جدا. السرقة من المتاجر تتزايد؟ لا ريب أن العقوبات (واحتمالات 
التعرض للقبض) هزيلة جدا؛ لكن من ثم مرة أخرىء قد يبدو معقولا تحمل السرقة 
من المتاجر بدلا من استثمار النقود في دائرة تلفزيونية ممُغلقة وحراس أمن. 

لطالما كان الاقتصاديون الذين نفذوا هذا العمل مقاومين شرسين لفكرة أن لهم 
دوافع أيديولوجية. كان كل ما يسعون إلى تحقيقه. وفقا لتفكيرهم. هو تحديد 
الحقائق خالية من شوائب النظريات الفلسفية والأخلاقية البالية التي تحشو عقول 


142 





أزمة السلطة 


منافسيهم الليبراليين في هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أو الساسة في 
واشنطن. كان الشبح السلوي لجون ب. واطسون يحوم في الخلفية» مصرًا على أن 
مراقبا غير منحاز يستطيع استيعاب النشاط البشري ككل معتمدا على الفحص 
العلمي الدقيق. 

خضع هذا التحليل للامتحان داخل بيئة قر الضغط سيئة السمعة بنظام 
ورشة قسم علم الاقتصاد. ذلك أنه في حلقات دراسية أكاديمية تقليدية يقرأ 
متحدث ما ورقة يصادفها الحضور للمرة الأولىء حيث ما من متسع يسمح لأي 
من الحاضرين بتقديم نقد ذي حتى إن شاء. لكن نظام ورشة شيكاغو كان 
مختلفا؛ إذ تتداول الأوراق البحثية سلفا من أجل القراءة ولا يحظى المؤلفون 
إلا بدقائق قليلة للدفاع عما كتبوه قبل أن تنقض غرفة بأكملها تمتلئ بزملائهم 
بحثا عن ثغرات في منطقهم. أو أخطاء في الحجة كأنها فريسة. كان أحد 
المتحدثين العصبيين قد سأل ستيغلر الذي كان ينظم الورشة. ذات مرة: «ترى 
أين أجلس؟»» فتهكم منه الأخير بوجه متجهم: «في حالتك. ينبغي أن تجلس 
أسفل المنضدة». 

لكن ماذا لو كان النموذج السيكولوجي أو نظرية السعر نفسها خاطئة؟ ماذا 
لو م يكن الناس يتصرفون كآلات حاسبة عقلانية للمكسب الخاص. على الأقل 
داخل بيوتهم وحيواتهم الاجتماعية والسياسية؟ ماذا لو لم يكن علم الاقتصاد 
يفي بما فيه الكفاية لاستيعاب سبب تصرف البشر بالطريقة التي يتصرفون 
بها؟ كانت تلك هي الأسئلة التي لا يمكن طرحها أبدا داخل الغرف التي تشهد 
نقاشات قسم علم الاقتصاد في شيكاغو. إذ تقتضي كل نظم الإمبريقية الراديكالية 
امتشككة المناهضة للفلسفة فرضيات معينة بريئة من التدقيق. هذه الفرضية 
في شيكاغو هي نظرية السعرء التي ظلت منذ محاضرات فينر إبان الثلاثينيات 
حتى بدعة الاقتصاد الشعبي الراهنة: «الاقتصاد العجيب» وعنم:مصملوع:5!*, 
محور الإيمان الرئيس لدى مؤسسة تعلن صراحة عدم حاجتها إلى ما تؤمن به. 


(*#) «الاقتصاد العجيب» قن1تصطه0مطوع:1: هو عنوان كتاب لستيفن ليفيت )اذلا.1 546962 وستيفين دوبار 5069611 
12 يحاول فيه المؤلفان اكتشاف الجانب الخفي من كل شيء. من الأعمال الداخلية تعصابات المخدرات, 
وحقيقة الوسطاء العقاريينء إلى أساطير تمويل الحملات. وقصص الغش لدى معلمي الدارس» وأسرار جمعية كو 
كلكس كلان 141213 +1 ك1 العرقية, تكريسا لفكرة أن الاقتصاد في الأساس ما هو إلا دراسة للحوافز. [المترجم]. 


13 








صناعة السعادة 
كيف نقفل شيكاغو؟ 
أرخميدس الذي تطرأ له بغتة فكرة مدهشة ويهتف «وجدتها!» هو 
بطل الأحداث الأكثر استثنائية. لقد أمضيت حياتي اللمهنية كلها في 
رفقة باحثين من الدرجة الأولى سوى أني لم أصادف شيئا شبيها بالإلهام 
الأرخميدسي إلا مرة واحدة - كمراقب. 
بتلك النبرة اللاهثة روى جورج ستيغلر وقائع ورشة عمل بعينها في العام 21960 
عقدت في منزل آرون ديركتور بالهايد بارك. م ينس ستيغلر ذلك المساء قطء وقد سب 
ديركتور لاحقا لأنه م يسجلها على شريط”"؛ إذ أصبحت نقطة تحول في حياته المهنية 
ومدرسة شيكاغو عموما. بل يمكن القول إنها كانت نقطة تحول في مشروع النيوليبرالية. 
كانت الورقة البحثية التي نوقشت ذلك المساء من إعداد الاقتصادي البريطاني 
رونالد كوس 0856© 202214 بجامعة فرجينيا آنذاك. كان كوس دائما ما يقاوم 
المكانة الأيقونية التي كان ستيغلر وآخرون حريصين على خلعها عليه. وقد كان 
عمله يتقدم بروية ومنهجية. عبر طرح أسئلة علمية بسيطة عن سبب تنظيم 
المؤسسات الاقتصادية على النحو الذي هي عليه. وزعم الإخفاق في استيعاب 
الحماس الذي أثارته أعماله./واستقبل جائزة نوبل في العام 1991 بقوله: «إن ما 
فعلته حددته عوامل لم تكن أجزءا من خياراتي». وهو إحساس كان ليصدم أنانيي 
شيكاغو التنافسيين من ذوي الشظايا في أكتافهم باعتباره كلاما أقرب للانهزامية. 
على رغم ذلك سواء بالمصادفة أو بغيرهاء نال هذا الاقتصادي المتواضع ابن 
الطبقة العاملة في كيليرن بلندن دور أرخميدس الملاكمين الفكريين بالهايد بارك. 
وأثناء ذلك. أسهم في فهم جديد أكثر قوة للكيفية التي ينبغي بها حكم الرأسمالية, 
والشكل الذي ينبغي أن تتخذه المنافسة. كما أنهت أبحاث كوس فصلا مهما في نظرة 
سياسية للعام مفادها أنه ما من حدود للمدى والقوة التي يمكن لمؤسسة رأسمالية 
الوصول إليهماء ما دامت تعمل داخل إطار تنافسي. 
لم يوصف كوس قط بأنه نيوليبراليء فضلا عن وصف المحافظ. وقد درس 
على أيدي اقتصادّيين بكلية لندن للاقتصاد إبان الثلاثينيات. هما فريدريك هايك 
عاعترة1] طءعنملء11 وليونيل روبنز وصذططه8 اعدمارآ اللذان كانا ذرائعيين في أثناء 
بزوغ الفكر النيوليبرالي. كان هايك وروبنز يسعيان إلى الحشد لجولة أخرى في 






144 





أزمة السلطة 
المعركة ضد الكينزية . والفكر الاشتراي اللذين ازدهرا خلال الكساد العظيم. من 
خلال تسليط الضوء على الذكاء الفريد الكامن في منظومة السعر الخاصة بالأسواق 
التنافسية. تنسم كوس هذه الأفكار. لكن الأهم هو أنه كان عرضة لشك هايك 
الهائل بشأن مدى قدرة أي علم اجتماعيء. ومن بينها الاقتصاد, على تحصيل المعرفة. 
كان في مستطاع كوسء وقد تسلح بعين شديدة التشكك على رغم تمسكه 
بالمبادئ الرئيسة لنظرية السعرء طرح تساؤل م ينتبه إليه زملاؤه الأكثر ليبرالية في 
شيكاغو: ما هو بالتحديد نفع السوق؟ فلو كان نفعه يتمثل في إنتاج الرفاهية, أليس 
من الممكن آنذاك تحت شروط معينة, تحقيق ذلك بصورة أفضل عبر أنماط مغايرة 
من التنظيم مثل الشركات؟ كان فريدمان ورفاقه, في عدائهم لاختراقات الدولة 
للأسواق قد افترضوا أن للأسواق الحرة المقام الأرفع جوهريا من حيث اللبدأ. لكن 
المفارقة كانت في أن هذا الاعتقاد ألزمهم كذلك بأنماط معينة لتدخل الدولة, أي 
التنظيم وقواعد المنافسة, الذي من شأنه ضمان استمرار السوق في مساره الصحيح. 
تمثل ذكاء كوس في انتباهه لآثار أخيرة لأفكار ميتافيزيقية داخل أعمال مدرسة 
شيكاغوء كانوا هم أنفسهم غير واعين بها. كانت مدرسة شيكاغو تفترض حتى هذا 
التوقيت الحاجة إلى أن تظل الأسواق مفتوحة وتنافسية بحيث تدار وفقا طبادئ 
محددة تكفل العدل والإنصافء وإلا ابتلعتها الاحتكارات. ذلك أن الأسواق تتطلب 
قواعد أساسية في حالة ما إذا كانت تسعى إلى تحقيق تصور أنها مساحة بمارس 
داخلها الأفراد حرياتهم. وهو ما يعني أنها لاتزال تقتضي وجود سلطات قادرة على 
التدخل متى كف المتنافسون عن اللعب بنزاهة أو صار لهم نفوذ مفرط وبدأ 
السوق في الفشل. 
بسبب تفكيره المتشكك. لم يقبل كوس بهذا ال منطق؛ إذ لا وجود ما يتسم بتلك 
البساطة داخل الحياة الاقتصادية الحقيقية. م تكن الأسواق تنافسية بشكل خالص 
قط في الحقيقة؛ لذلك كان التمييز القاطع بين سوق «يعمل» وآخر «يفشل» وهما 
أسفرت عنه النظرية الاقتصادية. كان السؤال الذي انبغى على الاقتصاديين طرحه 
وفقا لكوس هو: هل ثمة دليل قوي على أن تدخلا تنظيميا محددا سيحسن أحوال 
الجميع بشكل عام؟ وليس المقصود ب «الجميع» هنا المستهلكين أو الشركات 
الصغيرة. بل السوق بأكمله الذي يُنظم. كان هذا المضمون نابعا من بنتام: إذ كان 


145 





صناعة الشعادة 
يدعم فكرة أن البيانات الإحصائية لإجمالي الرفاهية البشرية تقود السياسة بكل 
ما تعنيه الكلمة, وتتغاضى عن كل ما يعنيه الصواب والخطأ تماما. وفي حالة غياب 
بيانات كافية تبيح تدخل الحكومة - ومثل هذا الدليل يصعب توفيره - فالأحرى 
بأولئك المنظمين ترك النظام الاقتصادي لحاله. 

إحدى النتائج عميقة الأثر لكلام كوس هي أن الاحتكارات ليست بذلك السوء 
الذي بميل الاقتصاديون إلى افتراضه. فإذا قارنا الاحتكارات بسوق تنافسية فعالة 
كليا فنعم, الاحتكارات شيء بغيض. لكن هذا ما أطلق عليه كوس مستخفا «اقتصاد 
السبورة السوداء»”*)! إذ لو فتح الاقتصاديون عيونهم وأبصروا الرأسمالية كما هي 
في الواقع, فربما يكتشفون أن المساعي التنظيمية لإدارة أسواق تتميز بالكفاءة كانت 
تعوق الإنتاج في الأغلب. في حين كان ترك الشركات لحالها تدير أمورها كما تشاء 
(مستعينة بعقود خاصة وتعويضات حيث يقتضي الأمر) يمكن أن يثمر في الواقع 
أعلى عائد متاح عموما - ليس العائد امثاليء بل المتاح. كانت وظيفة الاقتصاد 
هي أن يحسب بدقة ما ينبغي عمله على أساس كل حالة بمفردهاء لا تقديم رؤى 
طوباوية لسيناريوهات مثالية. 

ظهر تشكك كوس هذا تجاه التنظيم أول مرة في ورقة بحثية في العام 1959 عن 
سوق الاتصالات. وقد أثار ضجة آنذاك. ففي حين م تكن مدرسة شيكاغو صديقة 
للحكومة, كانوا يفترضون على الأقل حاجة الأسواق إلى البقاء تحت السيطرة بعض 
الشيء, في حال م تخضع لهيمنة الشركات الكبرى التي تجني أرباحا مبالغا فيها. من 
جانب آخرء كانوا مفتونين بمنطق كوس النقدي وراديكالية استنتاجاته. لذلك دعا 
ديركتور الباحث الإنجليزي للدفاع عن فرضياته من خلال ورقة بحثية نشرت لاحقاأ 
باسم «مشكلة التكلفة الاجتماعية» 0056 [هه50 4ه 3عاطه:2 عط1: أصبحت 
واحدة من أكثر المقالات التي يستشهد بها في تاريخ علم الاقتصاد. 

وصل واحد وعشرون شخصية من أبرز الشخصيات بقسم الاقتصاد في شيكاغو 
مثل أسماك قرش اشتمت رائحة الدم. كانوا قد قرأوا جميعا الورقة البحثية» وأجري 
تصويت في بداية الأمسية كشف عن رفض الحاضرين جميعا لها. وفقا للطريقة 


(*) اقتصاد السبورة السوداء وعذد:مدهء8 لعوهطعاء812: مصطلح يُطلق على النظام الاقتصادي النظريء الذي لا 
وجود له إلا في أذهان علماء الاقتصاد من دون أي وجود فعلي له على الأرض. [المترجم]. 


146 





أزمة النسلطة 
التقليدية المتبعة في ورشة عمل شيكاغو. كان على ديركتور تقديم كوسء ثم يمنح 
خمس دقائق يشرح ويسوغ خلالها فرضيته قبل أن تمزق أوصاله قوة المنطق 
الاقتصادي. وكما هو الحال في تلك المناسبات. كان ميلتون فريدمان من يتقدم 
مسيرة التفنيد هذه متى آن وقتها. لكن هذه الطرة وقع أمر غير معتاد - إذ م يبد أن 
منطق فريدمان يحقق الأثر المرجو. ها هنا جورج ستيغلر مرة أخرى: 
م يقنعنا رونالد. لكنه رفض الاستسلام لكل حججنا الخاطئة. كان 
ميلتون يهاجمه من جانبء ثم من جانب أخرء ثم من جانب ثالث. ثم 
أخطأ هدفه وهاجمنا نحن وهو ما أثار فزعنا. في نهاية تلك الأمسية 
تغير التصويت, لتصبح النتيجة واحدا وعشرين صوتا مؤيدا لرونالد من 
دون صوت واحد يعارضه", 
وبعبارات أحد طلابه فيما بعد فقد: «قفل شيكاغو»”". لم تكن لدى كوس فأس 
أيديولوجية يدق بها الحكومة: ولا استحوذ عليه حب خاص لرأسمالية غير منظمة 
يأكل فيها القوي الضعيف شأن فريدمان. 
كان ما لديهء وهو ما ألفاه اقتصاديو شيكاغو شديد الإغراءء هو رغبة في 
استجواب كل الفروض التعلقة بالكيفية التي ينبغي بها إدارة النظام الاقتصادي. 
وكل الفروض المتعلقة بماهية المنافسة الصائبة واللنافسة الخاطئةء والتصدي 
للفروض التي يطرحها صانعو القرار السيامي على أنها توضح بالضرورة الفرق بين 
ا منافستين. بل إنه كان أكثر تشككا في سلطة الدولة من فريدمان ورفاقه. من خلال 
تشكيكه في إمكانية وجود سوق مثالي. إذ لم يكن في مستطاع شيء سوى التحليل 
الاقتصادي العلمي أن يحدد ما إذا كان التدخل بهدف التنظيم مطلوبا أو لا. 


التعاطف مع الرأسمالي 

اعتقد ستيغلر أن نموذجا كاملا كان يتحول أمام عينيه. حيث تبخرت الحالة 
النظرية الداعمة لتنظيم الحكومة للأسواق داخل غرفة معيشة آرون ديركتور. 
وذلك حين تبين أنه حتى العام 1960 كانت حتى مدرسة شيكاغو تعمل وفق 
افتراض ميتافيزيقي أخلاقي مفاده أن بعض المواقف كانت في حاجة إلى تدخل 
حكومي جوهري وبعض الواقف لا. كانت «مبرهنة كوس» ططع رمع ط1' و6و002, 


1047 





صناعة السعادة 


كما أطلق عليها ستيغلر فيما بعد. تنفي أن يكون الحال كذلك؛ وتؤكد عدم وجود 
أساس يمكن الاعتقاد بناء عليه أن ذلك التنظيم في مستطاعه تلقائيا تحسين مواقف 

غير أن هذا لم يكن ما قصده كوس. فالورقة البحثية التي دافع عنها في منزل 
ديركتور ذلك المساء من العام 1960 كانت تنفي وجود أساس من حيث اللمبدأ 
لافتراض أن همة ما يستدعي تنظيم السوق بأي شكل. وتنفي وجود أساس من حيث 
المبدأ لافتراض أن استغلال منافس لمنافس آخر شيء بغيض بالضرورة. لكن في الوقت 
ذاته. تنفى الورقة كذلك من حيث المبدأ وجود أساس للاعتقاد أن التدخل المنظم 
للسوق أمر رديء. كان كوس ينادي فقط بتحليل اقتصادي قوي للبيانات المتاحة, 
بوصفه بديلا من فرضيات اقتصاد السبورة السوداء الطوباوية. كانت الحاجة تقتضي 
أن يقوم علماء الاقتصاد بتعيين منظمين؛ وذلك للحفاظ على سلطتهم بين أكثر من 
منظور متنافس لا هو صائب وما هو خطأ.ء باعتبارهم ممثلي الحقائق 

لم يكن لستيغلر وزملائه سوى اهتمام بسيط بمثل هذه الحيادية. إذ كان ما 
يشغلهم آنذاك هو نقدا مهلكا لسلطة المنظمين والمشرعين الأخلاقية ممن توهموا 
العمل للمصلحة العامة في حين لمم تكن تصرفاتهم تصب إلا في مصالحهم الشخصية 
حرفيا (وذلك من خلال خلقٍ مزيد من الوظائف للمنظمين) أو الخروج من السخط 
السياسي باتجاه شركات تحقق أرباحا هاثلة. كان ما أخفق المنظمون وليبراليو 
اليسار في إدراكه بشكل كبير هو أن تلك الشركات الاحتكارية الْمسْتغلة الكبرى 
تخلق رفاهية هي الأخرى. في الحقيقة, إذا ما أطلقنا لتلك الشركات العنان, من 
يدري مقدار الرفاهية التي يستطيعون صنعها؟ 

من المنظور الشيكاغوي شديد التفاؤلء أتاح توسع الشركات العملاقة العمل 
بشكل أكثر كفاءة بما يعود على المستهلكين والمجتمع ككل بفائدة أكبر. لكن الفائدة 
التي تحققت لم تكن رغما عن سلوكها التنافسي العدوانيء بل بسبب ذلك السلوك 
ذاته. دعهم يكبرون قدر استطاعتهم: ويجنون أرباحا قدر ما يمكنهم, ولنر ما يجري. 
لم القلق بشأن تضخم حجم الشركات بدرجة هائلة؟ ومن له الحق في القول إنها 
لا ينبغي أن تكبر؟ بحلول نهاية العقد. أصبح فريدمان يُجاهر بالحجة المؤيدة 
للشركات بوضوح أكبرء وذلك حين كتب في مقال شهير نشر في مجلة «نيويورك تايهز» 


148 





أزمة السلطة 


في العام 0 أن الواجب الأخلاقي الوحيد لأي شركة هو تحقيق أكبر قدر ممكن 
من الأرباح". 

كان السؤال الذي طرحه كوس ذلك المساء من العام 1960 سؤالا شديد 
الجوهرية: لطابما كان المنظمون يتوخون حماية المتنافسين من المتنمرين الكبار, 
لكن ماذا عن رفاهية المتنمر؟ ألم يكن يستحق هو الآخر أن يؤخذ في الحسبان؟ 
إل جاني أنه - وهو ما سعت مدرسة شيكاغو إلى تفسبيه لاحقا - أليس من 
الأفضل للمستهلكين أن يخدمهم نفس المحتكرين الأكفاء بالغي الضخامة: بدلا من 
الاضطرار للاختيار بين متنافسين صغار غير أكفاء؟ فلو كانت رفاهية الجميع موضع 
اعتبارء بما في ذلك رفاهية الشركات الكبرى العدوانية» فإنه ليس من الواضح آنئذ ما 
الفائدة التي كان يحققها تنظيم السوق. 

ههنا كانت النفعية يُعاد اختراعها بمثل هذه الطريقة كي تصبح الشركات ضمن 
حسابات الدولة. ووطارت ومايكروسوفت وآبل م تكن موجودة في العام 21960 
لكنها لم تكن لتحلم بسياسة أكثر تعاطفا من تلك التي حُضرت في شيكاغو على 
خلفية أبحاث كوس. وبمجرد دخول ريغان البيت الأبيضء راحت تلك الأفكار تنتشر 
بسرعة هائلة عبر مؤسسات التنظيم والسياسة بواشنطن العاصمة. قبل أنْ تتغلغل 
في الكثير من المنظمات العابمية خلال عقد التسعينيات7”". وخلال أقل من عشر 
سنواتء. تحول صناع القرار السياسي من رؤية الربحية العالية باعتبارها إشارة 
تحذير من أن مؤسسة ما تتجاوز الحجم المسموح. إلى مؤشر ترحيب بشركة ثدار 
بطريقة بالغة التنافسية. 

هُنا يبرز درس غير متوقع بدرجة بعيدة, وهو أن النيوليبرالية الأمريكية ليست 
في الواقع على تلك الدرجة الكبيرة من الإعجاب بالأسواق التنافسية. بمعنى أننا لو 
كنا نعي السوق باعتباره مساحة يتوافر داخلها الخيار في التعامل بالبيع والشراء 
مع عدد من الناسء ودرجة ما من الحرية لتنفيذ ذلك - فكر في '(ه8» كمثال - فإن 
مدرسة شيكاغو كانت مرتاحة تماما لفكرة تقييد الشركات لهذا الخيار؛ تقييد هذه 
الحرية. على أساس أن هذه القيود تسفر عن مزيد من ال منفعة للجميع. 

لم يكن ما أعجب ستيغلر وفريدمان وديركتور وزملاءهم هو السوق بحد 
ذاته» بل السيكولوجيا التنافسية التي كانت واضحة في رجال الأعمال والشركات 


149 





صناعة الشعادة 


الساعين لإخضاع منافسيهم. لم تكن لديهم رغبة في أن يكون السوق مكانا 
عادلا تتكافأ فيه فرص الجميعء بل أرادوا أن يكون ساحة يحقق فيه المنتصرون 
مزيدا من الأمجاد ويجهزون فيها على الغنائم. كان محافظو شيكاغو هؤلاء. 
بانجذابهم لإمكانات رأس الال اللامحدودة. يضفون جاذبية مماثلة على منطق 
النمو كما كانت تفعل الثقافة المضادة وعلماء النفس الإنسائويون. وتبدد الفرق 
بين استراتيجية الشركة وسلوك الفرد مع استعارة غاري بيكر حول «رأس المال 
البشري»؛ إذ أصبح كل شخص وكل مؤسسة بمارسان لعبة طويلة الأجل من أجل 
تحقيق السيادة, سواء أكان السوق موجودا أم لا. 

بأي معنى يظل اقتصاد «الفائز يربح كل شيء» هذا تنافسيا؟ ربما يكمن 
مفتاح لغز الرؤية الشيكاغوية في ثقافتهم الفكرية القتالية. فأولئك المنبوذون 
المزعومون ذوو الشظية في الكتف كانوا يؤمنون بأنهم لم يخسروا أي معركة. إِذْ 
انفرد فريدمان بتكريس حياته المهنية لتفنيد أرثوذوكسية كينزية عالمية على مدى 
ما يقرب من أربعة عقود. إلى أن أصبح يُنظر إليه آخر الأمر في أواخر السبعينيات 
باعتباره قد «ربح». وما من ريب في أن كوس قد أذهل مضيفيه جزثيا باستعداده 
لدعم رؤيته التي تعارضها الأغلبية. بل التفوق عليهم. كان حقا لنخبة هارفارد 
ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والحكومة الفيدرالية الاستمتاع بالفترة التي 
تشهد هيمنتهمء لكن كان عليهم التعاطي بمزيد من الجدية بعض الشيء مع 
محدثي النعمة هؤلاء في شيكاغو منذ البداية؛ ذلك أنه عندما تمكن النيوليبراليون 
من تذوق طعم الانتصار الفكري والسيامي. شرعوا في القتال بالشراسة نفسها 
للحفاظ على هذا الانتصار. لم يكن نمط شيكاغو في المنافسة يتعلق بالتعايش مع 
الخصوم, بل بتدميرهم. حيثٌ اللامساواة لا تعني ظلما أخلاقياء بل تمثيلا دقيقا 
للاختلافات في الرغبة والقوة. 

إن رسالة مدرسة شيكاغو لأي متذمر من أن السوق تهيمن عليه اليوم شركات 
عملاقة, رسالة شديدة القسوة: امض وأسّس شركتك العملاقة المستقبلية. ما الذي 
بمنعك؟ أليست لديك الرغبة الكافية؟ ألا تملك الروح القتالية بين ضلوعك؟ لو كانت 
الإجابة بالنفي, آنئذ يكون الخطأ منكء لا من المجتمع. يطرح هذا سؤالا يتعلق بما 
يجري لعدد هائل من البشر داخل مجتمع نيوليبرائلي غير مهووسين بحب الذات 


0ظ10 





أزمة السلطة 
والعدوانية والتفاؤل كما لدى شخص كميلتون فريدمان أو ستيف جوبز. وللتعامل 
مع مثل هؤلاء. ظهرت الحاجة إلى علم مختلف تماما. 


علم الانكماش 

تعرضت قدرة الأفراد على الكد والنمو لأضواء علمية مغايرة بعض الشيء في 
الفترة بين العامين 1957 و1958؛ نتيجة لاكتشافات عرضية متزامنة حققها طبيبان 
نفسيان هما رونالد كون صطدكا 2210ه1 وناثان كلاين عصأل1 صدط)ة11 من الولايات 
المتحدة وسويسرا. وكما هي الحال مع الكثير من الاختراقات العلمية الكبرىء فمن 
المستحيل أن نحدد من له قصب السبق؛ وذلك لسبب بسيط هو أنه لا أحد منهما 
كان يدرك تماما حقيقة ما توصل إليه. كانت مرحلة علم الأدوية النفسية لاتزال 
في بداياتها مع اكتشاف أول دواء فعال لعلاج الشيزوفرينيا في العام 1952 وإجراء 
أول تجارب التحكم العشوائي الناجحة (حيتٌ يُختبّر الدواء إلى جائب دواء آخر 
وهمي لا يعرف المتلقي أيهما تناول) على الفاليوم في العام 1954. لتفتتح بذلك تلك 
الاكتشافات أرض الكيمياء العصبية الجديدة أمام الأطباء النفسيين. 

وعلى العكس من مطوري تلك العلاجات المضادة للقلق والشيزوفرينياء م 
يكن كلاين وكون واثقين من طبيعة الاضطراب الذي يسعيان إلى استهدافه. إذْ 
بدأ كلاين تجاربه بدواء اسمه إيبرونيازيد 12210ده:م1 كان يستخدم في البدء 
لعلاج الدرنء في حين كان كون يُجرب الإميبرامين #ستصمةءمنصة على أمل علاج 
الذهان. لو كانا واثقين سلفا من ماهية الأثر الذي كانا يبحثان عنه. ربما ما كانا 
ليحققا أي كشف على الإطلاق؛ فبسبب عدم اليقين هذا انخرطا في مراقبة بالغة 
الدقة لمتلقي العلاجات؛ وبفضل ذلكء انتبه هذان الطبيبان النفسيان إلى شيء 
عادي وثوري في الوقت ذاته. 

لم يترك أي من العلاجين آثارا بعينها يمكن إدراجها علميا. كما لم يظهر أن 
أعراضا أو اضطرابات نفسية محددة قد شفيت. وبالنظر إلى نظرة أولئك الأطباء 
النفسيين لأنفسهم إبان الخمسينيات واعتبار أن وظيفتهم تتعلق جوهريا بشفاء 
نزلاء المصحات النفسية والمستشفيات. فإنه لم يكن واضحا تقديم تلك العلاجات 
أي شيء مفيد على الإطلاق. نتيجة لذلكء لم تبد شركات الدواء في بادئ الأمر سوى 


151 





صناعة الشعادة 
اهتمام محدود بالكشف العلمي. إذ لاح أن هذين العلاجين يجعلان الناس على 
سجيتهما أكثر. ويستعيدون تفاؤلهم بشأن الحياة بشكل عام. 

أحس الناس بتحسن نتيجة لتلك المواد الصيدلانية, لا من الناحية الطبية 
أو النفسية. بل فيما يتعلق بقدرتهم على الإنجاز والأمل. وكما لاحظ كون. 
فقد بدا أن مادته المعالجة تتمتع بخصائص مضادة للاكتئاب. كانت الدلالة 
الاستثنائية التي أصبحت منذ ذلك الحين تشكل الذوق العام لمجتمعناء هي 
أن الحزن والخواء النفسيء وبالتالي نقيضيهماء يمكن رؤيتهما وفق مصطلحات 
الكيمياء العصبية. 

في غضون فترة وجيزة, كافح الأطباء النفسيون لمعرفة كيف يصفون العلاجات 
الجديدة. اختار كلاين الإشارة إلى الدواء الخاص به باعتباره مقويا نفسياء وهو 
ما يظل وصفا ملاما للكثير من العلاجات التي يجري تسويقها الآن كمضادات 
للاكتئاب في حين تُستخدم لعلاج أي شيء بدءا من اضطرابات الأكل إلى القذف 
المبكر. كانت براعة آثار العلاج محيرة. لكن هذه الخاصية على وجه التحديد 
- هذه الانتقائية - هي ما أصبح الوعد الرئيس لهؤلاء الذين ينشدون تحويلنا 
وتحسينئنا عبر كيميائنا العصبية. وعلى العكس من المهدئات, فإن تلك العلاجات 
الجديدة لم تكن تغير التمثيل الغذائي أو المستويات الإجمالية للنشاط النفسي. 
بل بدا أنها تعزز تلك الأجزاء بالمريض البي انكمشت أو تضررت بهدف جعل 
العقل والجسم طبيعيين. مم يكن هذا مجرد اكتشاف لعقار جديد. بل كان 
اكتشافا لمفهوم جديد تماما للشخصية'*". 

خلال العقود التي تلت تجارب كون وكلاين الأولى على عقاريهما الجديدين, 
أصبحت مضادات الاكتئاب تشتهر بهذه الانتقائية ا مزعومة وغياب التحديد. تتمثل 
عبقرية مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين!*) الانتقائية (55181)!** المفترضة في 
البحث عن الجزء امُحدد من النفس الذي يحتاج إلى تنشيط ومنحه دَفْعَة. وقد بلغ 
الحماس لعلاجات اكتئاب مرتقبة خلال السنوات التي تلت إطلاق دواء البروزاك 


(*) السيروتونين صتدماممع5 أو 5 - هيد روكسي تربتامين عستحطهام رم )توده 119:0 -5: أحد النواقل العصبية المهمة في 


الجهاز العصبي التي تفرّز في المخ. [اللترجم]. 
»دع ) 55181: هي اختصار ل 5«مغتطتطمآ ععلو )ماع ستصماممع5 عجتاععاء5. 


152 








أزمة الاسلطة 
2023 في العام 1988 مشارف غير مسبوقة. وأفصح أطباء نفسيون من أمثال بيتر 
كرامر 12320265 26662 عن عدد من المزاعم من ضمنها أن البروزاك لا ينعش الحالة 
المزاجية فقطء بل يعيد وصل الأفراد بذواتهم الحقيقية”". خلال ذلك تبدلت فكرة 
المرضء فضلا عن الحزن. 
استغرق حصول علاجي كون وكلاين الجديدين اللمقويين للنفس خمسة 
وعشرين عاما ي ينالا إعجاب الأسواق الكبرىء والحقيقة أنهما كانا يُسوقان 
بادئ الأمر على أنهما دواءان مضادان للشيزوفرينيا. لكن ثقافياء جاء اكتشافهما 
في توقيت مثالي؛ فحتى تلك اللحظة لم يكن أطباء وعلماء النفس قد كشفوا 
عمليا عن أي اهتمام بفكرة السعادة أو الازدهار. وكان تأثير التحليل النفسي 
يعني النظر عادة إلى المشاكل النفسية من خلال عدسات الغعصابء أي على أنها 
صراع بين النفس وماضيها. وكان الاكتئاب اضطرابا نفسيا مُعترفا به بمكن علاجه 
من خلال العلاج بالصدمات الكهربائية في حال بلغ حدا يستدعي ذلكء. لكنه 
مم يتلق سوى اهتمام محدود نسبيا من مهنة الطب النفسيء فضلا عن مهنة 
الطب. واستمر التصنيف الفرويدي للميلانخوليا ه11[مطءصةاءدم بوصفها العجز 
عن قبول خسارة ما حدثت في الماضيء في تشكيل كيفية فهم أغلبية العاملين في 
حقل الطب النفسي للتعاسة المزمنة. 
لكن تلك الأفكار الخاصة بالتحليل النفسي كانت غير مفيدة بعض الشيء عند 
التعامل مع شكل أكثر انتشارا من الاكتئاب يتجلى في صورة انكماش عام في الرغبة 
والمقدرة. كانت تلك هي المشكلة التي واجهت الأطباء وا محللين النفسيين بشكل 
متزايد مع انقضاء عقد الستينيات» ودفعتهم إلى مساءلة بعض الجوانب الأساسية في 
تدريبهم النظري”. إذ لم يعد المصابون بالاكتئاب يتحدثون عن الخزي أو الرغبات 
المقموعة. بل عن وهنهم وعدم أهليتهم. كان هذا تعبيرا عن الابتلاء بغياب الرغبة 
لا القمع. كانت شركات الأدوية باعتراف الجميع راضية بالمساعدة في التخلي عن 
نظرية التحليل النفسي التقليدية: كما بينت شركة الأدوية ميرك 3461 بوضوح 
في العام 1961 حين وزعت خمسين ألف نسخة من كتاب فرانك آيد هبر علصة8 
«التعرف على مريض الاكتئاب» غمع)د2 0عووع2م10 عط عستأعتمعمء286 على 
الأطباء بأرجاء الولايات المتحدة,. عقب فوزها مباشرة ببراءة اختراع الأميتريبتيلين 


153 





صناعة الشعادة 
عصناتنمننسية المضاد للاكتئاب'©. بيد أن العلاجات وقعت في شرك تحول أخلاقي 
وثقافي أوسع. ‏ - 

كانت قضية كيفية تعزيز الإيجابية والطاقة عموما قضية جديدة تماما بالنسبة 
إلى علماء النفس مع نهاية عقد الخمسينيات. لكنها كانت تبرز شيئا فشيئا باعتبارها 
حقلا بحثيا منفصلا بذاته» يضم عدذا من الاستبيانات والدراسات المسحية والمقاييس 
النفسية الجديدة للمقارنة بين الأفراد من حيث درجة الإيجابية. وشهد العام 1958 
إطلاق مقياس جورارد للكشف عن الذات علهةء5 عتداومك5»[14-1015 14هتنامل ثم 
مقياس بيك للاكتئاب (إ125625101 دوأووعدمء10 علءع8 في العام 1961 وهو من 
إعداد آرون بيك عاء86 دمعدة مؤسس العلاج ال معرفي السلوي. واكتشفت دراسات 
الصحة العقلية المسحية التي أجريت في الولايات المتحدة خلال عقد الخمسينيات 
بهدف تقييم حالة المحاربين القدامى النفسية لحد ماء أن الاكتئاب العام شكوى أكثر 
شيوعا بكثير مما افترض الأطباء النفسيون. كان الانكماش النفسي يغدو خطرا قد يبتلى 
به أي فرد في أي توقبت. سواء وجد ما يدعم هذا التقييم من التحليل النفسي أم لا. 

بحلول أواخر الستينيات أصبح السيكولوجيون يدرسون الاكتئاب من كثب دون 
افتراض ضرورة وجود غصاب مضمرء وساعدت تجارب مارتن سيليغمان صناعة/1 
صقصعناء5 على العجز المكتسب 5655وو»1ماعط 132264 التي كشف فيها عن أنك 
إذا عضت كلبا للصعق الكهربي بدرجة كافية فإنه سيكف عن المقاومة في النهاية, 
على ترتيب فهم جديد للاكتئاب غرس بذور حركة علم النفس الإيجابي المكرس للنبذ 
المبرمج للعجز الذي يعد سيليغمان رمزا له. 

يُخفف دواء انتقائي في حد ذاته على الفور من مسؤولية المعالج أو الطبيب 
النفسي في تحديد علة المريض بدقة. فمن ثم يُصبح في المستطاع وصف العلاج بشكل 
غير مُحدد. كأن يقول الطبيب منهم: «جرب هذاء ولنرٌ ما إذا كنت ستشفى مما 
بك». هكذا يصبح البؤس نفسه هو الظاهرة التي ينبغي التعامل معهاء لا مظاهر أو 
أعراض مرض بعينه. في أوائل الستينيات صار هذا الأمر مصدر إهانة لسلطة الأطباء 
والأطباء النفسيين ممن يقتضي دورهم المهني تشخيص المرض بدقة وتقديم العلاج 
وقد شكلت فكرة أن الأفراد قد يعانون انهيارا عاما ما بقدراتهم النفسية يتجلى عبر 
عدد ضخم من الأعراضء تحديا لمفاهيم الخبرة الطبية أو النفسية الجوهرية. 


154 





أزمة النسلطة 
بعد ما يزيد على نصف القرن من اكتشاف مضادات الاكتئاب. ظلت مسألة 
أنه ما من أحد اكتشف بالتحديد كيف تعمل هذه المضادات أو لم. إلى درجة أنهم 
كذلك22. كما أنه لن يكون في مستطاع أي باحث تحقيق هذا الاكتشاف؛ لأن ما 
تعنيه كلمة «تعمل» بالنسبة إلى أي من علاجات الاكتئاب سيختلف من مريض إلى 
آخر. لقد حظيت الكيفية التي تغير بها علاجات الاكتئاب فهمنا للشقاء من خلال 
إعادة موضعته داخل عصبونات الدماغ بقدر هائل من الاهتمام, بيد أنها تغير كذلك, 
وبشكل جوهريء معنى التشخيص الطبي وطبيعة السلطتين الطبية والعلاج النفسي. 
لا ريب أن مجتمعا ينتظم حول تنشيط إحساسي الرضا والإنجاز الشخصيين 
- التحديد الذاتي للازدهار - سيكون في حاجة إلى إعادة تصور طبيعة السلطة. 
متى اقتضت الحاجة مراقبة لذات وآلام العقل والتعامل معها. آنئذ. على السلطة 
إما أن تصبح أكثر ميوعة ومضادة للثقافة ونسبية في حد ذاتها؛ تقبل غياب أي 
حقيقة واضحة في هذه المنطقة, وإما أن تستدعي نمطا جديدا من الخبرة العلمية؛ 
أكثر رقمية وحيادية؛ تنحصر وظيفتها في بناء التصنيفات والتشخيصات والهرميات 
والتنويهات ي تتلاءم مع احتياجات الحكومات والمديرين ومحللي المخاطر ممن قد 
تصبح وظائفهم مستحيلة لولا تلك الأبنية. 


إعادة اختراع سلطة العلاج النفسي 

استفادت مدرسة شيكاغو. في نهاية الأمرء من حالة النبذ التي لطاما فرضها 
علماء الاقتصاد والمؤسسات الأمريكية. إذ وفرت لها فترة طويلة نضجت خلالها 
الأفكار البديلة والمقترحات السياسية وأصبحت جاهزة للتطبيق وقت أن اجتاحت 
الأزمة الأرثوذكسية الحاكمة. كانت تلك الأزمة قد بدأت بالتشكل في العام 1968, 
مع بدء نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة بالترنح: واقتطاع تكاليف الحرب في فيتنام 
جزءا كبيرا من موارد الحكومة. وتعاظمت الأزمة منذ العام 1972 مع الارتفاعات 
الحادة التي شهدتها أسعار النفط وانهيار النظام النقدي العالمي الذي اثفق عليه 
عقب الحرب العالمية الثانية. 

كذلك شهدت مهنة الطب النفسي الأمريكي أزمتها هي الأخرى بالتسلسل الزمني 
نفسه تقريبا. ففي العام 1968 نشرت الجمعية الأمريكية للطب النفسي (4248) 


155 





صناعة الشعادة 
ممم ووعة عتنغولط :رو صوءتيعددة ع15' الطبعة الثانية من كتيبها الدليل 
التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية[5626154122 2210 ع10138205)3 (1051/1) 
15005 لمغصعكلة ذه لدسصدك3 الذي م يُثر سوى القليل من النقاشات مقارنة 
بالإصدارات الأحدث منه؛ ذلك أنه لمم يكن لدى الأطباء النفسيين إلا القليل من 
الاهتمام بقضايا الكتاب شديدة التركيز والمتعلقة بإطلاق الأسماء على ممختلف 
الأعراض. لكن خلال خمس سنوات أصبح هذا الكتاب محورا للخلاف السياسي الذي 
هدد بابتلاع الجمعية برمتها. 

كانت إحدى مشكلات الدليل التشخيصي في طبعته الثانية هي فشله في تحقيق 
هدفه المفترض. ففي نهاية الأمرء ما المغزى من امتلاك قائمة متفق عليها للتصنيفات 
التشخيصية في حال لم تكن تمارس ضغطا على الطريقة التي كان يعمل بها الأطباء 
النفسيون ومتخصصو الصحة العقلية في الواقع؟ شهد العام نفسه الذي نشرت فيه 
الطبعة الثانية من الدليل التشخيصيء نشر منظمة الصحة العاللية دراسة تكشف 
أنه حتى الاضطرابات النفسية الكبرى مثل الشيزوفرينياء كانت تُشخص بمعدلات 
بالغة الاختلاف حول العاط. ولاح أن لدى أطباء النفس قدرا هائلا من حرية التصرف 
مسترشدين بنظريات تتعلق بماهية المضمر وراء تلك الأعراضء وهو ما لم يكن يُذعن 
للفحص العلمي الصارم إلا فيما ندر. كانوا يتشاركون ال مصطلحات نفسها لكنهم 
يفتقرون إلى أي قواعد دقيقة بشأن طريقة تطبيقها. 

ضمت حركة مناهضة الطب النفسي 626 310:61 تقلط :زو -لاصة عطك 
كما كانت تُعرفء بعضا ممّن رأوا المهنة برمتها مشروعا سياسيا يهدف إلى السيطرة 
الاجتماعية: لكنها كانت تضم آخرين أيضا كتوماس ساس 52255 10185 الذي 
اعتقد أن مشكلة الطب النفسي الأساسية كانت تكمن في عجزه عن تقديم فرضيات 
علمية قابلة للاختبار”©. وفي تجربة شهيرة أجريت في العام 1973 نجح تسعة عشر 
مريضا زائفا في الالتحاق بعدد من مؤسسات الطب النفسي من خلال الحضور 
وتقديم إفادات زائفة عن سماعهم صوتا يهتف قائلا: «خاو؛ أجوف؛ ارتطام». 
ونشرت هذه التجربة لاحقاءفي صحيفة ع©»«عك5 تحت عنوان: «عن أن تكون عاقلا 
داخل أماكن مجنونة» 219665 105326 مآ عصة5 عصاء8 م0 لتزود بذلك حركة 
مناهضة الطب النفسي بالوقود*. 


156 





أزمة السلطة 
لكن الأكثر إثارة للجدلء كان ضم الطبعة الثانية من الدليل التشخيصي امثلية 
الجنسية بناهد©وه ه110 في قائمتها للاضطرابات النفسية» مثيرة بذلك عاصفة 
من الاحتجاجات اكتسبت زخما منذ العام 1970 بدعم من متحدثين رسميين 
معارضين للطب النفسي. م تتأثر الجمعية الأمريكية للطب النفسي نسبيا بمشكلة 
التشخيصات التي لا يُعول عليهاء بالنظر إلى العدد القليل من أعضائها أو الهيئة 
الحاكمة ممن كانوا يولون اهتماما خاصا بالمصداقية في المقام الأول. لكن العاصفة 
السياسية التي سببها تصنيف المثلية الجنسية كانت أقوى من أن تتجاهل. ففي 
حين كانت مشكلة مصداقية التشخيص قابلة للاحتواء إلى حد كبير داخل المهنة 
ذاتهاء أصبح الخلاف بشأن تصنيف الدليل التشخيصي للمثلية واضحا بكل تفاصيله 
في نطاق الحياة العامة. 
تماما كما انتظرت مدرسة شيكاغو في الظل بصبر إلى أن دارت أزمة السياسة 
الاقتصادية إبان السبعينيات دورتهاء كانت ثمة مدرسة أخرى للطب النفسي تقبع 
هانئة من دون أن تتأثر باللغط الذي يجرف الجمعية الأمريكية للطب النفسي. 
كانت هذه المجموعة الصغيرة التي اتخذت جامعة واشنطن في سانت لويس 
دناه :51 مقرا لهاء تشعر بالاغتراب عن أسلوب التحليل النفسي السائد بالطب 
النفسي الأمريي منذ فترة طويلة؛ إِذْ كانت مدينة للطبيب النفسي السويسري إميل 
كريبيلن صذاءمء12 اند أكثر منها لفرويد (أو لأدولف ماير #عتزع81 40014 الذي 
هيمن تعديله لأفكار فرويد كثيرا على تفكير الجمعية الأمريكية للطب النفسي إبان 
الخمسينيات والستينيات). ما جعلها تتعاطى مع تصنيف الأعراض النفسية بوصفه 
ذا أهمية قصوى. كان يُنظر إلى المرض العقلي بالطريقة نفسها التي ينظر بها إلى 
المرض العضويء أي باعتباره حدثا في الجسم - والدماغ بشكل أكثر تحديدا - يقتضي 
مراقبة علمية موضوعية وحدا أدنى من التأويل الاجتماعي. 
خلال عقدي الخمسينيات والستينيات. تركت مجموعة سانت لويس بقيادة 
إيلي روبنز وطتطه80 111 وصامويل جوزي 12 53121181 وجورج وينوكور 
تناكام طة7 عع601©.: للدوران داخل فقاعتها الفكرية والاجتماعية. كما تكرر رفض 
ا معهد القومي للصحة العقلية طغلمء11 لهاصء]38 2ه عأتطاكمآ لهدمندل< عطل 
تمويل المجموعة, مفضلا بدلا من ذلك تمويل دراسات تنتمي إلى تراث ماير الذي 


157 





صناعة الشعادة 
يركز على العلاقة بين المرض العقلي والبيئة الاجتماعية. كانت مدرسة سانت لويس 
منبوذة من المؤسسة الرسميةء وتعتمد على شبكات من المتعاطفين الأوروبيين مثيرة 
بين الحين والآخر بعض النقاشات الصاخبة ضمن أعضائهاء مع بقائها على هامش 
الطب النفسي الأمريكي. 

بالنسبة إلى أولئك الكريبيلنيين الجدد. كانت مطالب الطب النفسي بمنحه مكانة 
علمية تعتمد على المصداقية التشخيصية: بمعنى ضرورة أن يكون في مستطاع طبيبين 
نفسيين يواجهان المجموعة نفسها من الأعراضء الوصول إلى التشخيص النهائي نفسه 
بشكل مستقل. أما مسألة ما إذا كان الطبيب النفسي يعي حقا ماهية ما عكر صفو 
المريضء أو السبب في ذلك. أو طريقة التنفيس عنه. فقد كانت في المرتبة الثانية من 
ناحية الأهمية مقارنة بالقدرة على تحديد المتلازمة بلا تردد. كانت وظيفة الطبيب 
النفسي. من خلال هذا المعيار العلمي» هي المراقبة والتصنيف واختيار الاسم, 
لا التأويل أو التفسير. ومن خلال هذه الرؤية» تقلصت بشكل جذري المهمة 
الأخلاقية والسياسية للطب النفسي الذي كان يستهدف في تقاليده الأكثر طوباوية 
تضميد جراح الحضارة ككلء وحلت محلها مجموعة من الأدوات لتصنيف العلل 
البدنية والنفسية من خلال ما لها من أعراض. بالنسبة إلى كثيرين من الأطباء 
النفسيين إبان الستينيات, بدا هذا كأنه شاغل أكاديمي عاديء لكنه كان على وشك 
التحول إلى ما هو أكثر من ذلك. | 

م تكن مدرسة سانت لويس. في أثناء كونها مرفوضة من قبل مهنة الطب النفسي 
ذاتهاء تمثل الأصوات الوحيدة التي تدافع عن مصداقية أكبر للتشخيص آنذاك. 
ذلك أن مخاوف شركات التأمين الصحي في الولايات المتحدة كانت تتزايد بسبب 
المعدلات المتصاعدة لمشكلات الصحة العقلية والتي تضاعفت في الفترة بين العامين 
2 و271967. في تلك الأثناء. صار لشركات الأدوية اهتمام واضح بالتشديد على 
ا ممارسات التشخيصية في الطب النفسيء وكان ذلك أحد معام التنظيم الحكومي 
البارزة. كانت الحاجة الرأسمالية إلى التأسيس لإجماع جديد على مسميات أعراض 
العلل النفسية تزداد قوة. 

في العام 1962. أدرج النائب في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية تينيسي؛ 
إستس كيفاوفر 176 8565, والنائب عن ولاية أركانساس؛ أورين هاريس 


158 





أزمة انسلطة 
15 <«2ع026). تعديلا بالقانون الاتحادي للأدوية والأغذية ومستحضرات 
التجميل للعام 1938 هدف إلى تشديد القواعد المتعلقة بموافقة الجهات الرقابية 
على الأدوية. كان هذا التعديل منزلة رد فعل مباشر على مأساة الثاليدومايد 
ه11 الذي أدى إلى ولادة ما يقرب من عشرة آلاف طفل حول العام 
مصابين بتشوهات جسمانية في الفترة من العام 1960 إلى العام 1962, بسبب 
دواء جديد مضاد للقلق كان الأطباء قد بدأوا في وصفه باعتباره علاجا لغثيان 
الحمل. م تتأثر الولايات المتحدة مقارنة ببقية الدول بحذر (اعتثبر بطولة فيما 
بعد) مسؤول إدارة الغذاء والدواء (7548) الذي منع تداول الدواء بسبب عدم 
إجراء تجارب كافية عليه. 
من السمات المميزة لتعديل كيفاوفر - هاريس تشديده على ضرورة ألا تسق 
الأدوية إلا مع تحديد واضح للمتلازمة التي تطمح إلى شفائها. من جديد. جعل هذا 
التعديل مسألة وضوح التصنيف النفسي أمرا ملزماء وإن كان هذه المرة لأسباب 
تجارية. فحتى إِنّْ كان يبدو أن لدواء ما خصائص مضادة للاكتئاب على سبيل اللثال» 
ما كان هذا ليكفي لإماطة عقبة تعديل كيفاوفر - هاريس التنظيمية. بل كان الأمر 
يقتضي أن يستهدف الدواء مرضا محددا بوضوح - ينبغي أن يطلق عليه في هذه 
الحالة اكتئابا. وكما زعم الطبيب النفسي البريطاني ديفيد هيلي :إ1ه116 123510: فإنه 
يمكن القول إن هذا التعديل التشريعي هو بمنزلة اللحظة الفارقة في تشكيل فكرتنا 
المعاصرة عن الاكتئاب بوصفه مرضا". لقد صرنا نؤمنء بفضل تعديل كيفاوفر - 
هاريسء بقدرتنا على رسم حدود واضحة للاكتئاب, تتقابل مع تنويعاته منتجات 
صيدلانية بطريقة سحرية. 
بحلول العام 1973» باتت الجمعية الأمريكية للطب النفسي تواجه اتهامات 
بالعلم الزائف وكراهية امثلية والترويج معايير الخمسينيات الأخلاقية المتعلقة 
بالسواء. لكن ما لا يقل أهمية هو أنهم باتوا يشكلون تهديدا لربحية شركات 
الأدوية الكبرى على المدى الطويل. هكذا صارت القوى الثقافية والاقتصادية تتبارى 
ضد المهنةء لتضع هدف الطب النفسي الرئيس موضع تساؤل. في النهايةء صارت 
مقاربة مدرسة سانت لويس للطب النفسي هي الرابحة في هذه الأزمة. لتنتقل 
ا مقاربة التشخيصية الصارمة المعارضة للتنظير سريعا من خانة الهامش غير العصري 


159 





صناعة الشعادة 
إلى خانة العقيدة التي لا مراء فيها. وهو ما تطلب وجود شخصية بعينها لا تهدأ بين 
صفوف الجمعية الأمريكية للطب النفسي الأولى لإحداث هذا التغيير. 

جاء روبرت سبيتزر “5126# :2056 من خلفية «طب نفسية» تقليدية 
حيث التحق بمعهد ولاية نيويورك للطب النفسي في العام 1966. وانضم إلى 
مؤلفي الطبعة الثانية من الدليل التشخيصي (1531) بعد أن أمضى بعض الوقت 
معهم داخل مطعم جامعة كولومبيا في أواخر الستينيات, لكن الضجر أصابه 
بعض الشيء من نظريات التحليل النفسي التي كان يروج لها زملاؤه'”. كان 
سبيتزر رجلا يجد متعة في القتال؛ إذ نشأ داخل أسرة من شيوعيي نيويورك 
اليهود وقضى شبابه منخرطا في نقاشات سياسية وفكرية مطولة مع أبيه. ليس 
أقلها نقاشاته بشأن المتعاطفين مع الستالينية. اليوم» يعد الطبيب النفسي 
الأمريكي الأكثر تأثيرا في نهاية القرن العشرين. لكن ما لا يقل أهمية هو أن هذه 
المكانة كانت تعزى إلى حماسه للمبادرة والخيال شأنهما شأن أفكاره. لكن الشيء 
الذي كانت لديه وفرة منه. ؤينقص الجمعيات المهنية في الوقت ذاته. هو شهية 
مفتوحة لإحداث تغيير جذري. 

في أواخر الستينيات» ازداد اهتمام سبيتزر بالتصنيف التشخيصي واستطلاع 
بديل للوضع الراهن. لكن مكانته داخل الجمعية الأمريكية كانت ثانوية» إلى 
أن أوكلت إليه مهمة نزع فتيل الخلاف يشأن المثلية. فباشر لتحقيق ذلك حشد 
حملة شرسة داخل الجمعية اقترحت وصفا بديلا للمتلازمة موضع الاهتمام هو 
- اضطراب التوجه الجنسي ععصططعنغسل8 صملغهنامء 02 لمنءء5- أكد ضرورة 
وجود معاناة قبل إجراء أي تشخيص لاضطراب جنساني. كان هذا تمييزا بارعا 
لكنه كاشفٌ في الوقت ذاته: إِذْ كان سبيتزر يُشير إلى ضرورة أن يحل الشفاء 
من التعاسة محل السعي إلى تحقيق السواء بوصفه وظيفة الطبيب النفسي 
الدائمة. وتصدى في العام 3 لعارضة زملاء كبار داخل الجمعية الأمريكية 
للطب النفسي تتعلق بهذا الأمر وربح النزال. وبفضل دفاع سبيتزرء استبدلت 
مسألة السواء الجنسي (وإن لم يكن الاستبدال بهدوء) بأخرى تتعلق بشقاء قابل 
للتصنيفء. في تنويه عن الكيفية التي كان يتبدل بها طابع المرض العقلي على 
نطاق أوسع. 


160 





| أزمة الستئطة 
في العام التالي كلف سبيتزر بمواجهته السياسية الثانية: التعامل مع مصداقية 
جمعية 484 التشخيصية. كانت الطبعة الثانية للدليل التشخيصي تبدو عتيقة 
على أي حال وفي حاجة إلى أن تعاد كتابتها؛ ي تنسجم مع معايير منظمة الصحة 
العالمية المتغيرة الخاصة بالتشخيص. كان سبيتزر قد عُين رئيسا لفريق عمل 
التسميات والإحصاءء بتفويض صريح الآن للتعامل مع مشكلات المصداقية 
التشخيصية التي ظلت تختمر طوال ما يزيد على عشر سنوات. فاحتفظ لنفسه 
بشكل حاسم بالسيطرة الكاملة على طريقة تشكيل فريق العملء واختار بنفسه 
أعضاءه الثمانية بنية صريحة لهدم مبادئ الجمعية الأمريكية النظرية الحالية 
واستبدال مجموعة من المناهج المستقاة مباشرة من مدرسة سانت لويس بها. 
كان أربعة أعضاء ممن عينهم سبيتزر في فريق العمل من مدرسة سانت 
لويسء وقد وصفهم ب «الأرواح المؤتلفة» 5غ1:1م5 1506:54ك1. أما الأربعة 
الآخرون فقد اعتبروا متعاطفين مع الانقلاب الذي كان سبيتزر على وشك 
القيام به. كانت الجمعية الأمريكية للطب النفسي - وبالتأكيد صناعة التأمين 
الصحي - تأمل من خلال تعيين سبيتزر أن تؤدي جداولٌ تشخيصيةٌ أكثر 
صرامة إلى تقليل مستويات التشخيص بصفة عامة؛ إذ كان من المفترض أن 
يجعل مزيد من الصرامة في المعايير المرتبطة بتشخيص متلازمة ماء تحديد 
هذه المتلازمات أكثر صعوبة. لكن مالم يضعوه في حسبانهم هو الإعياء 
الذي أصاب نهج فريق العمل في التصنيف. والذي أدى إلى توالد تدريجي في 
تنويعات المرض العقلي المعلوم. 
أدرج الفريق كل الأعراض النفسية ال معروفة مقابل تشخيصهاء معتمدين 
أثناء ذلك على ورقة بحثية عن التصنيف التشخيصي أعدتها مجموعة سانت 
لويس في العام 1972.: لكنهم أضافوا مزيدا من التصنيفات واللعايير©. ظل 
سبيتزر رابطا جأشه في أثناء انهماكه في الطباعة على آلته الكاتبة بمكتبه الواقع 
غرب شارع 168 في مانهاتنء ملحا على فريقه أن يسرد الأعراض والتشخيصات 
كأنها قائمة تسوق لا تنتهي خصوصا بالطب النفسي. وقد شاع عنه أنه كان 
يقول مازحا: «لم أشهد قط تشخيصا م يرق لي»”©. هكذا صيغ مُعجم جديد 
للمصطلحات العقلية والسلوكية. 


1061 





صناعة الشعادة 


غير سعيد نسبيا 

أتاحت الوثيقة النهائية التي أعدها سبيتزر وفريقه في العام 1978 الأساس 
للطبعة الثالثة من الدليل التشخيصي الذي تمكن القول عنه إنه النص الأكثر ثورية 
وإثارة للجدل في تاريخ الطب النفسي الأمريي. لم يكن هذا الكتيب الذي اكتمل 
خلال العام 1979 ونشر في العام التالي» يشبه إلا فيما ندر سلفه الصادر في العام 
8. كانت الطبعة الثانية من الدليل تجمل 292 فئة في 134 صفحة: في حين 
احتوت الطبعة الثالثة على 292 فئة في 597 صفحة. كما أنه في حين حددت مجموعة 
الأدوات التشخيصية المبكرة الخاصة بمدرسة سانت لويس شهرا (وهي فترة حُدُّدت 
كيفما اتفق) يستمر خلاله عَرَض المرض النفسي واضحا قبل أن يصبح التشخيص 
ممكناء قلصت الطبعة الثالثة من الدليل هذه الفترة إلى أسبوعين من دون مسوغ. 

من الآن فصاعداء أصبح المرض العقلي شيئا يمكن كشفه من خلال المراقبة 
والتصنيف. من دون الحاجة إلى أي تفسير يتعلق بسبب حدوثه. واستبدل 
الاستبصار النفسي لأغوار وصراعات النفس البشرية بدليل علمي مُتجرد لأعراض 
معروفة بالاسم. هكذا خسر الأطباء النفسيونء من خلال إلغاء احتمال أن تكون 
ا متلازمة العقلية مُجرد استجابة مفهومة ومتكافئة لمجموعة من الظروف الخارجية, 
القدرة على تحديد المشكلات في نسيج المجتمع أو الاقتصاد. وصف المؤيدون 
الوضع الجديد بالنظرية المُحايدة, في حين رأى فيه المنتقدون تخليا عن وظيفة 
الطب النفسي الأعمق والمتمثلة في شفاء المرضى والإنصات لهم وفهمهم. بل لقد 
أحس عضو بفريق العمل وهو هنري بنسكر #عاقصاط مم11 (لا ينتمي إلى 
مدرسة سانت لويس) بالقلق: «أعتقد أن ما نطلق عليه اضطرابات» ليس إلا أعراضا 
في حقيقة الأمر»”. 

كان الدافع وراء الطبعة الثالثة من الدليل التشخيصي هو اكتشاف الجمعية 
الأمريكية للطب النفسي أنها على الجانب الخطأ في الكثير من النقاشات الثقافية 
والسياسية في الوقت نفسه. إذ عجزت ضروب الحقيقة التي كان يسعى إليها الأطباء 
النفسيون عن النجاة وسط الأجواء المتقلبة في العام 1968 وما تلاه: كانت تلك 
الضروب مفرطة الميتافيزيقية؛ مشحونة بحمولة سياسية ثقيلة. علاوة على صعوبة 
إثباتها. لكن بين هذا ثمة حكاية عن الكيفية التي ظهرت بها السعادة - ونقيضتها 


162 





أزمة الاسلطة 
- بوصفها شاغلا لمختضي الصحة العقلية والأطباء وشركات الأدوية والأفراد أنفسهم. 
لكن من أجل الوصول إلى هذه النقطة» كان من الواجب حجب مؤسسات الطب 
النفسي بشكل عملي. وقد قدّمت قضية قانونية معروفة في العام 1982 مثل خلالها 
طبيب نفسي أمام المحكمة بتهمة وصف علاج نفسي دينامي طويل الأجل ريض 
اكتئاب» وليس دواء مضادا للاكتئابء إثباتا مثيرا لحالة العلاقات الجديدة2". اليوم, 
0 في المائة من الوصفات الطبية لعلاج الاكتئاب يكتبها أطباء عاديون وممارسو 
الرعاية الأولية؛ لا الأطباء النفسيون على الإطلاق. 
في مرحلة التحديد الذاتي للازدهار في فترة ما بعد الستينيات. ماذا تبقى 
للبشر ليتشبثوا به عدا الرغبة في مزيد من السعادة؟ وما الغاية الأسمى التي 
يمكن لخبير سيكولوجي أن يسعى إليها من تقليل التعاسة؟ كانت هذه المبادىئ 
البسيطة التي لا جدال فيها على ما يبدو. هي ما نشأ عن الصراعات الثقافية 
والسياسية التي بلغت ذروتها في العام 1968. كانت مشكلة الاكتئاب المتزايد 
الذي كان يُحَّس على أنه نقصان غير مُحدد بالطاقة والرغبة» إلى جانب ظهور 
دواء بدا انتقائيا في شفاء هذا المرضء والحاجة إلى شركات للأدوية ومنظمين 
وشركات تأمين صحي للعثور على الوضوح في قلب تلك العتمة: تعني أن خبرة 
التحليل النفسي كانت في سبيلها إلى الانهيار. 
كانت الحاجة تقتضي وجود جمهرة من التقنيات والمقاييس وسلام القياسات 
الجديدة لتعقب الحالات المزاجية الإيجابية والسلبية في هذا المشهد الثقافي 
والسياسي الجديد. كان آرون بيك قد سبق زمانه بكثير عبر مقياس بيك للاكتئاب 
الذي أطلقه في العام 1961. وفيما يتعلق بالأم البدنيء طرح استبيان ماكغيل للأم 
م صنو 1[11مء81 عط1 واسح التأثير في العام 1971., كما طرحت 
استبيانات وسلالم قياسات عديدة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات لتعيين 
وتحديد مستويات الاكتئاب كمياء مثل مقياس القلق والاكتئاب في المستشفى 6ط" 
(1983) علهء5 صمنووءرم»12 لصة بع تصق 1ماامو210 ومقاييس الاكتثئاب والقلق 
والضغوط النفسية (1995) وعلقء5 ووعما5 براعنسعف صماووءءمء2, ومع التأثير 
المتزايد لعلم النفس الإيجابي الذي كان يعرض التخفيف من احتمالات الإصابة 
بالاكتئاب. أضيفت مقايبس الوجدان الإيجابي والازدهار إلى تلك القائمة من 


163 





صناعة التشعادة 
المقاييس. تمثل تلك المقاييس تجليا إضافيا للطموح البنتامي في التعرف على ماهية 
مشاعر شخص آخر من خلال قوة القياس العلمي وحدها. كانت تلك المقاييس 
ترتكز إلى أمل واحدي معهود, وهو إمكانية وضع تلك التنويعات من الحزن والقلق 
والإحباط والعصاب والأم على سلالم قياسات بسيطة تتدرج من الأدنى إلى الأعلى. 

لقد أوضح الدليل التشخيصي الذي أعيد تشكيله. إلى جانب المقاييس ال مختلفة 
حديثة التصميم. ما ينبغي تصنيفه باعتباره اكتئابا ولأي مدى. حيث أصبح في 
المستطاع أن ندعو الإصابة بعدد من الأعراض مثل الأرق وفقدان الشهية والشهية 
الجنسية مجتمعة أسبوعين أو أكثر اكتثابا. لكن ما يعنيه حقا أن يكون المرء مكتئبا 
وماهية السببء غابا عن المشهد بالنسبة إلى كثيرين من خبراء الرابطة الجديدة من 
السيكولوجيين الذين جاءوا بعد سبيتزر وفريق سانت لويس. م يُكتم صوت المريض 
تماما في الحقبة التشخيصية الجديدة؛. لكن نظم من خلال بناء وفرض استبيانات 
ومؤشرات صارمة. وربما تيح العلوم العصبية للطب النفسي الآن أن ينأى بعيدا عن 
تلك الأسئلة والإجابات الحرجة. 

لذاء تُرى ما هو حقا هذا المرض المزعوم الذي يُصيب نحو ثلث البشر في مرحلة 
ما من حياتهم» ونحو 8 في المائة من الراشدين الأمريكيين والأوروبيين؟ غالبا ما يُقال 
إن الاكتئاب هو عجز الفرد عن بناء مستقبل قابل للتحقق. ليست المشكلة حين 
يُعاني الناس شكل الاكتئاب المُعاصر في توقفهم عن الإحساس باللذة أو السعادة, 
بل في فقدانهم الإرادة أو القدرة على طلب اللذة أو السعادة. كما لا يتعلق الأمر 
بكونهم غير سعداء في حد ذاته. بل فقدانهم الموارد العقلية - وغالبا البدنية - 
ليلاحقوا الأشياء التي قد تجعلهم سعداء. فيكتشفوا أنهم فيما يسودون أنماطهم 
الحياتية وقيمهم, يفتقرون إلى الطاقة للتصرف وفقا لتلك الأنماط. 

فقط في مجتمع يجعل النمو الشخصي العام فضيلته القصوى؛ تصبح الإصابة 
باضطراب الانهيار الشخصي العام أمرا لا مفر منه. كذلك الأمر بالنسبة إلى ثقافة لا 
تثمن سوى التفاؤلء فإنها ستولد أمراض التشاؤم؛ كما سيحول الاقتصاد القائم على 
المنافسة الانهزامية إلى مرض. وحايلا يخسر المشروع البنتامي للأمثلة النفسية أي . 
معنى للحدود المتفق عليهاء ويعد بالمزيد من دون توقف, يبرز الاكتشاف المزعج أن 
القياس النفعي يمكن أن يكون بدرجة كبيرة أمرا سلبيا كما هو إيجابي. 


164 





أزمة النلسلطة 


اضطرا اب اكتئابي - تنافسي 

تطرح شعارات مثل «افعلها فقط». و«استمتع أكثر» 210 ترهزصظ؛ والتي 
تخص نايك 20116 وماكدونالدز 741202814 على الترتيب, الأوامر الأخلاقية في 
مرحلة ما بعد الستينيات النيولييرالية. حيث تصبح المبادئ الأخلاقية المفارقة الأخيرة 
مجتمع يرفض السلطة الأخلاقية, وكما دفع به سلافوي جيجك عا212 زه5127, فقد 
صار الاستمتاع فريضة تفوق الامتثال للقواعد. وبفضل ما لمدرسة شيكاغو من تأثير 
في ا منظمين الحكوميينء فإن الأمر لا يختلف بالنسبة إلى ربحية الشركات. 

لقد صار التشابك بين التعظيم النفسي وتعظيم الربح أكثر وضوحا إبان المرحلة 
النيوليبرالية»ء ويرجع هذا في جزء منه إلى تسلل مصالح الشركات إلى الجمعية الأمريكية 
للطب النفسي. فوفقا للا ذكرته التقارير في أثناء التحضير للطبعة الخامسة من الدليل 
التشخيصي 2514-1 والذي نشر في العام 2013, كانت صناعة الأدوية مسؤولة عن 
نصف ميزانية الجمعية الأمريكية البالغة خمسين مليون دولارء وأن ثمانية أعضاء من 
أعضاء اللجنة الأحد عشر ذوي النفوذ ممن كانوا يقدمون النصح بشأن معايير التشخيص 
كانت لهم علاقات بشركات الأدوية”". هكذا تتشكل الآن إلى حد ماء الطرق التي نصف 
بها ذواتنا وعذاباتنا العقلية» من خلال المصالح امالية لشركات الأدوية الكبرى. 

كان أحد آخر التدقيقات المتبقية بشأن الفهم الكيميائي العصبي للاكتئاب هو 
الإبراء اللصيق بالمكروبين: إذ كان ذلك لايزال يعد على أقل تقديرء سببا صحيا 
للإحساس بالتعاسة. لكن في وجه دواء جديد. هو الويلبوترين صتداط1اء/18. الذي 
يعد بالتخفيف من «الأعراض الاكتئابية الكبرى التي تحدث عقب خسارة حبيب في 
فترة قصيرة», أذعنت الجمعية الأمريكية للطب النفسي واستبعدت هذا الإبراء من 
الطبعة الخامسة للدليل التشخيصي 1-/21052". ذلك أن الإحساس بالتعاسة مّدة 
تزيد على أسبوعين بعد موت شخص آخر يمكن اعتباره الآن مرضا عضوياء ويدرس 
الأطباء النفسيون الآن الحرمان أو الفجيعة غ866276:062 من ناحية مخاطرها 
الممكنة على الصحة العقلية» في غياب أي تصور عام أو خاص بالتحليل النفساني 
يُفسر سبب كون الفقدان بالموت تجربة مؤيلة087, 

يزداد أيضا وعي الشركات بعدم الكفاءة الاقتصادية للاكتئاب في اقتصاد يرتكز 
على الحماس داخل مقر العمل والرغبة داخل مركز التسوق9"©. حيث يُنظر إلى 


165 





صناعة السعادة 


العثور على طرق لتخليص البشر من هذا المرضء أو تقليل احتمالات مواجهته 
في المقام الأول (من خلال حمية أو تمرين خاصينء أو حتى إجراء فحوص للدماغ 
لتقيبم المخاطر مبكرا في الأطفال). باعتبارها أمرا حتميا بالنسبة إلى استمرار أرباح 
الشركات. وقد أفاد تقرير بهذا الشأنء تبنته مجموعة من الشركات في المملكة 
المتحدة من بينها بنك باركليز علدضة8 وتزداء:82, بغياب لافت لأي إحساس بالرثاء, 
أن: «اقتصاد اليوم القائم على الدماغ يُولي أهمية للمهارات الدماغية التي تعني 
المعرفة عبرها اتقاد الإنتاجية والابتكار. والاكتئاب يُهاجم تلك الأصول الحيوية»””. 

إحدى الطرق التي شكلت من خلالها روح التحرر الاجتماعي بنتام في زمانه» 
كانت في افتراضه أن القياس وتعظيم السعادة مشروع جماعي؛ فمن حيث المبدأء 
كان هناك مسوغ لإعاقة سعادة شخص مصلحة آخر. كان المضمار الرئيس الذي 
استكشف فيه هذا الافتراض باعتراف الجميع هو العقاب: يبرر السجن إلى حد 
أن غير السجناء يستفيدون من وجوده. لكن على رغم ذلكء. كانت حسبة المنفعة 
تُراعي جميع الأطراف. قد يبرر ذلك في سياسة اقتصادية نقل النقود من الثري إلى 
الفقير. إذا اتضح أن الفقر هو السبب في التعاسة. ١‏ 

ينشأ الاضطراب الاكتثابي التنافسي المرتبط بالنيوليبرالية لأن الإلزام بتحقيق نفع 
أكبر - سواء كان مقيسا من خلال النقود أو الأعراض البدنية - يُخصخص. وتصبح 
إمكانية» بل ضرورة: أن تضحي المؤسسات والناس أكثر ثراء ونجاحا وصحة: أشد 
إلحاحا. ويصير المنطق القائل إننا نتحمل مسؤولية سياسية أو أخلاقية معينة نحو 
الضعفاء. ما يتطلب منا فرض قيود على الأقوياءء معطلا في حضرة مدرسة شيكاغو 
للاقتصاد أو مدرسة سانت لويس للطب النفسي. إذ تشدد السلطة ببساطة على 
القياس والتصنيف والمقارنة ووضع القوي في مواجهة الضعيف من دون إصدار 
أحكام, كاشفة للضعفاء مدى قوتهم المحتملة, ومؤكدة للأقوياء أنهم يربحونء على 
الأقل في الوقت الراهن. 

ثمة فلسفة سياسية قاسية مدفونة داخل صناديق العدة التكنوقراطية الخاصة 
بالمنظمين وال مقيمين النيولييراليين. تحمّل هذه الفلسفة أغلب الناس مسؤولية 
فشلهمء من دون أن تحمل لهم سوى رجاء ضعيف في انتصارات مستقبلية يتشبثون 
به. لقد كانت تلك المدرسة في لندن. حيث «لا يُسمح للتلاميذ بالفوز بسباق في 


166 





أزمة السلطة 
الركض سوى مرة واحدة. بدعوى الخوف من أن الفوز أكثر من مرة يجعل التلاميذ 
الآخرين يبدون أقل شأنا». في الحقيقة, نموذجا لكيفية التصدي لاضطراب اكتثابي 
تنافسي ربما م ينتبه إلى مجيئه سوى عدد قليل في العام 1977. لكن ذلك كان 
يستدعي أيضا شكلا مُغايرا من الرأسمالية, ثمة فئة قليلة من صناع القرار السياسي 
تُحَضر اليوم لتسويغه. 


167 





أمثلة اجتماعية 


تخيل أنك تزور مقهى2 وتطلب قهوة . 
إيطالية, ثم تُفاجأ بهم يبلغونك بأن ثمة من 
دفع ثمنها سلفا. تبدو هذه التجربة تجربة 
جذابة. بل قد تضفي لذة أكبر على اختساء 
القهوة. فمن أين جاءت إذن تلك الهبة غير 
المنتظرة؟ يبدو أن الزبون السابق هو من تركها. 
لكن العقبة الوحيدة, إن كانت حقا عقبة. هي 
أنك مضطر الآن إلى فعل الشيء نفسه من أجل 
الزبون التالي الذي سيدخل المقهى. 

تُعرف هذه المسألة باسم 'نظام تسعير 
«الوفاء بالعطاء» 0250ه5-غ1-/28, وهو نظام 
اتبعه عدد من الشركات الصغيرة في كاليفورنيا 
مثل مطعم كارما كيتشن عطء)لكآ مما في 


«يبدو أن المبادئ الأخلاقية لها قدرة 
المصالح الأنائية نفسها على تحريكنا» 





169 





صناعة الشعادة 


بيركلي. وأحيانا كان الزبائن أنفسهم يطبقونه عن طيب خاطر. يبدو ذلك لأول 
وهلة تحديا لمنطق اقتصاد السوق الحر؛ ففي النهاية: الفرضية الأساسية لنظام 
الأسعار كما بدت لويليام ستانلي جيفونز والاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد. هي أنني 
سأقايض نقودي باللذة التي أحسها بمعزل عن الآخرين. فالنقود بالنسبة إلى صاحب 
المتجر هي مكافن الإشباع بالنسبة إلي. والأسواق, لا ريب هي الأماكن التي يُتاح لنا 
فيهاء بل يُنتظر مناء التصرف بأنانية. لذلك يبدو الوفاء بالعطاء ممثاليته الهيبية كأنه 
يتحدى معتقدات الحساب الاقتصادي الرئيسة. 

لكن الأمر أكبر من ذلك؛ إِذْ أمعن باحثو فريق أبحاث علوم اتخاذ القرار 
مداه طععوءوع8 ععمعءكء5 وموزوء12 بجامعة كاليفورنيا في بيركلي النظر في 
تسعير الوفاء بالعطاء واكتشفوا شيئا يحمل مضامين عميقة تتعلق بالطريقة التي 
تعمل بها الأسواق والشركات. حيثٌ اتضح أن الناس عموما بميلون إلى دفع سعر 
أكبر مقابل سلعة. في إطار نموذج الوفاء بالعطاء. عما يميلون إلى دفعه في إطار 
نظام تسعير تقليدي'". هذه الحقيقة تسري حتى في حالة كون المشاركين غرباء 
تماما. ويعبارة كاتبة الدراسة الرئيسة؛ مينا جوغ ود[ طهصة84, «لا يرغب الناس 
في الظهور بمظهر الإنسان البخيلء بل يرغبون في الظهور بمظهر الإنسان اللنصف. 
لكنهم يرغبون كذلك في التوافق مع الأعراف الاجتماعية». على النقيض مما افترضه 
الاقتصاديون منذ أمد بعيد. تستطيع الغيرية في أغلب الأحيان ممارسة تأثير في 
صناعتنا للقرار أكثر من الحسابات؛ فمادام من الممكن استمالة الأفراد للتورط في 
علاقات تبادلية, بدلا من الحساب الأنانيء فإن القدرة على التأثير فيهم ستكون بهذا 
القدر من الضخامة. ووفقا ما يكشف بحث جوغ. تبقى فرصة تحميلهم مزيدا من 
النقود سانحة بالقدر نفسه. 

وقد ظهرت نتائج بحثية ممائثلة عند إجراء التجارب في مقار العمل. ففكرة ربط 
الأجر بالأداء فكرة عادية. وهي تطرح بصورة معقولة إلى حد كبير. مسألة أنْ يُكافأ 
الجهد الإضافي الذي يبذله الموظف بزيادة متناسبة في الأجر. لكن الدراسات التي 
أجراها باحثون في مدرسة هارفارد لإدارة الأعمال كشفت عن وجود طريقة أكثر 
فاعلية لامتخلاص جهد أكبر من العاملين: تصوير زيادات الأجور على أنها منحة©. 
فحين تُقدم النقود في مقابل جهد إضافيء حينئذ ربما دار في خلد الموظف اعتبار 


1/0 





أمثلة اجتماعية 


النقود الإضافية نقودا مستحقة ويواصل العمل بالوتيرة السابقة نفسها. لكن حين 
يقدم صاحب العمل علاوة على سبيل الهبة» آنئذ يتورط الموظف بعلاقة تبادلية 
أكثر إلزاما ويكدح بقوة أكبر. 

تعد تلك النتائج نتائج نمطية في حقل علم الاقتصاد السلوي الذي نشأ في أواخر 
السبعينيات بفضل إعادة توحيد علمي النفس والاقتصاد. عقب ما شهداه من انفصال 
في نهاية القرن التاسع عشر. ومثل علماء الاقتصاد العاديينء يفترض الاقتصاديون 
السلوكيون أن الأفراد مدفوعون في العادة إلى تعظيم مكاسبهم الخاصة - لكن ليس 
دائما. ففي بعض الظروف يعودون حيوانات اجتماعية وأخلاقية. حتى حين يبدو 
هذا في الواقع كأنه يقوض مصالحهم الاقتصادية. إِذْ يتبعون القطيع ويتصرفون 
تبعا لخبرات مُعينة, ومنها المبادئ المتعلقة بألا يضحوا مقابل النقود على الإطلاق. 
إن عددا من دروس السياسة الرائجة تنتج عن هذه المبادئ. وهي ما كان يُشار 
إليه بالترغيب 110865ل2. 

فمثلاء في حال تكرار افتعال البعض إزعاجا ما داخل الحيء آنئذ كيف ينبغي 
التعامل معهم؟ لا بد أن جيرمي بنتام كان سيفترض أن تتضمن الإجابة نوعا من 
العقاب: إلا إذا كان السلوك مقترنا بألم فيكون العقاب أقل جاذبية. ئمة إجابة 
بديلة وإن تكن بالمنطق ذاته. وهي رشوتهم كي يتصرفوا على نحو أفضل. لكنْ نمة 
خيارا ثالثا ربما كان بنتام سيسخر منه؛ ماذا لو وقعوا عريضة يتعهدون فيها بتغبير 
تصرفاتهم في ا لمستقبل؟ فكرة مثيرة للدهشة بعض الشيء. لكن يبدو أنها غالبا ما 
تكون الاستراتيجية الأكثر فاعلية؛ يبدو أن القيام بالتزام أخلاقي صريح - حتى وإن 
كان تحت إكراه - يلزم البشر بطرق مُحددة تعجز عنها العقوبات والحوافز النفعية. 

يبدو هذا الأمر كأنه يقوض النظرية المتشائمة؛ والقائمة على الحسابات؛ 
والفردانية؛ عن علم النفس الإنسانيء والتي تقع في قلب مذهب بنتام وعلم الاقتصاد 
التقليدي. كما يبدو أيضا أن المبادئ الأخلاقية لها قدرة المصالح الأنانية نفسّها على 
تحريكنا. ربما لا تكون عقلانية السوق الباردة مسيطرة على سيكولوجيتنا تماما كما 
كنا نخشى. تُرىء هل من الممكن أن نكون كائنات اجتماعية مهذبة على رغم كل 
شيء؟ تؤكد الكثير من الأدلة المستقاة من علم الأعصابء والتي تكشف كيف أن 
للتعاطف والتبادلية وجودا ماديا في نسيج الدماغ. هذه الفكرة. ربمما يشكل ذلك 


171 





صناعة الشعادة 


الأساس لأمل سياسي جديد في مجتمع تطرح فيه المشاركة ومنح الهبات تحديا جادا 
لنفوذ التراكم النقدي والخصخصة. 

لكن هناك أيضا احتمالا أكثر إزعاجا: وهو أن انتقاد الفردائية والحساب 
النقدي يُدرج الآن ضمن ترسانة السياسة والإدارة النفعيتين. يمتلئ تاريخ الرأسمالية 
بانتقادات لحيونة الإنسان وعام المال غير الأخلاقي والأسواق والاستهلاك والعمل, 
والتي قدمها رومانسيون وماركسيون وإناسيون وسوسيولوجيون ونقاد ثقافيون إلى 
جانب آخرين. كل هذه الانتقادات كانت تصب في اتجاه أن الروابط الاجتماعية : 
أكثر جوهرية من أسعار السوق. ويتمثل إنجاز علم الاقتصاد السلوكي في تبني هذا 
الاستبصارء ثم تحويله إلى أداة في مصلحة السلطة. ها هي فكرة «الاجتماعي» 
الصميمة تقتنص©. 

كان جون ب. واطسون قد تعهد في العام 1917: إبان عصر العلم السلوي. 
بأنْ يُصبح في مستطاع «المربي؛ والطبيب؛ والقانوني؛ ورجل الأعمال الاستفادة من 
بياناتنا بطريقة عملية» حالما نتمكن من استخلاصها تجريبيا». لقد ظل علم الاقتصاد 
السلوي وفيا لبيان المهمة هذاء وأحد استبصاراته الجوهرية هو أنه في حالة رغبة 
فرد ما في السيطرة على أفراد آخرين, تصبح استمالة حسهم الأخلاقي وهويتهم 
الاجتماعية أكثر فاعلية من استمالة مصلحتهم الشخصية. هكذا يحول العلم السلوي 
مفاهيم مثل الإنصاف والمنحة إلى أدوات للسئيطرة الاجتماعية. من خلال تأطير تلك 
المفاهيم في مصطلحات سيكولوجية وعصبية خالصة. 

يكشف النظر لتلك الأنشطة مثل «الوفاء بالعطاء» وأعمال السخاء الإداري 
العشوائية. من منظور أشد في لا مبالاته - كما فعل الاقتصاديون السلوكيون 
أنفسهم - عن وجود عنصر خبيث بارس دوره عبر التخفي المتعمد. إِذ بالتخلي 
عن سيكولوجيا المصلحة الشخصية الخالصة. تتحول تلك المشاريع إلى اتجاه بديل 
أشد عدوانية وتضييقا؛ أي سيكولوجيا الدائن والمدين. في البذاية يُصطنع تصور 
سيكولوجي للالتزام الاجتماعيء ثم يُسَخْر لأغراض مُعينة تظل خفية. في حال 
كانت النفعية» في قرارتهاء منطقا سياسيا يُفصل من خلاله في أمر كل مؤسسة من 
حيث نتاجها المقيس؛ فلا بد آنئذ من أن تمثل امتداد هذا الأمرء ليشمل أحاسيسنا 
الأخلاقية الأساسية؛ النصر الأخير لذلك المنطق. 


1/2 





أمثلة اجتماعية 


«الاجتماعي» المدر للمال 

لقد أضحى السخاء تجارة رائجة. في العام 2009: نشر كريس أندرسون هنعط © 
دهدءعلدة امُحرر السابق لمجلة «واير» 183264 كتابه «بالمجان: مستقبل 
سعر جذري»ع28:10 لدء18201 2 أه ع1ناأنا1 عط :عع:78. لفت أندرسونء بهذه 
الصرخة المؤلبة» الأنظار إلى وجود حالة تجارية قوية الآن تتعلق بتقديم المنتجات 
والخدمات بالمجان؛ وذلك من أجل تأسيس علاقة أفضل مع المستهلك. بطبيعة 
الحال لن يُستغنى عن النقود تماما ضمن نظام منح الهبات الرومانسي هذا. لكن 
تقديم السلع بامجان يُصبح ذريعة للإمساك بجمهور ما أسيرا أو بناء سمعة طيبة 
يمكن استغلالها لاحقا في مبيعات أو إعلان مستقبلي يفرضان سعرا هذه امرة. 
بل لقد اقترح مايكل أوليريء بإدء.0“1© 21ءطء361 الرئيس التنفيذي لرايان إير 
تنوصهر8؛ شركة الطيران الأيرلندية صاحبة الميزانية اللثيرة للجدلء فكرة أن تذاكر 
الطيران قد تصبح مجانية ذات يومء مع تغطية جميع النفقات من خلال رسوم 
إضافية على الحقائب واستعمال المرحاض وتجاوز الطوابير... إلخ. 

تقع الشركات في موقف متناقض متى يبلغ الأمر السوق الحر. فهم يسعون 
إلى أن ينالوا كل الحريات التي يوفرها السوق للصالحهم المكتسبة, وإلى أن ينال 
غيرهم أقل ما يمكن منها". حيث 3 ن الحيلة في الحفاظ على أقصى استقلالية 
للمساهمين والمديرين التنفيذيين مع الظفر بأقصى التزام من جانب الموظفين 
والمستهلكين. كان ما يسلط أندرسون الضوء عليه ببساطة هو القوة النافذة 
للعلاقات غير النقدية تإجه+ع28102-8102 في بناء روابط أوثق تفيد في تحقيق 
الأرباح. بعبارة أخرى؛ آخر ما تريده شركة ما من زبائنها (أو موظفيها الأكثر 
قيمة) هو أن يتذكروا أنهم داخل سوقء وأن لديهم حرية الاختيار. وتّعد الهدايا 
الترويجية طريقة مفيدة لإخفاء ما يجري بالفعل. 

ومثلما يمكن استخدام عطايا الشركات أسلوبا في زيادة العائدء فهكذا الحال 
بالنسبة إلى الكلمات السحرية التي تُستخدم في المقابل. حيث يحلل ا مختصون 
الآن بالتسويق الطريقة المثلى لنطق «شكرا لك» أمام مستهلك؛ من أجل ترسيخ 
العلاقة الاجتماعية معهم بدرجة أكبر. وكما يبين أحد الخبراء لتجار التجزئة على 


الإنترنت: 


13 





صناعةٌ الشعادة 


ليست صفحات الشكر مُجرد عقار افتراضي يعرض الامتنان وأرقام 
الطلب. بل هي جزء لا يتجزأ من نظام تحويل مُحسن في مستطاعه. 
متى استخدم بشكل مناسب الاستمرار في زيادة عائداتك!8. 
لقد تسللت لغة الامتنان لعدد من حملات الإعلان البارزة؛ إِذْ أطلقت عدة 
شركات بأعياد الميلاد العام 2013 - لاسيما تلك التي عانت أزمات تتعلق بسمعتها 
في الآونة الأخيرة - حملات إعلانية تقدم شكرا عاما لكل المحيطين بها. وبطبيعة 
الحال يشمل هذا الشكر زبائنهم: لكنه يمتد كذلك ليصل إلى مزاج عام من الامتنان 
لهبة الصداقة. 
وأطلق بنك لويدز تي. إس. بي 158 1.1045 وهو أحد أكثر البنوك 
البريطانية تعرضا لمتاعب مالية بسبب أزمة 2008 امالية,. حملة تتألف كليا 
من صور رائعة لأصدقاء طفولة يستمتعون بلحظات سعيدة معا وتنتهي 
بعبارة «شكرا لكم» مكتوبة فوق بالونات احتفالية. ما من ذكر للنقود. 
لكن الأغرب كان إطلاق تيسكو 1650, وهي سلسلة محال كُبرى بدأت 
علامتها التجارية في التراجع منذ العام 2011. سلسلة من الفيديوهات على 
يوتيوب 0156لا تضم رجالا يلبسون سترات الكريسماس ويرددون عبارة 
«شكرا لكم» للجميع؛ بدءا من الشخص الذي يطهو عشاء الكريسماسء مرورا 
بهؤلاء الذين يقودون السيارات بحذرء وحتى الشركات الأخرى مثل إنستغرام 
تصدمعة:5م1 وهكذا. كانت تيسكو تنشر الامتنان ضمنا في جميع الاتجاهات. 
بصرف النظر عن مصالحها الخاصة. 
ينحو المشهد الغريب لشركة تسعى إلى إبراز مشاعر تقترن بمودة 
منحى أغرب حين تستغل الشركات إمكانات الفعل لدى تويتر +1106" 
لتمنحهم هوية تخاطبية ملتوية. علامات تجارية تتبادل التغريدات 
فيما بينها بشكل غزلي خجول. وقد رصدت الكاتبة كيت لوس 14866 
1055 حين واجهت ظاهرة تصرف سلسلة مطاعم دينيز 5ابإصمءد1 
بطريقة جذابة على تويتر. الكيفية التي بها: «تكتسب العلامات 
التجارية رواجا وتحظى بسمعة طيبة. اضطرت إلى تعلم التقنيات 
ذاتها التي تعلمناها كمراهقين ممانعين للتعامل مع السلطة: فكاهتنا 


174 





أمثلة اجتماعية 


الساخرة وميماتتا 5عدم246!* القابلة لإعادة ال مزج إلى مالا نهاية»7©. 
تريد الشركات الآن أن تصبح صديقة لك. 

هناك بالطبع حدود لقدر الروابط الاجتماعية التي يمكن أن تكون للفرد مع 
جهاز تحكم منطقي مبرمج 81.0!**. يستحوذ اليوم على الشركات هوس أن تكون 
اجتماعية. لكن ما يقصدونه بهذا فعليا هو أن يكون في مستطاعهم التغلغل داخل 
شبكات التواصل الاجتماعي نظيرا - إلى- نظير بأكبر قدر ممكن من الفاعلية. كما 
تأمل العلامات التجارية أن تؤدي دورا في تدعيم الصداقة بوصفها ضمانا لثلا يُتخلى 
عنهم لأسباب حسابية أكثر ضيقا. هكذاء على سبيل المثال جربت كوكاكولا عددا من 
حملات التسويق المتكلفة بعض الشيء من قبيل وضع أسماء الأشخاص (مثل سو 
وطوم... إلخ) على زجاجتهاء كأسلوب للحث على منح هدايا للأصدقاء. بل قدمت 
حزمة مكونة من زجاجتينء على افتراض أنه سيستمتع بها شخصان معا. ويأمل 
المديرون أن يتصرف موظفوهم أيضا كسفراء للعلامة التجارية خلال حيواتهم 
الاجتماعية اليومية. ويطلبون المشورة بشأن طريقة التأثير فيهم للوصول إلى ذلك. 
في تلك الأثناء. بدأ العاملون في حقل التسويق العصبي بدراسة الطريقة التي تفجر 
بها الصور والإعلانات بنجاح استجابات عصبية مشتركة بين الجماعات, أكثر منها بين 
أشخاص معزولين. يبدو هذا مؤشرا أفضل بكثير للطريقة التي سيستجيب بها عدد 
أكبر من السكان77. 

يوفر صعود الاقتصاد التشاري كما يطرحه موقع طهدتة وشركة «أوبر» 
#»طناء ودراسات كتجربة الوفاء بالعطاء. درسا بسيطا للشركات الكبرى مُفاده أن 
الناس سيحظون بلذة أكبر نتيجة الشراء إن امتزجت التجربة بمشاعر مثل الصداقة 
وتبادل الهدايا. إِذْ لا بد أن بحي دور النقود من الصورة حيثما أمكن. وكما يرى 
المسوقون فإن السداد هو إحدى نقاط الألم المؤسفة بأي علاقة مع مستهلك والتي 
تستدعي التخدير إلى جانب شكل ما من التجارب الأكثر اجتماعية» فلا بد أن يُصور 
التسوق باعتباره شيئا آخر تماما. 
(*) الميمة دمء34: صورة أو فيديو أو مجموعة من النصوص تلقى رواجا عبر الإنترنت وتنتشر بسرعة, وغالبا ما 


تكون ذات محتوى ساخر. [المحرر]. 
(« ءد) ©آط: اختصار ل عع [[مغددمكن عذعومآ عاطمفقصسسوعهمء2. [اللحرر)]. 


1/5 





صناعة الشعادة 

على رغم ذلكء فإن الحافز الأكبر لاهتمام المؤسسات التجارية الجديد بأن 
تكون «اجتماعية». يكمن. بشكل غير مفاجئء في صعود وسائل التواصل الاجتماعي 
التي توفر عددا من الفرص والتحديات الجديدة من منظور التسويق. كانت قصة 
التسويق خلال القرن العشرين قصة تفسخ تدريجي لوسائل الإعلام والسوق الكبيرة 
ونموذج الإعلان القائم على البث. ومنذُ عقد الستينيات, زاد استهداف العلامات 
التجارية للجماعات والقبائل الخاصة التي تعين فهمها بشكل أكثر دقة. من خلال 
ا مراقبة الدقيقة وجلسات النقاش. وتوفر وسائل التواصل الاجتماعي صورة أوضح 
لاستبصار المستهلك تتيح للباحثين استجلاء كيفية انتقال أذواق وآراء وعادات 
المستهلكين عبر شبكات التواصل الاجتماعي. كما تتيح بناء إعلان لأفراد بأعينهم 
على أساس من يعرفونهم, وما يحبه ويشتريه هؤلاء الآخرون. تعني تلك الممارسات, 
التي يُشار إليها إجمالا ب «التحليلات الاجتماعية» قوع #إلههى 506131 أن الأذواق 
والسلوكيات يمكن تعقبها بإسهاب غير مسبوق. 

الخدعة الأنفسء من منظور التسويق. هي كيفية استدراج الأفراد إلى 
تشارك رسائل وإعلانات علامات تجارية إيجابية فيما بينهم: وكأنها ليست 
حملة ترويجية عامة على الإطلاق. وتنطوي التجربة التجارية المعروفة ب 
:1 على صناعة صور وملفات فيديو من المرجح أن يتشارك 
فيها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي فيما بينهم من دون هدف تجاري 
متعمد في حد ذاته". كما تعد المحادثات المدعومة التي يُسهم فيها الأفراد 
بنقاشات ومدونات عبر الإنترنت برعاية شركة ما تدعمهم تجارياء محاولة معماة 
بعض الشيء لإنجاز الغاية نفسها. وقد دفع علم التسويق الفيروسي أو صناعة 
التنبيه الصوتي 822 بالمسوقين إلى ابتغاء الدروس من تحليل السيكولوجيا . 
والإناسة الاجتماعيتين وشبكات التواصل الاجتماعي. 

في الوقت نفسه الذي سلّط فيه علم الاقتصاد السلوي الضوء على الطرق 
المختلفة التي نكون من خلالها مخلوقات اجتماعية وغيرية» تتيح وسائل التواصل 
الاجتماعي فرصة للشركات لتحليل واستهداف ذلك السلوك الاجتماعي. ولا يختلف 


(*) استرائيجية تستعين بجميع وسائل التواصل الاجتماعي في بناء وتطوير علاقات شخصية وتشاركية بين المستهلكين 
والعلامات أو الشركات التجارية. [المترجم]. 


176 





أمثلة اجتماعية 


الهدف النهائي عن الهدف إبان بزوغ التسويق والإدارة في أواخر القرن التاسع عشر: 
تحقيق الربح. ما تغير هو أن كل فرد فينا أصبح يُنظر إليه باعتباره أداة متاحة 
يمكن من خلالها تبديل اتجاهات وسلوكيات أصدقائه وجهات الاتصال لديه. إن 
السلوكيات والأفكار يمكن أن تتفشى كالعدوى على أمل أن تصيب شبكات أوسع. 
وفي حين تتيح مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك إمكانيات تسويق جديدة 
كلياء في مستطاع تحليل شبكات البريد الإلكتروني توفير الإمكانيات نفسها بالنسبة 
إلى إدارة الموارد البشرية داخل أماكن العمل. ويمكن الآن إخضاع المشروع الذي 
استهله إلتون مايو في العشرينيات لفهم القيمة التجارية للعلاقات غير الرسمية, 
لمزيد من التحليل الكمي العلمي الأشد صرامة”. 

إحدى ثمار هذا المستوى الدقيق من التحليل الاجتماعي هو اكتشاف أن العلاقات 
الاجتماعية المختلفة لديها قيم اقتصادية ذات مستويات مختلفة. فمثلا بمجرد أن 
يتولى الأفراد إدارة الحملات التسويقية, بأسلوب حياتهم غير .الرسميء فإنه سريعا ما 
سيصبح من اليسير على أفراد معينين - وهم المؤثرون الذين هم على تواصل جيد مع 
ما حولهم - أن يكونوا أدوات اتصال أكثر إفادة من سواهم. وفي محل العمل سيبدو 
الموظف المتصل اجتماعيا أكثر قيمة من زميله ال معزول. إن المنطق التجاري الذي ينشأ 
عن ذلك هو أن تكون شديد السخاء مع أقلية محدودة من ذوي العلاقات الاجتماعية 
الجيدة: في حين لا تولي الآخرين إلا أقل اهتمام. لطاما جادت الحملات بعطاياها على 
المشاهير على أمل أن يؤدي ذلك إلى تعزيز علاماتها التجارية. والعملية نفسها تبدأ 
بالسريان على شبكات التواصل الاجتماعي: الأشخاص الأقل احتياجا لسخاء الشركات 
هذا هم على الأرجح أكبر ا لمستفيدين: والعكس صحيح. 

تستند أيديولوجيا هذا الاقتصاد الاجتماعي الجديد إلى تصوير الاقتصاد القديم 
على أنه اقتصاد فرداني ومادي بشكل مروع. وتقوم الفرضية على أنناء قبل الشبكة 
المعلوماتية ومرشدي كاليفورنيا الاقتصاديين الذين احتفوا بهاء كنا نعيش حيوات 
خاصة مفتتة ترتكز كل العلاقات فيها على المالء وأن الأعمال التجارية قبل أن تصبح 
اجتماعية, كانت مسألة أنانية بغيضة لا يحركها سوى الجشع. 

هذه الصورة. بطبيعة الحالء خاطئة تماما. فلطالما كانت الشركات تسعى 
إلى إنتاج علاقات اجتماعية وإدارتها والتأثير فيها (بوصفها بديلا لمعاملات نقدية 


177 





صناعة الشعادة 
خالصة) منذ نشأة الإدارة في منتصف القرن التاسع عشر. كذلك لطاما كانت 
الشركات مهمومة بسمعتها العامة والتزام موظفيهاء وغني عن الذكر أن شبكات 
التواصل الاجتماعي غير الرسمية نفسها قديمة قدم البشرية. ما تغير ليس دور ما 
هو اجتماعي في الرأسمالية بل قابلية إخضاعه لتحليل اقتصادي كمي بفضل رقمنة 
العلاقات الاجتماعية بالدرجة الأولى. ذلك أن القدرة على تصوير ومعايرة العلاقات 
الاجتماعية. ومن ثم إخضاعها لتدقيق اقتصاديء في تزايد مستمر. 

وعلى الرغم من أن خبراء التحليل الاجتماعي المتمرسين هم أفضل من يقوم 
بذلك. فإن غثمة اتجاها وفرصة متزايدين أمام الأفراد أنفسهم لتفحص حيواتهم 
الاجتماعية من هذا المنظور الرياضياتي النفعي. خلال ذلكء يبدأ البعد الأخلاقي 
للصداقة والمعاملة با مثل في التقهقرء وينتقل البعد النفعي الأوضح إلى الصدارة. 
ويكف شيء كالوفاء بالعطاء عن التأثير فينا لأننا نريد أن نتوافق مع الأعراف 
الاجتماعية. فضلا عن الركلة السيكولوجية التي تلقيناها نحن أنفسنا. هكذا يبدأ 
الناس بالتفكير في الغيرية بوصفها حافزا. لكن رؤية العلاقات الاجتماعية من منظور 
اقتصادي ضمنيا والانقياد لهذا المنظور يطرحان سؤالا بغيضا: بم يعود علي ذلك؟ 
وإحدى الإجابات الصادرة الأكثر إقناعا هي أن الصداقة والغيرية نافعتان للصحة 
العقلية والبدنية في الآن نفسه. 


«الاجتماعي» الطبي 

في فبراير 2010 وجدت نفسي أجلس داخل ردهة فسيحة. على يساري عرش ذهبي 
ضخم. وعلى يميني زعيم حزب العمال البريطاني في المستقبل؛ إد ميلباند 21/111024 80. 
كنا نشاهد صورا على شاشة ذكرتني بفيديوهات النمط الهندسي المتكرر التي كان 
يبيعها تجار العلاج بالأعشاب ف سوق كامدن 18121126 صع3220) في لندن أوائل 
التسعينيات. كان من الحاضرين أيضا عدد من مستشاري الحكومة السياسيين ممّن 
بذلوا قصارى جهدهم في يبدوا مسترخين تماما قدر الإمكان. وهي لعبة مكانة تجري 
داخل أروقة السلطة من أجل الإيحاء بهدوء الأعصاب وكأن المرء في بيته (وقد ربح 
المباراة في ظل الحكومة اللاحقة أقرب مقربي ديفيد كاميرون 7200ع7مةت) 1020710؛ وهو 
ستيف هيلتون ده:!151 5:678, الذي اشتهر بالتنقل بين الاجتماعات حافي القدمين). 


1/8 





أمثلة اجتماعية 


كنا نحو عشرة أفراد داخل الغرفة. وهي من أكثر مكاتب مجلس الوزراء 
باروكية”*). وكنا نحدّق في هذه الشاشة مشدوهين بسبب حركة النقاط والخطوط 
الفردية المعروضة. كان يقف إلى جانب الشاشة. وقد تجلى استمتاعه بالتأثير الذي 
تركه الفيديو على جمهوره من المؤثرين: الطبيب والسوسيولوجي الأمريكي نيكولاس 
كريستاكيس دفلة) اعمط 135[مطء1ل2. كان الأخير بجولة محاضرات للترويج لكتابه 
«متصل» 00282660 ودّعي إلى طرح بعض نتائجه على صانعي القرار السياسي 
البريطاني إبان الأيام الأخيرة في حكومة غوردون براون م8 مه60840. وقد 
دُعيثٌ أنا الآخر بصفتي سوسيولوجيا مهتما بالسياسة. 

إن كريستاكيس سوسيولوجي غير عادي. لا لأنه ذو براعة رياضياتية استثنائية 
تفوق ما لدى أغلب البقية فقطء بل أيضا لأنه نشر عددا من المقالات في مجلات 
طبية رفيعة. كانت الصور ذات النمط الهندسي المكرر التي كنا نشاهدها على الشاشة 
ذلك اليوم تمثل شبكات اجتماعية في أحد أحياء بلتيمور 82112016 حيث تتنقل 
سلوكيات وأعراض طبية بعينها. كانت رسالة كريستاكيس لصانعي القرار السياسي 
المحتشدين شديدة القوة, ومفادها أن ا مشكلات مثل السمنة والفقر والاكتئابء والتي 
غالبا ما تأتي معا وتحتجز البشر في حالات مزمنة من الخمولء معدية. وهي تتنقل مثل 
الفيروسات بالشبكات الاجتماعية لتشكل خطورة على الأفراد القريبين منهم. 

كان ثمة شيء ساحر ومغر في الصور. ترى هل يمكن حقا تمثيل المشاكل الاجتماعية 
المستحكمة برسوم بيانية من هذا النوع؟ كانت براعة كريستاكيس التقنية فاتنة لا 
ريبء وقد بدا تحليله عالي التقانة للشبكات الاجتماعية داخل سياق التراث المهيب 
الذي بدأ فيه الجنود الأمريكيون بإدخال العلك والجوارب النايلون إلى بريطانيا إبان 
الحرب العاطية الثانية(**2, مبتكرا ولا يقاوم. سيحظى الوعد السلوي, الذي ربما تكون 
السياسة قد أرسته في العلوم الطبيعية: بمن يستمعون إليه دائما بين كبار متخذي القرار. 
(*) نسبة إِنى العصر البارويء من عصور الفن الأورويء وهو الممتد خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر, تتميز 
الأعمال المعمارية المندرجة تحت النمط الباروي بضخامة الحجم ودقة التفاصيل. [المحرر]. 
(**) بدأ توافد الجنود الأمريكيين إلى الأراضي البريطانية في أثناء الحرب العاطية الثانية في ديسمبر 1942 ليصلوا 
إلى ثلاثة ملايين جندي مع نهاية الحرب. ونتيجة لظروف التقشف الرتبطة بالحرب من جانبء وابتعاد الجنود 
الأمريكيين عن موطنهم من جانب آخرء نشأت شبكة من العلاقات الاجتماعية بين العائلات البريطانية وهؤلاء الجنود 


انتقل من خلالها الكثير من العادات وأنماط السلوك بين الجائبين» سواء بالتعامل المباشر أو بالزواج أو غيرهما من 
العلاقات. [المترجم]. 


19 








صناعة الشعادة 


لكن ما وجدته سرياليا بعض الشيء ذلك اليوم: علاوة على العرش الذهبي 
الهائلء هو المشهد العجيب لهذا المجتمع ال محلي المحدد الذي كنا على دراية به في 
جوف المدينة الأمريكية. فشأن شركات التحليل الاجتماعي التي تسعى إلى استجلاء 
سلوكيات المستهلكين أثناء ظهورها وانتقالهاء كنا نحن أيضا في لندن نراقب كيفية 
انتقال العادات الغذائية والمشاكل الصحية لدى بضعة آلاف من سكان بلتيمور شبه 
المعدومين فيما بينهم؛ كأنها مرض. وبدت الحال كأننا نراقب مستعمرة نمل من 
أعلى. في الواقع كانت حقيقة أن تلك الصور الوامضة تمثل بشرا لهم علاقات وتاريخ 
وبرامج عملء مسألة هامشية تقريبا. 

إن فرص السياسة هنا مثيرة جدا بطبيعة الحالء لاسيما في عصر حكومة التقشف. 
ِذْ لو كان في مستطاع ممارسي الطب تغيير سلوك فئة قليلة فقط من أصحاب النفوذ 
داخل شبكة علاقات إلى الأحسنء فربما يكون في مستطاعهم حينئذ نشر عدوى أكثر 
إيجابية. لكن السؤال يتمثل في قدرة صناع القرار السياسي على التوصل إلى هذا 
النوع من البيانات السوسيولوجية إجمالاء من دون اللجوءه إلى شكل ما من امراقبة 
الجماعية للحياة الاجتماعية. ذلك أنه في حين يزداد اعتيادنا على فكرة قيام شركة 
خاصة مثل غوغل 6اعهه6 بجمع بيانات مفصلة تتعلق بالسلوك اليومي للايين 
البشرء فإن فكرة قيام الحكومة بالشيء ذاته لاتزال فكرة مروعة جدا. 

في الوقت الذي يسعى فيه المسوقون بكامل طاقتهم إلى التغلغل في شبكات 
تواصلنا الاجتماعي بهدف تبديل أذواقنا ورغباتناء صار صناع القرار السياسي هم أيضا 
ينظرون إلى شبكات التواصل الاجتماعي بوصفها وسائط لتحسين صحتنا ورفاهيتنا. 
وجانب مهم من هذا الأمر هو اكتشاف أن نقص العلاقات الاجتماعية - أو العزلة - 
ليس سببا في التعاسة فقطء بل في مخاطر جدية على الصحة الفيسيولوجية أيضا. 
ويقترح علم الأعصاب الاجتماعي الذي أرسى أسسه عام الأعصاب في جامعة شيكاغو 
حون كاسيوبو ممدهكءة© صطو[ أن الدماغ البشري تطور بهذه الطريقة في يعتمد 
على العلاقات الاجتماعية. ويطرح بحث كاسيوبو مسألة أن العزلة تشكل خطرا 
أكبر على الصحة يفوق التدخين". وتهدف ممارسات مثل الوصفة الاجتماعية 
التي يوصي فيها الأطباء الأفراد بالالتحاق بفرقة ما أو منظمة تطوعية إلى مكافحة 
الانعزال ونزوعه إلى التحول إلى اكتئاب ومرض مزمن. ْ 


130 





أمثلة اجتماعية 


بذلت حركة علم النفس الإيجابيء التي اشتد عودها سريعا منذ أوائل التسعينيات, 
جهدا كبيرا لتسليط الضوء على الثمار السيكوسوماتية للعلاقات الاجتماعية القائمة 
على التبادل. لكن في حين يحب مختصو علم النفس الإيجابي الحديث استخدام 
مصطلحات كالازدهار والتفاؤل. ثمة ارتفاع مستمر في معدلات تشخيص الاكتئاب 
قابع خلف الكثير من تلك الفصاحة. وفضلا عن أن معلمي هذه الحركة دانمو 
الابتسام. فإن الكثيرين من قرائهم ومستمعيهم يصارعون الإحساس بانتفاء املعنى 
والعزلة والخواء. وهي المشاعر ذاتها التي يطلبون علاجها من دون كلل. 

مرة أخرى. يتعرض منطق سوق الصرف النقدي لهجوم ضار في علم النفس 
الإيجابي. والكلمات التي تعاود الظهور: مرة تلو الأخرى داخل نصوص وأحاديث علم 
النفس الإيجابي هي الامتنان والمنح والتعاطف. هكذا يدعو هذا العلم مريديه؛ في 
عام يبدو باردا وحريصا وغير مبالء إلى تبني موقف أكثر أخلاقية قائم على التعاطف 
والسخاء. وتمر حقيقة أن التشديد على التبادلية الاجتماعية يتماشى تماما مع روح 
الرأسمالية الراهنة (والتي تتجلى بوضوح في التسويق) من دون الإشارة إليها. لكن 
ما يثب بالفعل من هذا التوجه الأخلاقي الجديد هو الطريقة التي يُسوْغ بها من 
خلال تلك الحقيقة وهي: «المنح يهب المانح سعادة أكبر». وبالمثل» يؤدي التعود 
الذهني على الإحساس بالامتنان إلى فوائد عقلية إيجابية. هكذا يتمثل النصح في 
الكف عن الانشغال بالنفس كثيراء لكن المسوغ أناني في نهاية الأمر. 

وكما كان واضحا من حلقة كريستاكيس العلمية داخل غرفة العرش في مجلس 
الوزراءء فإن الشبكات الاجتماعية تشكل اليوم أدوات للسياسة الصحية؛ فهي 
وسائل يمكن من خلالها التأثير على لذات وآلام عقولنا وأجسامنا. كان المشروع 
النفعي يرتكز تاريخيا على بعض الصور الأولية من العصا والجزرة - العقاب لإيقاع 
الألمء والنقود واللذات البدنية لممنح السعادة. الآن» بفضل الاتساع المتزايد للسياسة 
والبحث الطبيين» أصبح الناس الذين نتواصل معهم اجتماعيا هم أنفسهم أحدث 
الأدوات للتحسين النفس جسدي. ونعرف الآن أن المعزولين اجتماعيا يعانون آلاما 
بدنية عقب عملية جراحية بالورك تفوق ما يعانيه أصحاب العلاقات الاجتماعية 
الأوسع”'". حيث صار من المعروف أن تبني نظرة إيجابية يساعد على الشفاء من 
ا مرض العضوي ويقلل من مخاطر تفشيه. . 


181 





صناعة الشعادة 


يغوص الفهم الواعي للحياة والقيم الأخلاقية الاجتماعيين سريعاء بتأثير من 
علم الأعصاب على وجه التحديد. في دراسة الجسم. وقد أوضح أحد باحثي علم 
الأعصاب الاجتماعي؛ ماث ليبرمان 2ددءطءذ1 22 كيف أن الآلام التي كنا 
نتعامل معها عادة بوصفها آلاما عاطفية (مثل الانفصال عن حبيب) تنطوي على 
العمليات الكيميائية العصبية نفسها التي نشهدها بالآلام البدنية (مثل كسر ذراع). 
وركز عام أعصاب بارز آخرء هو بول زاك عله 1ئاه (الذي يشتهر في وسائل الإعلام 
بع107 .1(5) على مادة كيميائية عصبية بعينها هي أوكسيتوسين ك0 وهي 
التي يقول إنها ترتبط بالكثير من أقوى غرائزنا الاجتماعية مثل الحب والإنصاف. 
واكتشف علماء بجامعة زيوريخ أن في مستطاعهم إنتاج إحساس بالصواب والخطأ 
من خلال تحريض منطقة معينة بالدماغ9". هكذا يتقارب العلم الاجتماعي 
والفيسيولوجيا ليؤلفا فرعا معرفيا جديدا تدرّس فيه الكيفية التي تستجيب بها 
الأجسام البشرية بعضها لبعض عضويا. 

قد يبدو من الجنوح بعض الشيء طرحٌ مسألة أن صناع القرار السيامي يتغافلون 
عن هذا الدليل على أثر الغيرية وشبكات التواصل الاجتماعي على الصحة. ولو 
كان في مقدور علم النفس الإيجابي أن يؤدي إلى مزيد من الاهتمام المشترك. من . 
خلال الاعتماد على النفس والنصائح المعرفية» فما المانع آنئذ؟ على رغم ذلك لايزال 
هناك خطر كامن في هذه النظرة إلى البعالم. وهي المشكلة ذاتها التي تصيب كل 
أشكال تحليل شبكات التواصل الاجتماعي. إذ من خلال اختزال العام الاجتماعي في 
مجموعة من الآليات والوارد المتاحة للأفراد. يثار السؤال المتكرر عما إذا كان من 
ا ممكن إعادة تصميم شبكات التواصل بطرق ما قي تتوافق مع أصحاب الامتيازات 
حاليا؛ فلدى تلك الشبكات ميل نحو ما يطلق عليه «قوانين السلطة» التي يتمكن 
من خلالها أصحاب النفوذ من استغلال تلك السلطة للظفر بنفوذ أكبر. 

لقد برهنت توليفة من علم النفس الإيجابي وتحليلات وسائل التواصل 
الاجتماعي على أن الأمزجة والانفعالات الاجتماعية تنتقل عبر الشبكاتء تماما 
كاكتشاف كريستاكيس بالنسبة إلى السلوك الصحي. فعلى سبيل المثالء وجد 
الباحثون في جامعة بيهانخ تااوء نآ #صقطء8 بالصين من خلال تحليل محتوى 
رسائل الوسائط الاجتماعية» أن أمزجة بعينها مثل الغضب تميل إلى الانتقال أسرع 


152 





أمثلة اجتماعية 


من غيرها عبر الشبكات”". ويشتهر الإطار السلبي للعقلء بما فيه الاكتئاب ذاته. 
بأنه معد اجتماعيا. آنئذ يستطيع الأشخاص السعداء الأصحاء تصميم علاقاتهم 
الاجتماعية بأساليب تحميهم من احتمالات الإصابة بالتعاسة. وينصح غاي وينش 
داعس ة18؟ إن وهو سيكولوجي أمريكي درس هذه الظاهرة. السعداء بالحذر: «إن 
وجدت نفسك تعيش برفقة أو بالقرب من ذوي نظرة سلبية إلى العام؛ فكر في 
تنويع لائحة أصدقائك»9". إن تخيل أثر إعادة تنويع لائحة الأصدقاء هذه على 
أولئك المنكوبين بالرؤى السلبية هو أمر بالغ اليسر. 

ثمة شيء محزن بعض الشيء. وهو أن نسيج الحياة الاجتماعية يعد مشكلة 
تتناول الآن تحت بند السياسة الصحية. حيث يلوح الآن الشعور بالوحدة باعتباره 
مشكلة موضوعية: لا لشيء إلا لأنه يظهر داخل الدماغ والجسم العضويين إلى 
جائب تكاليف محسوبة لكل من الحكومة وشركات التأمين الصحي. كما يُحثْ 
الناس على السخاء والامتنان.» لكن للتخفيف بالأساس من مشاكل صحتهم 
العقلية وبؤسهم الخاص. لقد غدت روابط الصداقة داخل الأحياء الفقيرة في 
وسط المدينة محطا لاهتمام الحكومة لا لشيء إلا للتغطية على أوبئة سوء 
التغذية والخمول الباهظ. كل هذا هو مسعى إلى الإمساك بالعالم الاجتماعي 
من دون الانصراف عن السيكولوجيا الفردانية الرياضياتية. وفي الوقت الذي قد 
يقدم فيه هذا الأمر مساعدات طبية حقيقية للأشخاص ال محتاجينء فإن محاولة 
فهم المجتمع من ناحية نفسية بحتة تشكل أيضا وصفة جاهزة للنرجسية, وم 
يكن الرجل الذي استهل هذه المحاولة إلا نرجسيا. 


أداء دور السيد 

في العام 1893 جلس صبي يبلغ من العمر أربع سنوات فوق قمة جبل متداع 
من المقاعد التي كدسها هو وأصدقاؤه بعضّها فوق بعض داخل القبو بمنزل أبويه 
الواقع في ضواحي بوخارست بالقرب من نهر الدانوب. كان الصبي؛ جاكوب مورينو 
ه101 لامو[ يستغل فرصة غياب أبويه ليمارس لعبته الأثيرة؛ أن يؤدي هو دور 
السيد. ويؤدي الأطفال الآخرون من حيه أدوار العبيد. وقد أمر عبيده. من فوق 
كومة الكراسيء بأن يتخيلوا أن لهم أجنحة وأن يرفرفوا بها فأطاعوه. لكن عبدا من 


103 





صناعة الشعادة: 


العبيد سأله حينئذ: «مّ لا تُحلّق؟». وافق» وانطلق يحلق في الهواءء لكن خلال ثوان 
وجد نفسه ممددا فوق أرضية القبو بذراع مكسورة. 

رغبة موريئو في أداء دور السيد لمم تفارقه قط في الواقع. وقد نفخت فكرة 
«أن البشر أسياد داخل نطاق عوالمهم الاجتماعية الخاصة؛ يتحكمون في أنفسهم 
وعلاقاتهم». الحياة في عمله بوصفه محللا نفسيا وسيكولوجيا اجتماعيا أثناء سنوات 
بلوغه. ولخصت دراسته المنشورة في العام 0 «كلمات الأب» 4ه 5ل10ه18 عط1' 
عط عط فلسفة إنسانوية مروعة يواجه فيها البشر مواقف ذات إمكانيات 
لانهائية, العامل الوحيد المقيد لقواهم الخاصة بالتحكم الذاتي هو وجودهم داخل 
مجموعات اجتماعية. لكن الأخيرة هي الأخرى مطواعة وقابلة للتحسين. كل سيد 
يحتاج إلى عبيده. 

كانت فانتازيا الأبوة المطلقة سمة دانمة لسيرة مورينو المهنية. قادته إلى اختلاق 
بعض الأساطير السخيفة عن أصوله. منها بعض الأكاذيب الخالصة مثل ادعائه الذي 
لم يكف عنه أنه قد ولد على متن سفينة في العام 1892, بلا جنسية محددة. ولأب 
مجهولء في حين أن الحقيقة أنه ولد في بوخارست في العام 1889 لتاجر يهودي كادح 
يحمل الجنسية التركية. كما تهالك في وقت لاحق من حياته في ادعاء تأليف عدد 
من المفاهيم والتقنيات المختلفة التي كانت متداولة في أوساط علم النفس والطب 
النفسي آنذاك. إضافة إلى عداء خاص معام النفس كورت ليفين صذماع.آ )تنكل 
الذي كان يتصور أنه يسرق أفكاره. كان مورينوء بالنسبة إلى شخص شديد الاهتمام 
بدراسة العلاقات الاجتماعية. شخصا مهووسا بالارتياب فيمن حوله وأنانيا بشكل 
غير عادي. 

انتقلت أسرته إلى فيينا وهو لم يزل طفلاء حيث التحق هناك فيما بعد بالجامعة 
لدراسة الطب. وقد مكنه ذلك من حضور محاضرات سيغموند فرويد قبيل الحرب 
العالمية الأولى بوقت قصير. لكن المحلل النفسي الأشهر مم يحظ إلا بإعجاب بسيط 
من مورينوء وقد بادره الأخير حين غادر قاعة المحاضرات في أحد أيام العام 1914 
بقوله: «حسنا دكتور فرويدء سأبدأ من حيث تنتهي. إذ إنك تستقبل مرضاك داخل 
بيئة مكتبك ال مصطنعة. في حين أقابلهم أنا في الشارع وداخل بيوتهم ومحيطهم 
الطبيعي»!5". وقد وفر له اندلاع الحرب فرصته الأولى لفعل ذلك. 


184 





أمثلة اجتماعية 
كانت جنسيته المختلطة تعني عدم استطاعته الخدمة في الجيش؛ فعين طبيبا 
في معسكرات اللاجئين بالإمبراطورية النمساوية المجرية بين العامين 1915 و1918, 
حيث جعلته مراقبة نزلاء تلك المعسكرات يبدأ في التفكير بشأن أساليب يمكن من 
خلالها التأثير في إحساسهم بالسعادة من خلال إبدال محيطهم الاجتماعي الراهن. 
كانت ظروفهم الموضوعية سببا واضحا في شقائهم الهائل. لكن مورينو اعتقد أن 
ا ملاحظة الدقيقة لأنساق العلاقات قد تظهر طرقا ممكن من خلالها تحسين الإشباع 
النفسي ببعض التغييرات الطفيفة نسبيا. وقد دون تلك الأفكار في العام 1916 في 
خطاب أرسله إلى وزير الداخلية النمساوي المجريء جاء فيه: 
إن المشاعر الإيجابية والسلبية التي تظهر للعيان من كل بيتء وبين 
البيوت, ومن كل مصنعء ومن الجماعات القومية والسياسية داخل 
المجتمع المحلي, يمكن استكشافها عبر وسائل التحليل السوسيومتري. 
لذلك أوصي بإصدار تعليمات جديدة تخص المنهجيات السوسيومترية9". 
ترى ما هذا التحليل السوسيومتري الذي أشار إليه؟ وكيف كان سيساعد في 
الاستكشاف؟ لقد وضع القياس الاجتماعي كما تصوره مورينو - على رغم أنه لم يكن 
قد طور بعد بوصفه علما رياضياتياء فضلا عن كونه علما حسابيا - الأساسٌ ما صار 
لاحقا تحليل الشبكات الاجتماعية وبالتالي تحليل الوسائط الاجتماعية. لكن قبل أن 
يصبح في المستطاع تطوير هذا التحليل إلى إمكانية علمية» كان ينبغي استنفار جزء 
آخر من فانتازيا مورينو الذاتية. 
كان مورينو يزعم أن الحياة في الولايات المتحدة هي قدره الدائم. وقد أعلن. 
مستحضرا خرافة أنه بلا أب أو أصول: «ولدت مواطنا عالياء بحارا ينتقل بين بحر 
وآخر. ومن دولة إلى أخرى. كتب له أن يرسو ذات يوم في ميناء نيويورك». وروى 
في العام 2 حلما رأى فيه أنه كان يقف في الحي الخامس في مانهاتن وبحوزته 
جهاز جديد لتشغيل وتسجيل الصوت. لمم يكتف باستحداث فرع جديد تماما في علم 
النفسء. فأشار حلمه إلى أن مورينو مقدّر له كذلك اختراع الفونوغراف. وقد شرع 
برفقة مساعده فرانز لورنيتزو 20أثم:ه.1 همه في العمل على جهاز كهذا خلال 
العام 1924., متقدما ببراءة اختراعه في فييناء وهو ما أدى إلى دعوته إل أوهايو 
لتطوير التقانة مع الشركة العامة لتصنيع الفونوغراف. 


155 





صناعة الشعادة 


من الممكن أن يكون نقص التقدير الذي تلقاه عن هذا الاختراع قد أصابه 
بالاحباط. خاصة مع رفضه الاعتراف بوجود مشاريع عديدة مشابهة يجري العمل 
عليها معا. فضلا عن تجنب مضيفيه في أوهايو تملق هذا المخترع الفريد بالصورة 
التي افترضها. لكن الدعوة إلى أوهايو مكنته. على الرغم من ذلك من استيعاب 
رؤيته لنفسه على أنه أمريكي بلا وطن وأنه تربى بلا أبوين. إلى جانب تحديد مدينة 
نيويورك - المدينة التي احتلت أحلامه وأوهامه على مدار العقد السابق - الاتجاه 
نحو نموذج جديد لمجتمع بدا أنه ينسجم مع فرضية مورينو بشأن الذوات المهيمنة 
التي تتواجد داخل مجموعات اجتماعية من صنعهم. 

ووفق ما أشارت ملاحظة مورينو الفظة أمام فرويد. كانت المشكلة مع التحليل 
النفسي هي دراسته الأفراد بمعزل عن المجتمعء. من دون القيود التي تفرضها 
العلاقات القائمة. لكن ما البديل؟ كان الخطر يتمثل في إمكانية أن تتحول فردانية 
الفرويدية المفرطة مباشرة إلى ما يساويها من جماعية الماركسية المتطرفة» أو صيغة 
السوسيولوجيا الإحصائية التي كان إميل دوركايم دمنعطعام8 عانم أول من 
نادى بها. من وجهة نظر مورينو. جعل هذا الأمر الأوروبيين في موقف من يختار 
بين أمرينء إما الجماعية القسرية بالدولة الاشتراكية وإما الأنانية الجامحة للذات 
غير الواعية. مع ذلك. طرحت نيويورك إمكانية وجود طريق ثالث. فههنا مدينة كان . 
الأفراد يعيشون فيها كل منهم فوق الآخرم ويتعاونون بطرق بارعة مختلفة. لكن 
من دون أن تشكل حرياتهم الشخصية عقبة في العملية. كانت أمريكاء كما أدرك 
مورينوء أمة مبنية على جماعات شكلت نفسها بنفسها. 


رياضيات الصداقة 

حظي مورينو في نيويورك بأولى فرصه لتطوير تقنيات البحث التي كان قد 
اعتبرها بالفعل قياسا اجتماعيا. وكان حصيفا بما يكفي للتخلي عن الحديث عن 
الأفراد بوصفهم أسيادا لأنفسهم. لكن عدا ذلكء كان مورينو يعتزم البناء فوق 
الاستبصارات التي اكتسبها في أثناء وجوده داخل مخيمات اللاجئين وقت الحرب 
والنظريات السيكولوجية في «كلمات الأب». وقد وصف مشروع القياس الاجتماعي . 
كما يلي: 


156 





أمثلة اجتماعية 
من المهم أن نعرف ما إذا كان بنيان مجتمع محلي ما يجيز لكل عضو 
من أعضائه أن يكون ممثلا حرا للدرجة القصوى في بناء جماعات 
يكون هو جزءا منها وتكون المجموعات المختلفة التي تتألف منها تلك 
الجماعات شديدة التنظيم والانسجام بعضها مع بعض بحيث يصبح 
الناتج «كومنولث» قويا ومتآلفا”". 
توجد العلاقات هنا لخدمة الفرد. وتستمد العفوية والإبداع كليا من كل واحد 
فينا على حدة. لكن مقدرتنا على إفرازها تعتمد على وجودنا في إطار الظروف 
المناسبة اجتماعيا. وكانت مهمة القياس الاجتماعي هي وضع دراسة العلاقات 
الاجتماعية لفرد ما على أساس علمي يشمل الرياضيات في النهاية. 
لقد عبث مورينو بطرق عديدة لتنفيذ تلك الفكرة أثناء وجوده في فيينا. إذ 
تملكه هاجس أن المخططات البصرية ربما تكون الطريقة المثلى لتمثيل شبكات 
تفاعل معقدة. حيث سبق له تقديم بعض من تلك الأفكار في مؤتمر للطب النفسي 
عُقد في العام 1931.: حين دعي إلى تجربة هذا النمط المقترح من الدراسة على 
نزلاء سجن سنغ سنغ 221508 عاذ عدرزة في نيويورك. وهناك صمم استبيانا لتقييم 
السجناء تبعا لثلاثين خاصية بسيطة مثل العمر والجنسية والإثنية, وهلم جرا. م يكن 
هناك شيء غريب فيما يتعلق بهذا الأمر في عصر الدراسات المسحية. لكن ما فعله 
فيما بعد كان رائدا. 
بدلا من تحليل هذه البيانات من ناحية المتوسطات والتراكمات والاحتمالات 
(وهو ما كان باحثو السوق ومستطلعو الآراء يشرعون في تنفيذه آنذاك). طفق 
يقارن بين كل سجين وآخر بهدف تقييم مدى ملاءمة كل منهم للآخرء على حدة. 
ههنا ولد شكل جديد من علم الاجتماع يستهدف القبض على قيمة العلاقات بين 
فرد وآخرء من حيث مدى إفادتها للأفراد الذين هم أطراف فيها. لم يكن مهتما 
بماهية السوي أو النموذجي على العموم, بل ما كان يريد أن يعرفه هو الكيفية التي 
كان يتأثر من خلالها البشر يمن تصادف أنهم يعرفونهم. 
قبل اختراع الحواسيب كانت رياضيات طريقة البحث هذه مخيفة. ذلك أن 
دراسة كل علاقة داخل مجموعة تضم أربعة أفراد تنطوي على بحث ست روابط 
كحد أقصى. زد حجم المجموعة إلى عشرة أفراد؛ عندئذ ستبحث خمسا وأربعين صلة 


157 





صناعة الشعادة 
ممكنة. زد المجموعة إلى ثلاثين فردا؛ يزدد عدد العلاقات المحتملة إلى 465 علاقة, 
وهكذا. كان عملا بطيئا وشاقاء لكن البشر لا يمكنهم الاحتفاظ بممنزلة الأسياد داخل 
عوالمهم الاجتماعية ما مم تكن طريقة البحث الاجتماعي تحترم استقلالهم الفردي. 

خلال العام التالي سنحت لورينو فرصة أخرى لتطبيق القياس الاجتماعي في 
مدرسة نيويورك لتدريب الفتيات في هدسون. هذه المرة ركز بشكل أوضح على 
اتجاهات الأفراد بعضهم نحو بعض؛ فسأل كل طالبة عن الزميلة التي تود لو 
شاركتها غرفتها وعمن تعرفها بالفعل. وقد شهدت هذه الدراسة إنتاج مورينو 
خرائط سوسيومترية بصرية للنتائج للمرة الأولىء ترسم شبكات الروابط المشتركة 
بين الفتيات داخل المدرسة بخطوط حمراء مرسومة باليد. نشرت فيما بعد في كتابه 
الصادر في العام 1934 «مّن سينجو؟» ع#انصبا5 11هط5 18/80 هكذا أصبح العام 
الاجتماعي مرثيا بطريقة جديدة كليا. ويمكن القول إن هذه كانت وسائل التمثيل 
البصري التي ستهيمن على تفاهمات القرن الحادي والعشرين فيما يتعلق بما هو 
«اجتماعي ». 

لا ريب أن رؤية الحياة الاجتماعية التي دعمت القياس الاجتماعي كانت رؤية . 
أكثر فردانية بكثير من تلك التي ألهمت علم الاجتماع حتى تلك اللحظة. حيث 
لا تنشأ الكيانات الجماعية إلا بفضل القوة العفوية للذوات الفردية التي يمكنها 
الاستغناء بسهولة شديدة عن تلك الكيانات مرة أخرى. وبقدر ما كان الأمر يتعلق 
بمورينوء كانت الثقافة الأمريكية تقوم على هذه الحرية بالتحديد في الدخول 
والخروج من المجموعات. لكن اختلاق علم اجتماعي يعترف بهذه الحرية الفردية 
كان أبعد ما يكون عن اللمسار المستقيمء فطرحت مشكلتان على وجه التحديد 

المشكلة الأولى هي إقصاء الطبيعة الثرية وال ملزمة والمريحة والخانقة أحيانا 
للحياة اجتماعية من المشهد. ذلك أن أنماط البيانات التي يمكن أن تضمها دراسة 
سوسيومترية لا بد بالضرورة من أن تكون مبسطة للغاية؛ فبالضبط كما توفر 
مواقع الوسائط الاجتماعية للمستخدمين حدودا صارمة للكيفية التي يمكنهم عبرها 
تعريف أنفسهم عاطفيا («أعزب»؛ «على علاقة» أو «الأمر معقد») أو من حيث 
العلاقة التي تربطهم («صديق»؛ «غير صديق»». «متابع»؛ «غير متابع»).؛ لا ينجح 


188 





أمثلة اجتماعية 


قياس مورينو الاجتماعي إلا في حال استبعاد الفروق الدقيقة. كان الثمن الواجب 
دفعه مقابل إيجاد الحدود المقيدة للمهمة الفرويدية هو البدء في تغييب أغوار 
النفس البشرية عن الأنظار. ذلك أن القياس الاجتماعي كان مضطرا لا محالة إلى 
أن يحفر مسارا بين كونه علما يدرس المجتمع وعلما يدرس الفرد المعزول» لتبسيط 
الاثنين بشكل جوهري. بالطبع؛ في مستطاع هذا التبسيط أن يبدو جذابا كما أثبت 
عرض نيكولاس كريستاكيس البصري في لندن ذلك اليوم. هكذا تحتاج النخبة من 
أجل التصرف بطريقة علمية فيما يتعلق بالعالم الاجتماعي إلى استبعاد الثقافة 
والفروق الدقيقة. 

المشكلة الثانية هي ماذا نفعل برزمة البيانات الناجمة عن رؤية المجتمع 
باعتباره شبكة من العلاقات البينية؟ وكيف يكن التعاطي معها جميعا أو إدراك 
ا مغزى منها؟ لم تكن لدى مورينو إجابة عن تلك الأسئلة. كانت الحقيقة هي أن 
تحليل الشبكات الاجتماعية لن يحلق إلا بحلول الستينيات لا بسبب الحاجة إلى 
نظرية ضمنية مقبولة. بل بسبب الحاجة إلى قوة وافية لعالجة الأرقام. وكما 
شهدنا كان التحدي الرياضياتي الذي فرضه مورينو على العلوم الاجتماعية مرهقا؛ 
فلم يتطور تحليل الشبكات الاجتماعية في الولايات المتحدة إلا ببطء شديد إبان 
الخمسينيات والستينيات؛ إِذْ أعاقت هذا التطور مشكلة معالجة زمر البيانات 
المعقدة. وقد طَورَت خوارزميات بمكنها اكتشاف الأنماط داخل البيانات الاجتماعية, 
لكن الجامعات كانت تفتقر إلى القدرة الحاسوبية لأتمتة تلك الخوارزميات. 

بحلول السبعينيات جرى تطوير سلسلة من حزم البرمجيات بهدف تحليل 
الشبكات الاجتماعية*". بالطبع؛ كانت تلك الحزم لاتزال تتطلب وجود باحثين 
أكاديميين ليخرجوا لجمع البيانات كي تغذى الحواسيب بها. كما كانت لاتزال طريقة 
شاقة لتحليل العام الاجتماعي لم تكن تحظى - مقارنة بعلم الإحصاء - إلا بالقليل 
من السيطرة على الخيال العام. كان كل ما تتطلبه هو أن تتحول كتلة واسعة 
من الأفراد إلى مستخدمين منتظمين لشبكات الحواسيبء ي يصبح في مستطاع 
منهجية مورينو أن تكون طريقة سائدة لفهم مغزى كلمة «اجتماعي». كان هذا هو 
الموقف الذي نشأ بالضبط في بداية القرن الحادي والعشرين, وكذلك الفرص التي 
انتهزتها شركات الجيل الثاني من الويب والتي بزغت إلى الوجود منذ العام 2003. 


169 





صناعة الشعادة 


لقد أدت الدراسات السوسيومترية التي أجراها مورينو عبر إجراء اللقاءات مع بضع 
عشرات إلى إيجاد مخططات بخط اليد يمكن تنفيذها الآن في المركز الرئيس لشركة 
فيسبوك كلمح بالبصر وبمشاركة مليار شخص. 

لكن طرائق التحليل الاجتماعي ليست بريئة سياسيا على الإطلاق كما تبدو؛ 
لذلك يستحق الزعم بأن تحليل الشبكات الاجتماعية هو دراسة رياضياتية بسيطة 
مجردة للروابط التي تصل بينناء إمعان النظر في الفلسفة التي ألهمت مؤسس هذا 
التحليل. وبقدر ما كان الأمر يتعلق بمورينوء ثمة آخرون مهمتهم دعم وإرضاء ذوات 
الأفراد؛ فالصداقة ثمينة لدرجة أنها تحسن حالتي المزاجية. لكن حين تتحول دراسة 
الحياة الاجتماعية إلى فرع من السيكولوجيا الرياضياتية, آنئذ تسفر عن بعض الآثار 
المقلقة التي تتعلق بالكيفية التي يبدأ بها البشر في أن ينتسب بعضهم إلى بعض. 
لقد أصبحت نرجسية الصبي الصغير الذي يتلهى بأداء دور سيد محاط بعبيده 
نموذجا آخر للطريقة التي تُصْنّع بها اللذة وثقاس الآن. 


مدمن اتصال 

كان الاتهام الرئيس الذي وجه ضد الدليل الإحصائي والتشخيصي منذ مقدمة 
الطبعة الثالثة له والتي صدرت في العام 1980 هو أنه يحول كل أشكال الحزن 
ونزوات الشخصية اليومية إلى أمراض. ظهر ذلك بشكل بارز في تحديد الكثير 
من أشكال الإدمان. حتى أوائل السبعينيات كان فهم الإدمان يقتصر فقط على 
الإشارة إلى متلازمات تؤثر في التمثيل الغذائي؛ مثل معاقرة الكحوليات. وحتى آنذاك 
كانت أبعادها الاجتماعية والثقافية معترفا بها. لكن في زمن الطبعة الثالثة من 
الدليل التشخيصي جرى تحديد وتشخيص إدمانات جديدة تتعلق بكل الممارسات 
والتجارب المتْعَوية» بدء! من لعب القمار مرورا بالتسوق إلى الجنس. بالقطع قدمت 
الفئات التشخيصية الجديدة الدعم لتفسيرات بيولوجية مفادها أن السلوك يرتبط 
بجينات أو مواضع بعينها داخل الدماغ. 

أضافت الطبعة الخامسة من الدليل والتي صدرت أوائل العام 2013 بندا آخر 
إلى لائحة الاختلالات الوظيفية: إدمان الإنترنت. كثير من الأطباء والأطباء النفسيين 
على ثقة بأن هذه المتلازمة الأخيرة مهيأة لتمثل إدمانا حقيقيا لا يقل عن إدمان 


1800 





أمثلة اجتماعية 

المخدرات؛ إِذْ يكشف المصابون بها عن جميع السمات المميزة لسلوك المدمن؛ حيث 
يمكن لاستخدام الإنترنت أن يستحوذ على قدرتهم على المحافظة على علاقاتهم 
أو الوفاء بواجبات وظيفة ماء وينمون أعراضا انسحابية فيسيولوجية إذا ما جرى 
حرمانهم فجأة من استخدام الويب. كما أنهم يكذبون على المحيطين بهم سعيا إلى 
الحصول على جرعاتهم المعتادة. ويكشف علماء الأعصاب أن اللذات التي تقترن 
باستخدام الإنترنت يمكن أن تتطابق كيميائيا مع نظيرتها التي تقترن باستخدام 
الكوكايين أو مسببات الإدمان الأخرى. 

لكن إذا أمكننا النظر أبعد من الكيمياء العصبية لبعض الوقت؛ فسيظهر أن 
الأمر يستحق أن نطرح استفسارا بسيطا: ما الشيء الذي يدمنه مدمن الإنترنت 
بالضبط؟ أحد الأطباء النفسيين الذين استكشفوا هذه الظاهرة من كثب هو 
ريتشارد غراهام سقطة:0 لمقطءن1 في عيادة تافيستوك عنهنان عك1271810 في 
لندنء وهو الذي يؤدي بنا ما توصل إليه مباشرة إلى الأمراض اللتعلقة بالمفهوم 
الجديد لكلمة «اجتماعي». 

في العام 2005 كان غراهام يدرس الطرق التي تؤثر بها ألعاب الفيديو على 
سلوك واتجاهات الشباب. ومن جراء هذه التجربة صادف صبيا مراهقا لديه 
أعراض اكتئاب, علاوة على كونه لاعبا ذا هوس قهري بألعاب الحاسوب وخصوصا 
لعبة تسمى «هالو» 11310. كان الصبي يلعب أربع أو خمس ساعات يوميا وقد 
استحوذ عليه هوس الوصول إلى المستوى التالي من اللعبة. ما جعل هذا الهوس 
يعزله, أثناء ذلك. عن أصدقائه وأسرته. كان أبواه قلقين بشأن الوقت الذي يقضيه 
داخل غرفته. لكن على الرغم من ذلك م تكن ممارسة اللعب في حد ذاتها هي ما 
صدم غراهام باعتبارها الباعث على القلق بوجه خاص. 

لكن في العام 2006 أصبح موقف الصبي أكثر خطورة بشكل متسارع؛ إِذْ تحول 
إلى لعبة «وورلد أوف ووركرافت» #هعمة1 ؛ه 100:14 التي تزامنت مع زيادة 
ملحوظة في الوقت الذي يقضيه في اللعبء والذي بلغ خمس عشرة ساعة يوميا. 
ازداد قلق الأبوين لكنهما أحسا بأنهما مغلوبان على أمرهما. استمر الموقف على 
هذا المنوال طوال ثلاثة أعوام أخرىء إلى أن بلغ نقطة الانهيار في عيد الأمومة في 
العام 2009 حين أطفآ «مودمه» الخاص. هنا أصبح الصبي عنيفا في الحالء إلى درجة 


101 





صناعة الشعادة 
اضطرارهما إلى استدعاء الشرطة. كانت علاقته بلعبة الفيديو تتجاوز قدرته, أو قدرة 
أي فرد آخرء على السيطرة. 

الفارق الرئيس بين اللعبتين هو أن #ه182 4ه 180:14 تشمل اللعب 
ضد لاعبين آخرين آنياء فهي تنطوي على احترام أشخاص حقيقيين ومعرفة بهم. 
وعلى خلاف 155810, التي كان الصبي يمارسها بهوس شديد لكن من دون أن 
يدمنهاء كانت 118:28 04 180:14 تشكل تجربة اجتماعية. فحتى في الوقت 
الذي كان الصبي يظل فيه بمفرده داخل غرفته يحدق في رسوم متحركة على 
شاشة. كان إدراك أن لاعبين آخرين حاضرون يوفر «خبطة» سيكولوجية م 
تكن متاحة في ألعاب الفيديو العادية. كان واضحا أن الصبي لم يكن مدمنا على 
مجرد التقانةء بل على نمط معين من العلاقات المتمركزة حول الذات التي برعت 
شبكات الحواسيب في توفيرها بوجه خاص. 

أصبح غراهام منذ ذلك الحين صاحب نفوذ بارز فيما يتعلق بموضوع إدمان 
الوسائط الاجتماعية: لاسيما بين الشباب. كان ما انتبه إليه في حالة مدمن لعبة 
و1 04 180:14 هو ببساطة حالة متطرفة من آفة صارت متفشية في عصر 
الفيسبوك والهواتف الذكية. ربمما صُنْف إدمان الوسائط الاجتماعية على أنه فرع من 
إدمان الإنترنت كما فعل الدليل التشخيصي.ء لكن المنطق الاجتماعي لتلك الوسائط 
هو ما يكتسب قوة سيكولوجية هائلة. ولا يختلف البشر العاديون عن أولئك 
اللاعبين. فهؤلاء الذين يعجزون عن التخلي عن هواتفهم الذكية لا يستغرقون فيها 
طلبا للصور أو ال مبتكرات: بل يسعون باستماتة إلى شكل ما من التفاعل الإنساني» 
لكن من النوع الذي لا يحد من استقلالهم الخاص والشخصي. في أمريكا اليوم» تُقدر 
نسبة البالغين ممن قد يعانون أحد أشكال إدمان الوسائط الاجتماعية بنحو 38 في 
المائة”"؛ ما حدا بعض الأطباء النفسيين على طرح فكرة أن «الفيسبوك وتويتر ذوا 
طبيعة تساعد على الإدمان تفوق ما في السجائر والكحول»7. ش 

لقد صار وجود الوسائط الرقمية في كل مكان مانع صواعق بالنسبة إلى هستيريا 
وسائل الإعلام؛ ذلك أنه يمكننا أن نلقي على الإنترنت وفيسبوك تبعة حقيقة أن 
نرجسية الشباب في تزايد مستمرء وأنهم عاجزون عن الوفاء بالتزاماتهم بعضهم ‏ 
تجاه بعضء أو التركيز في أي شيء غير تفاعلي. يشمل هذا إجمالا بعض أحدث 


152 





أمثلة اجتماعية 


الاكتشافات عما يفعله الوقت الذي نقضيه أمام الشاشات بأدمغتنا. في الواقع نمة 
دليل يطرح مسألة أن الأشخاص الذين يستخدمون الوسائط الاجتماعية على نحو 
قهري أكثر تمركزا حول الذات, وأكثر عرضة للاستعراضية «دونهه1)غطنط:8 ووهم . 
العظمة”'”. لكن بدلا من التعاطي مع التقانة كأنها فيروس ما دمر البشر سيكولوجيا 
وعصبياء فإن الأمر يستحق التراجع قليلا وإمعان النظر في المنطق الثقافي الأوسع 
السائد هنا. 

إن ما نشهده في حالة مدمن لعبة قوىءة18 4ه 110:14, أو مدمن وسيط 
اجتماعي أو - من وجهة النظر هذه - مدمن جنس.ء هو العنصر الأكثر مرضية في 
مجتمع يعجز عن تصور العلاقات إلا من ناحية اللذات السيكولوجية التي تنشأ 
عنها. إن الشخص الذي ترتعش أصابعه توقا إلى تفحص صفحته على الفيسبوك 
في الوقت الذي يفترض به الإنصات لصديق أثناء تناول وجبة. هو وريث فلسفة 
جاكوب مورينو الأخلاقية التي تجعل الغاية من وجود الآخرين هي إسعاد أنا فرد 
ما وإشباعها وإقرارها من وقت إلى آخر. ويؤدي هذا لا محالة إلى دوائر مفرغة: 
فبمجرد تجريد آصرة اجتماعية ما لتصل إلى هذا المستوى السيكولوجي الفقير, 
تزداد صعوبة العثور على الإشباع الذي يصبو إليه الإنسان باستماتة. إن النظر إلى 
البشر باعتبارهم أدوات لتحقيق لذة المرء بمثل إنكارا لحقائق أخلاقية وانفعالية 
جوهرية بشأن الصداقة والحب والسخاء. 

أحد العيوب الخطيرة في هذه الفكرة الأنانية عن «الاجتماعي» هو أنه لا أحد 
منا يستطيع أن يظل دانما محور الاهتمام متلقيا المديح, أو على الأقل. لا يستطيع 
ذلك إلا عدد متناهي الصغر. الأمر نفسه ينطبق على الفيسبوك؛ إذ باعتباره تيارا لا 
ينتهي من واجهات تضخيم الذوات. كشف الفيسبوك عن قدرته؛ في المقابل» على 
جعل مشاعر الأفراد أسوأ حيال أنفسهم وحيال حيواتهم. حيث تبرهن رياضيات 
الشبكات على أن أغلب الناس لديهم أصدقاء أقل من المتوسطء في حين أن عددا 
قليلا منهم لديهم عدد يفوق المتوسط من الأصدقاء”". إن المنشط لهذا الإحساس 
بالدونية هو صنعنا لواجهات تضخيم ذواتناء ورغبتنا في لفت انتباه غيرناء ومن 
ثم تعضيد صنع حلقة مفرغة جماعية. ووفقا ما يحرص علم النفس الإيجابي على 
التشديد عليه. فإن هذا العجز عن الإصغاء أو التعاطف له دور كبير في الاكتئاب. . 


103 





صناعة السعادة 

يُعد التمركز إاذله:065 بابا رئيسا في تحليل الشبكات الاجتماعيةء حيث يُشير 
إلى المدى الذي تكون ضمنه نقطةٌ ما (شخص. وربما منظمة) جزءا لا يتجزأ من 
عايمها الاجتماعي الخاص. وبتعبير مورينوء فإنه يمكن للمرء حتى القول إن التمركز 
يوفر مقياسا ل «الورع» الاجتماعي. من جديدء حين تتسع شبكة ما لعدد يفؤق 
عدة عشرات من البشر. يكاد يكون من المستحيل إجراء الحسابات الخاصة بها 
من دون قدرة حاسوبية, لكن حين تُقحم قوة المعالجة الخاصة بالقرن الحادي 
والعشرين ورقمنة الشبكات الاجتماعية واسعة الانتشار, يأتي منطق التمركز ليفرق 
ويسود. ذلك أنه يسيطر على مستخدم تويتر الذي يظل مشغول البال بالتحقق من 
عدد متابعيه بالنسبة إلى من يتابعهم. كما يعزز الاكتئاب والإحساس بالوحدة عند 
شخص لديه شعور بالتهميش عن عام اجتماعي يمكنه مراقبته من دون المشاركة 
فيه. يتغلغل هوس الشهرة في حيواتنا الاجتماعية, وقد صرنا الآن حقا على دراية بهذا 
الهوس؛ إذ أصبح في مستطاعنا أن نحدق في الصور المختارة بعناية وكلام الآخرين. 

إذا كانت السعادة تكمن في اكتشاف العلاقات الأقل أنانية» والأقل مُتعوية, 
من تلك التي يتيحها مجتمع فرداني» آنئذ لن يشكل الفيسبوك والأشكال المشابهة 
من الوسائط الاجتماعية وصفة للسعادة إلا فيما ندر. في الواقع ثمة استعمالات 
مُحددة للوسائط الاجتماعية تجعلها صالحة لعلاقات اجتماعية أقوى وأكثر تجاوبا. 
وتميز دراسة عن استخدام فيسبوك بين نمط نموذج الاستخدام «بث واستهلاك» 
علتناقممء -لصة-ؤقوء82020 (الذي يكون فيه الأفراد إما معروضين وإما يشاهدون 
أفرادا آخرين) الذي يفضي إلى مشاعر أكبر بالعزلة. وبين استعمال قائم على البريد 
الإلكتروني بدرجة أكبر. والذي يمكن أن يؤدي إلى تماسك من خلال الحوار”. وقد 
اعتمدت مجموعة من مختصي علم النفس الإيجابي على ما لديهم من حجج 
بشأن ماهية أنماط العلاقات الاجتماعية التي تفضي إلى سعادة أكبر في عمل منصة 
وسيط اجتماعي جديد هي منصة «أسعد» :6ذمم112 القائمة على تعبيرات الامتنان 
والسخاء التي تعد مكونات حاسمة للرفاهية العقلية. 

لكن ما لم يفنده علم السعادة وأي ابتكارات خاصة بالوسائط الاجتماعية قد 
تنجم عنه, هو المنطق الاجتماعي الذي تُصطنع به العلاقات وتُستثمر فيهء بل 
ويُتَخلَى عنها به ربماء سعيا إلى تحقيق الأمثلة السيكولوجية. إن النتيجة الأسوأ 


14 





أمثلة اجتماعية 
ملاحقة السعادة استراتيجيا عبر العلاقات هي أن تغدو فائدة الأخيرة مساوية للقيمة 
أو الركلة النفسيتين اللتين تطلقهما. هكذا قد تحتاج لائحة الأصدقاء إلى التنويع في 
حال تبين أن أصدقاء شخص ما لا ينشرون ما يكفي من اللذة أو السعادة. لهذا 
المنطق من دون ريب متغير مُتَعَوي قد ينحرف ليصبح إدمانا اجتماعيا ونرجسية, 
ونسخة شمولية أكثر شبها بمذهب الزن الذي يرتع في فترات استقرار أطول وتقلبات 
أقل. لكن الاجتماعي يفي بغرض يكاد يكون متطابقا في كل حالة. 


اشتراكية نيوليبرالية 

يفرط مجتمعنا في فردانيته. ويختزل السوق كل شيء إلى مسألة حساب 
فردي وأنانية. وقد صرنا مهووسين بالمال والاقتناء على حساب علاقاتنا الاجتماعية 
وأدائنا الإنساني. تنشر الرأسمالية وبال المادية الذي يقوض ترابطناء ويترك كثيرين 
منا معزولين يعانون الوحدة. وما م نتمكن من إعادة اكتشاف فن المشاركة؛ فإن 
مجتمعنا سيتفتت تماما ليجعل الثقة أمرا مستحيلا. وما للم نتمكن من استعادة القيم 
المصاحبة للصداقة والغيرية: فإننا سننحدر إلى حالة من السأم العدمي. 

نفخت تلك المزاعم الحياة في انتقادات شتى للرأسمالية والأسواق على مدى 
قرون. وغالبا ما كانت توفر الأساس لنقاشات بشأن الإصلاح السياسي والاقتصادي. 
سواء من خلال مساع محدودة لكبح نطاق الأسواقء أو المزيد من الطلبيات بالجملة 
لترميم النظام الرأسمالي. اليوم؛ يمكن سماع النواح ذاته. لكن من بعض المصادر 
المختلفة كليا. إذ صار الآن معلمو التسويق والاعتماد على النفس وعلم الاقتصاد 
السلوقي والوسائط الاجتماعية والإدارة في صدارة طابور مهاجمي فرضيات السوق 
الفردانية وال مادية. لكن كل ما يطرحونه في المقابل هو نظرية مغايرة قليلا في علم 
النفس والسلوك الفردي. | 

يكشف المكتئبون والذين يعانون الإحساس بالوحدة ممن دخلوا الآن نطاق 
اهتمام صناع القرار السياسي بحيث صارت مشكلاتهم واضحة بالنسبة إلى الأطباء 
وعلماء الأعصاب, عن كثير من الأخطاء التي وقعت من جراء النموذج النيوليبرالي 
من الرأسمالية» حيث يرغب الأفراد في الإفلات من الاعتماد الذي لا يلين على 
النفس والاستبطان. وفيما يتعلق بهذا الأمرء يحوز مختصو علم النفس الإيجابي 


155 





صناعة الشعادة 


فهما شديد الوضوح لتوعك الفردانية المفرطة الذي يحبس الأفراد داخل تحقيق 
منطو مضطرب بشأن قيمتهم بالنسبة إلى الآخرين. وهم يوصون على سبيل 
العلاج بالتخلص من تلك القيود والانغماس في علاقات مع الآخرين. لكن خلال 
اختزال فكرة المجتمع في منطق علم النفسء يمتثل معلمو السعادة إلى ال منطق 
نفسه كما فعل جاكوب مورينو وعلم الاقتصاد السلوي والفيسبوك. يعني ذلك 
أن يصبح «الاجتماعي» أداة للربح الطبي أو الانفعالي أو النقدي. وتستمر حلقة 
الاستبطان وتقويم النفس المفرغة. 

كيف ممكن للمرء الإفلات من هذا الفخ؟ بطريقة بقة ما يعد مثال الوصفة الاجتماعية 
مثالا مُغريا. ففي حين يبدأ من افتراض نفعي مفاده أنه في مستطاع الأفراد تحسين 
رفاهيتهم من خلال الانضمام إلى جمعيات والعمل بشكل جماعيء فإنه يُشير كذلك 
إلى المؤسسات لإتاحة ذلك من دون الاكتفاء بالمزيد من النصائح والوكزات ال معرفية. 
إن كان البشر قد أصبحوا حبيسي أنفسهم. يحدق بعضهم في بعض بحسد. فإن ذلك 
يطرح أسئلة في حاجة إلى إجابات مؤسسية وسياسية وجمعية. ومن غير ا لمكن 
كسر حدة تلك التساؤلات من خلال الإغواءات السيكولوجية مما هو اجتماعي, والتي 
يمكنها تعميق المشكلات نفسها التي تهدف إلى علاجها متى اندمجت مع الوسائط 
الرقمية ونموذج الاتصالية المتمركز حول الذات الذي تتيحه تلك الوسائط. ثمة 
تساؤل حاسم عن الكيفية التي قد يمكن بها تصميم الشركات والأسواق والسياسات 
والقوانين والمشاركة السياسية بطريقة مختلفة للحفاظ على علاقات اجتماعية بناءة, 
لكنه تساؤل لم يتصدّ له فعليا أي من عمداء الرأسمالية الاجتماعية قط. 

إن ما نصادفه في الأعمال التجارية ووسائل الإعلام والنشوة السياسية الحالية 
من جراء منحاها الاجتماعي هو ما يمكننا أن نسميه اشتراكية نيوليبرالية. فالمشاركة 
أفضل بالنسبة إلى البيع مادامت لا تحشر أنفها في المصالح المالية للشركات المهيمنة. 
وتصبح استمالة حس الغيرية والحس الأخلاقي لدى البشر أفضل الطرق لدفعهم 
إلى طابور من معتنقي البرامج التي لم يكن لهم رأي فيها. كذلك يمكن إطلاق العنان 
لعلامات تجارية وسلوكيات باعتبارها عدوى اجتماعية من دون تداول حقيقي 
لرأس المال. يجري الاحتفاء بالتعاطف والعلاقاتء لكن باعتبارها عادات خاصة أتقن . 
الأشخاص السعداء ممارستها ليس إلا. إن كل ما كان يوما خارج حسابات المنطق 


106 





أمثلة اجتماعية 


الاقتصادي. مثل الصداقة, يجري حشره بهدوء؛ وما كان خصما للمنطق النفعيء أي 
المبدأ الأخلاقي» يتحول إلى أداة لأجل الغايات النفعية. 

يهدد المنطق النيوليبرالي القائل إن الرابحين يستحقون أيما جوائز يمكنهم 
انتزاعهاء بانتزاع بلحة الإصلاح الاجتماعي الخافتة الموجودة داخل هذا البرنامج. 
قد يبرهن علم الأعصاب الاجتماعي لات ليبرمان وبول زاك وآخرين على طبيعة 
أشد حسما هنا؛ إذ يُتيح أساسا فيسيولوجيا متينا يمكن بناءٌ عليه تحليل السلوك 
الاجتماعي بوصفه مكونا من مكونات الصحة والسعادة والثروة. ويهب هذا العلم 
بشكل واضح المنعزلين والمهمشينء بتركيزه القوي على دماغ وجسم الفرد. نفس 
ما يهبه - وربما أكثر - للمتنفذين والأثرياء. ذلك أنه بمجرد أن يُنظر إلى العلاقات 
الاجتماعية بوصفها خصائص طبية وبيولوجية للجسم البشري. تُصبح مُدرجة ضمن 
السعي اللامتناهي خلف الأمثلة الذاتية التي تعتبر سعادة في عصر النيوليبرالية. 

لم يمض وقت طويل منذ أتاح الإنترنت أملا في أشكال مغايرة تماما من التنظيم. 
ووفقا للمنظر الثقافي والسياسي جيرمي غيلبرت 1106© “إدرء6[, فإن علينا أن 
نتذكر أنه منذ سنوات قليلة فقط تعرضت إمبراطورية روبرت ميردوخ الإعلامية 
لهزيمة ساحقة في مساعيها إلى تحويل 6م3475 إلى كيان يدر دخلا”". حيث لم 
يمكن تخفيف التوتر بين منطق الشبكة المفتوحة ومنطق الاستثمار الخاص, فخسر 
ميردوخ نصف مليار دولار. واضطر فيسبوك إلى قطع أشواط طويلة لضمان عدم 
تكرار الأخطاء ذاتهاء وبخاصة إرساء هويات افتراضية على هويات «حقيقية», 
وبناء تصميمه على اهتمامات المسوقين وباحثي السوق. ربما يكون من المبكر جدا 
القول إن تلك المساعي قد نجحتء حيث أدت مقاومة تقنيات فيسبوك للتحكم 
السيكولوجي إلى نشأة «إيلو» 8110 وهي منصة للتواصل الاجتماعي تخلو من 
منطق تجاري واضح مباشرء وتشمل الحق في البقاء مجهولا. لكن حتى إذا تبين 
أن إيلو مجرد فجر كاذبء فعلى الأقل سلطت الضوء على مدى الاستياء العام من 
الشبكات الاجتماعية التي يجري تحليلها والتلاعب بها لمصلحة المسوقين. 

إن اختزال الحياة الاجتماعية في علم النفسء كما فعل جاكوب مورينو ومختصو 
علم الاقتصاد السلوي؛ أو في الفيسيولوجيا كما هو الأمر في علم الأعصاب الاجتماعي, 
ليس أمرا لا رجعة فيه بالضرورة. ذلك أن كارل ماركس كان قد آمن بأن الرأسمالية 


157 





صناعة الشعادة 

بحشدها للعمال داخل المصنع وإجبارهم على العمل معاء تخلق التشكيل الطبقي 
ذاته الذي سيسحقها في النهاية, في الوقت الذي كانت تشدد فيه الأيديولوجيا 
البرجوازية على صدارة تعاملات الأفراد داخل السوق. بشكل مشابه. قد يجري 
حشد الأفراد اليوم من أجل صحتهم العقلية والبدنية أو لأجل الحصول على دفعات 
مُتَعَوية خاصة. لكن التجمعات الاجتماعية تستطيع تطوير منطقها الخاص الذي 
لا ثمكن اختزاله في رفاهية أو لذة الأفراد. هذا هو الرجاء الكامن حاليا في هذه 
الاشتراكية النيوليبرالية الجديدة. 


18 





الحياة داخل المخثبر 


إن الممارسات والأفكار التجارية لا تنتشر 
من تلقاء نفسها حتى إن بدا أن لها منافع 
واضحة. بل تحتاج إلى دفعة ما. وقد يتطلب 
الأمر أحيانا إزالة عراقيل سياسية وثقافية قبل 
تبني تلك الممارسات والأفكار في مرحلة لاحقة, 
حينئذ: في نهاية المطاف, ستبدو بديهية بالكامل. 
77 وفكرة «صناعة الإعلانات على أسس علمية». 
«إن عددا قليلا من أدوات المراقبة 
الجديدة قد اخترع بهدف التلاعب بنا 
أو انتهاك خصوصيتنا لأغراض سياسية, 
بل على العكس! كان اختراعها مدفوعا 
بفطرة علمية نزيهة هي أن رخاء 
البشرية سيتحسن إذا أمكن استيعاب 
طبيعة الرفاهية على نحو أفضل من 
خلال تعقبها باستمرار» 


وهي ألتي كانت وكالة جيمس والتر طوميسون 
مط ج1121 وعصته[ (181() في طليعة 
من عملوا بها منذ عشرينيات القرن الماضي 
بدعم من جون ب. واطسونء مثال على ذلك. 
كانت وكالة جيمس والتر طومبسون أولى 
الشركات الكبرى في حي ماديسون التي رأت 





109 





صناعة الشعادة 
أن صناعة الإعلانات يمكنها استهداف المستهلكين على أسس علمية استنادا إلى التقانات 
المستخدمة في تسجيل وتحليل الخصائص النفسية للبشرء مثل الدراسات المسحية. 
وافترضوا أن بإمكانهم التأثير في الأفراد من خلال تلك التقانات لدفعهم إلى الشراءء 
ولو على خلاف ما يقوله المنطق السليم. اليوم؛ تبدو فكرة تعويل صناعة الإعلان على 
الاستبصارات السيكولوجية المفصلة لانفعالاتنا وسلوكياتنا الوثيقة. شديدة الوضوح. 
لكن الرحلة التي قطعتها بدءا من حي ماديسون في منتصف عشرينيات القرن الماضي 
حتى تصل إلى سدة الأفكار المتعارف عليها بين البشر, م تكن هينة. 

لم تكن الوكالة لتفلح في تصدير صناعة الإعلانات على أسس علمية لكل أرجاء 
العالم لولا العقد الذي فازت به مع حنرال موتورز (61/4©) 25ه:840 9[1عم66 في 
العام 7 .» آنذاك كانت جنرال موتورز تحظى فعلا بحضور دولي قويء ومصانع 
إنتاج منتشرة بكل أنحاء أوروبا. كان الاتفاق الذي ربحته الوكالة مع جنرال موتورز 
ينص على أن تفتتح الوكالة مكتبا لها في كل دولة يكون لجنرال موتورز فرع بها؛ 
وذلك لكي تزود عملاق صناعة السيارات بخبرات التسويق ال محلي. في المقابل تمنح 
جنرال موتورز الوكالة الإعلائية الأولوية في جميع أسواقها العالمية. في العام 1927 
وحده. افتتحت الوكالة مكاتب لها في ست دول أوروبيةء وخلال السنوات الأربع 
التالية. افتتحت مكاتب أخرى في الهند؛ وجنوب أفريقيا؛ وأستراليا؛ وكندا؛ واليابان. 
وهكذا أصبحت وكالة جيمس والتر طومبسون. بفضل الضمانة التي وفرتها لها 
راعيتها الشركة العملاقة: لاعبا دولياء واكتسب نموذجها الخاص في التسويق رواجا 
عالميا. وحظيت قدرة التجارة الأمريكية على التصدير للأسواق العالمية؛ والتي زادت 
عقب الحرب العالمية الثانية. بعون هائل في ضوء حقيقة أن مثل تلك الشبكات من 
الاستخبارات التجارية كانت قد تغلغلت داخل جزء كبير من السوق الرأسمالي. لقد 
أصبح الإمام برغبات المستهلكين الأجانب في متناول اليد. 

شرعت الوكالة عقب استحواذها على عقد جنرال موتورز في جمع كل ما 
بمكنها الوصول إليه عن المستهلكين المحتملين بمعدل غير مسبوق. وفي أقل من 
ثمانية عشر شهرا أجرت ما يزيد على أربعة وأربعين ألف لقاء في جميع أنحاء 
العالم, كثير منها يتعلق بالسيارات: لكن أيضا بموضوعات مثل استهلاك الطعام 
وأدوات الزينة©. كان هذا هو المشروع الأكثر طموحا الذي جرت تجربته في إطار 


200 





الحياة داخل المختبر 

تسجيل وتحليل الخصائص النفسية للجماهير. خارطة مفصلة لأذواق المستهلكين 
في أنحاء كثيرة من العالم شيدت من لا شيء. مع ذلك لم يمض هذا الإنجاز من 
دون مواجهة بعض العقبات. 

اكتشف باحثو الوكالة سريعا أن تقاناتهم. لم تكن تحظى بالاستيعاب أو التقدير 
الواسعين خارج السوق المحلية: وغالبا ما كان مستوى الحميمية المنشود مع 
المستهلكين يُقابل بالرفض. في بريطانيا تعرض العديد من الباحثين للسجن بسبب 
إجرائهم دراسات مسحية مباشرة”,. وألفى باحث بريطاني آخر أن تسجيل وتحليل 
خصائص المستهلكين مهمة شديدة الصعوبة؛ ذلك أنه اضطر إلى مطاردة الناس في 
الشارع صائحا بالأسئلة. باحث آخر يجري دراسته المسحية داخل الشقق السكنية 
في كوبنهاغن في العام 1927.: واجه عداء ممائلا حين ألقى به أحد السكان من فوق 
درجات سلم. وآخرء أيضا في كوبنهاغنء تعرض للسجن لمحاولته اقتحام البيوت من 
خلال انتحال صفة ضابط تفتيش. وهدد اتحاد مصنعي السيارات الأمان بمقاضاة 
وكالة جيمس والتر طومبسون بتهمة «التجسس التجاري». 

تطلبت عولة استخبارات المستهلكين مزيجا من الحظ والدهاء والقوة الغاشمة. 
كان التحدي الذي حددته الوكالة لنفسها موغلا في صعوبته. لمم يكن مجرد ملاحظة 
الناس في العلن أو طلب آراء عامة كما كانت المجلات تفعل حيناء بل الظفر بمستوى 
جديد من الحميمية مع المستهلك. وهو الذي كان يعني غالبا مراقبة ربة المنزل 
داخل بيتها. لم يكتف الباحثون بمعرفة ما كان يدور في خلد هؤلاء الناس أو ما 
يقولونه عن منتجات بعينهاء بل أرادوا كذلك رؤية تلك المنتجات داخل البيت. 
ومراقبة طريقة تصرف المستهلك حيالها. هذه المعرفة لا تتحقق إلا من خلال درجة 
من التلصص وتوجيه أسئلة شخصية بعض الشيء. 

تشير قصة حضور وكالة جيمس والتر طومبسون المؤة داخل أوروباء إلى واحد 
من أخطر التحديات التي تواجه مشروعا للقياس السيكولوجي للجماهير: كيف 
يدفع الباحث أفرادا عاديين للتعاون معه؟ هناك بعد سياسي لأي علم اجتماعي. 
حيث يضطر الباحث إما إلى التفاوض مع المستهدفين ببحثه على أمل الظفر 
بقبولهم» وإما إلى استعمال درجة من الإجبار والحصانة لإكراه الناس على الخضوع 
للدراسة والقياس. إما هذاء وإما العمل النمطي في الخفاء. 


201 





صناعة الشعادة 


حين أسس فيلهلم فونت مختبره السيكولوجي في لايبزيغ. استخدم طلابه 
ومعاونيه محورا لتجاربه. كان تجاوبهم ضروريا لطبيعة العلم الذي كان يبتغي المضي 
فيه. واليوم, عادة ما يعرض علماء النفس حوافز نقدية على المستهدفين بالبحث 
ممن يكونون إجمالا طلابا معسرين من تخصصات أخرى. كمثال مضاد, تأمل تاريخ 
علم الإحصاء 5]3158165, الذي كان دانما يشتبك (كما يشير اسمه)!*' بصورة وثيقة 
مع النفوذ القوي للدول للتأكد من قياس تعداد السكان بدقة وموضوعية. تستطيع 
الدول القيام بما تقاتل وكالة جيمس والتر طومبسون من حيث المبدأ لعمله. أي 
مراقبة الناس بشكل جماعي. على نحو مماثل اعتمد فريدريك تايلور على صلاته 
الأرستقراطية ليتمكن من الاطلاع على أماكن عمل جمة بفيلادلفيا خلال سبعينيات 
وممانينيات القرن التاسع عشر. 

يُشتق مصطلح بيانات 4818 من الأصل اللاتيني 48175, وهو الذي يعني حرفيا 
«ما يُعطى». وهذه في الأغلب أكذوبة فاضحة. ذلك أن البيانات التي تُجمع من خلال 
الدراسات المسحية والتجارب السيكولوجية نادرا ما تمنح عن طيب خاطرء بل تُنتزع 
بقوة الخضوع للمراقبة بسبب تفاوت القوى, أو تُعطى لقاء شيء آخرء كمقابل 
مادي أو فرصة للفوز بلوح ذي مجانا. في أغلب الأحيان, تجمع تلك البيانات بطريقة 
سريةء كشأن المرايا أحادية الاتجاه التي تراقب من خلالها مجموعات الدراسة. في 
العلوم الاجتماعية, كعلم الإناسة, تعد الشروط التي تجمع البيانات وفقا لها (في 
تلك الحالة. من خلال المشاركة واطراقبة المطولتين) مسألة تفكير مستمر. لكن في 
العلوم السلوكية. يضمر المصطلح البريء 022 عتادا ضخما من القوة يمكن من 
خلاله دراسة ومراقبة وقياس واقتفاء أثر الناس. سواء قبلوا أو لا. 

من الواضح أن هذا البعد السيامي كان لايزال جليا في عشرينيات القرن الماضي 
حين كانت وكالة جيمس والتر طومبسون تتوسع خارج الحدود. مع أنه قد تراجع 








(*) يعود مصطلح علم الإحصاء 56315415 إلى الأصل اللاتيني اداء508615]1 والذي يعني أمور أو شؤون الدولة؛ وقد 
شهد القرن السابع عشر بداية اللجوء إلى هذا العلم لسد الحاجة إلى جمع البيانات للمساعدة في إدارة الدول. وذلك 
حين أنهى العام الإنجيلزي ويليام بيتي 26:67 صندذالة/0! دراسته المسحية لرسم خارطة لأيرلندا بين العامين 1655 
و1656 وكان المختص الأطاني في علوم السياسة غوتفريد آشنفال (1719 - 1772) الهستمعطءى 0064164 في طليعة 
من روجوا لاستخدام مصطلح علم الإحصاء 5]2]1531: بل ربما يكون هو من صاغه. قبل أن يشهد القرن التاسع عشر 
تؤسعا في استخدام تقنيات العلم الجديد في الكثير من المجالات. [المترجم]. 


202 








الحياة داخل المختبر 


عن الأنظار في السنوات التالية. حين صار السؤال عن آراء الناس أو إحساسهم أو 
نياتهم للتصويت أو طريقة تلقيهم بعض العلامات التجارية, مسائل بسيطة. الوضع 
مشابه بالنسبة إلى السؤال عن السعادة. فمؤسسة غالوب تستطلع آراء ألف شاب 
أمريي بشأن إحساسهم بالسعادة أو الرفاهية يومياء كما تتيح لهم تتبع المزاج العام 
بإسهاب. يوما تلو الآخر. ونحن على دراية كبيرة الآن بفكرة أن المؤسسات النافذزة 
لديها الرغبة في معرفة مشاعرنا وطريقة تفكيرناء وأن هذه الرغبة لم تعد تبدو 
مسألة سياسية. على رغم ذلك لا بمكن إنكار أن هياكل السلطة التي تتيح الحصول 
على البيانات السلوكية والسيكولوجية هي التي شكلت,ء وبقوة, الإمكانيات المضمرة 
تلك البيانات. إن الانفجار الذي تشهده حاليا البيانات المتعلقة بالسعادة والرفاهية 
ناجم بلا ريب عن تقانات وممارسات المراقبة الحديثة. وهذه بدورها تستند إلى 
التباينات المسبقة في توزيع السلطة. 


بناء المختبر الجديد | 

في العام 2؛ أعلنت مجلة هارفارد بزنس ريفيو 811512655 720هب2د1آ1 
616 أن وظيفة اختصاصي بيانات 54156ع 5 103868 ستكون أكثر الوظائف 
إثارة في القرن الحادي والعشرين”©. نعيش عصرا يشهد تفاؤلا هائلا بما يتصل 
بإمكانيات جمع وتحليل البيانات التي تعيد تغذية طموح السلوكيين والنفعيين 
إلى إدارة المجتمع بشكل خالص من خلال الملاحظة العلمية المتأنية للعقل والجسد 
والدماغ. عندما يقف عام اقتصاد سلوكي أو معلم روحي للسعادة: ويعلن أنه صار 
باستطاعتنا أخيرا الوصول إلى أسرار الدافعية والإشباع البشريين» فهما يشيران ضمنا 
إلى عدد من التغييرات الثقافية والتقنية التي عدلت فرص الراقبة السيكولوجية. 
ثلاثة منها تستحق أن نبرزها بشكل خاص. 

في المقام الأولء هناك الصعود الأشهر للبيانات العملاقة 2248 ع81". مع رقمنة 
مختلف تعاملاتنا اليومية مع تجار التجزثة؛ ومقدمي الرعاية الصحية؛ والبيئة 
الحضرية؛ والحكومات وغيرهاء تنتج تلك الجهات تسجيلات أرشيفية ضخمة بمكن 
تحصيلها باستخدام قوة تقنية كافية. تنظر الشركات إلى الكثير من تلك البيانات التي 
تجمعهاء والتي تعتقد أنها تسيطر على ثروات لا حصر لها بالنسبة إلى هؤلاء الذين 


203 





صناعة الشعادة 


يرغبون في التكهن بالطريقة التي سيتصرف بها البشر في المستقبل» بوصفها ملكية 
ثمينة. والعديد منهاء مثل الفيسبوك؛ تميل إلى حجب تلك البيانات؛ وهكذا تتمكن 
من تحليلها لمصلحتهاء أو بيعها إلى شركات تعنى بأبحاث السوق. 

ف ظروف أخرىء يُفترض أن تتاح هذه البيانات للجميع على أساس أنها 
للمصلحة العامة؛ إذ قبل كل شيء نحن العامة من نتجت عنهم تلك البيانات 
من خلال سرقة بطاقاتنا الذكية وزياراتنا للمواقع الإلكترونية والتغريد بأفكارنا 
وهلم جرا. يتعين من ثم إتاحة البيانات العملاقة لنا جميعا لتحليلها. الحقيقة 
التي تميل تلك المقاربة الأكثر ليبرالية على التغاضي عنها هي أنه حتى في حالة 
إتاحة هذه البيانات للجميع: فإن أدوات تحليلها لاتزال غير متاحة. وكما أشار 
محلل المدن الذكية أنتوني تاونسند معدم »د10 بممطغصة فيما يتعلق بأنظمة 
بيانات مدينة نيويورك المفتوحة: فإنهم يُسقطون شيئا فشيئا الخوارزميات التي 
يستعين بها وسطاء الحكومات الإلكترونية في تحليل البيانات7©. ذلك أنه في 
حين يزداد قلق اليسار الليبرالي بشأن خصخصة ال معرفة كما نصت عليها حقوق 
الملكية الفكرية. نشأت مشكلة جديدة تتعلق بالخصخصة نظريا حيث تحتجب 
الخوارزميات التي تستجلي الأنماط والاتجاهات وراء ستار التكتم التجاري. هناك 
أعمال تجارية تقوم الآن بأكملها على أساس القدرة على تفسير وعقد علاقات 
داخل البيانات العملاقة. : 

لا يستطيع المرء استيعاب التطور الثاني بدقة إلا في سياق ثقافي. وُظف انتشار 
النزجسية بوصفه فرصة للبحثء. فحين سعت وكالة جيمس والتر طومبسون إلى 
توصيف المستهلكين الأوروبيين في عشرينيات القرن الماضيء أحس هؤلاء المستهلكون 
بأنه اقتحام لخصوصيتهم, كما كان الحال في الواقع. في الآونة الأخيرة تهاوى التسامح 
مع الدراسات المسحية من جديدء وإن كان بسبب نفاد صبر المشاركين المحتملين 
أكثر من أي شيء آخر”. فالناس يتأففون من تجشم عناء أن يشاركوا تفاصيل ما 
يعجبهم, أو يفكرون فيه؛ أو يرغبون فيه مع باحثين يحملون حواسيب لوحية. لكن 
حين يطرح الفيسبوك سؤاله غير البريء على المليار مستخدم عما يدور بعقولهم, 
نريق أفكارنا وأذواقنا وإعجاباتنا ورغباتنا وآراءنا داخل بنك بيانات الشركة العملاق 
من دون أدلى تفكير. 


204 





الحياة داخل المختبر 

إذا أجير الناس على الإبلاغ عن حالاتهم الذهنية الداخلية لأغراض بحثية» فإنهم 
لا يفعلون ذلك إلا على مضض. لكنهم حين يقومون بذلك بملء إرادتهم يصبح الإدلاء 
بالسلوك والحالة المزاجية بغتة نشاطا مقبولا ومشبعا في حد ذاته. بدأت حركة 
الذات المكممة 5»16 216640ةد0): وهي التي يقدم الأفراد فيها بيانات عن مختلف 
جوانب حيواتهم الخاصة ويقيسونهاء بدءا من حمياتهم الغذائية إلى حالاتهم 
ا مزاجية وحياتهم الجنسية. بوصفها مجموعة تجريبية من مطوري وفناني برمجيات 
الحاسوب. لكنها كشفت عن ولع غير عادي لراقبة الذات لاحظه باحثو السوق 
وعلماء السلوك باهتمام. وتتحرى الآن شركات مثل نايك 21116 طرقا بمكن من 
خلالها بيع منتجات الصحة واللياقة إلى جانب تطبيقات قياس الذات كمياء وهي 
التي ستتيح للأفراد تقديم تقارير مستمرة عن سلوكهم (مثل الهرولة). تستحدث 
بيانات جديدة تلائم الشركة التي يجري العمل فيها. 

هناك تطور ثالث وهو الدلالات السياسية والفلسفية التي ربما تعد الأكثر 
غلوا. وتتعلق بالقدرة على «تعليم» الحواسيب الإلكترونية طريقة تفسير السلوك 
البشري بناء على الانفعالات التي تحال إليها. على سبيل المثال» يحتوي التحليل 
الوجداني على تصميم من الخوارزميات لتفسير العاطفة التي يُعيّر عنها داخل 
عبارة ماء مثل تغريدة واحدة مثلا. لقد كرس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا 
مركزه للحوسبة الوجدانية لاكتشاف طرق جديدة تستطيع الحواسيب من 
خلالها قراءة حالات البشر المزاجية عبر تخمين التعبيرات التي ترتسم على 
وجوههم. أو ربما إجراء محادثات ذكية عاطفيا مع البشرء كي تقدم لهم دعما 
علاجيا أو تآلفا مرغوبا. 

الآن تتوسع طرق قراءة الحالة المزاجية لفرد ماء من خلال تعقب حالته 
الجسمانية أو تعبيرات وجهه أو سلوكه, بسرعة هائلة. لقد صُمُمت برامج الحاسوب 
للتأثير في مشاعرناء وحاما تقنْن تلك المشاعر تظهر على الفور طريقة أخرى تتزامن 
فيها الانفعالات مع التقانة. لقد أصبح العلاج المعرفي السلوي المحوسب متاحا حاليا 
بفضل برامج مثل «التغلب على الحزن» وعدتا8 عط) عصنغدء8 و«محارب الخوف» 
11 . ومع تقدم الحوسبة الوجدانية ستزداد قدرات الحواسيب على 
الحكم والتأثير في مشاعرنا. 


205 





صناعة الشعادة 


تحمل تقانات المسح الوجهي وعدا هائلا للمسوقين والعاملين في حقل الإعلان 
الراغبين في الظفر بقبضة موضوعية على الانفعال البشري. وهذه ليست إلا بداية 
لتخطي نطاقات مختبرات الحوسبة أو السيكولوجيا المحدودة. والتغلغل داخل 
الحياة اليومية المعتادة. فقد جربت سلسلة متاجر تيسكو 18560 الكبرى تقانات 
الإعلان عن منتجات مختلفة لأفراد مختلفين وفق ما يعكسه وجه كل منهم”. 
ويمكن استخدام الكاميرات في التعرف على وجوه زبائن معينين في الشارع وتسويق 
منتجات بعينها لهم بناء على سلوكهم السابق في التسوق”. لكن هذه ليست إلا 
البداية. فقد بادر أحد المطورين البارزين لبرمجيات قراءة الوجه بتطبيق تلك 
التقانة داخل الفصول الدراسية ي يتبين ما إذا كان الطلاب منتبهين للدرس أم 
يتملكهم السأه9". 

يؤسس الدمج بين البيانات العملاقة والمشاركة النرجسية للأفكار والمشاعر 
الخاصة؛ وبين ال مزيد من الحواسيب الذكية عاطفياء لكثير من الاحتمالات التي تتعلق 
بالتعقب السيكولوجي التي لم تكن لتخطر على بال بنتام أو واطسون. إذ توفر لك 
ملحقات الهواتف الذكية تجهيزات فريدة لجمع البيانات تشبه ما لم يكن يعقل 
وجوده في السابق إلا داخل مختبرات الجامعات أو بشكل خاص داخل المؤسسات 
الخاضعة مراقبة شديدة مثل السجون. إن الحدود الفاصلة بين ما هو ثقافي أو 
تقني أو سياسي وبين المراقبة السيكولوجية تذوبء ومزية السوق الكبرى في نظر 
النيوليبراليين كمدرسة شيكاغوء هي أنها تصرفت على أنها دراسة مسحية مستمرة 
لتفضيلات المستهلكين ال ممتدة عبر ا مجتمع. لكن الرقمنة الشاملة وتحليلات البيانات 
تطرح الآن صيغة منافسة للتدقيق السيكولوجي ربا تمتد إلى أبعد من ذلك وهي 
تبتلع العلاقات والمشاعر الشخصية التي لا يصل إليها السوق عادة. 

يعتقد الباحثون أثناء تجاوزهم تقانات الدراسة ال مسحية أن باستطاعتهم الآن 
التحايل على الجانب السياسي شبه الدمموقراطي لاستجلاء ما يقدره الناسء لكن 
من دون الاعتماد على السوق كذلك. فمن خلال تحليل التغريدات؛ والسلوك على 
صفحات الإنترنت أو تعبيرات الوجه بشكل سري في أكثر الأحيان. تصبح درجة من 
الموضوعية غير المتحيزة أمرا ممكنا على خلاف ما يتاح للباحثين ممّن يضطرون إلى 
مواجهة الناس من أجل جمع البيانات. يبدو أن حلم واطسون بتحرير السيكولوجيا 


206 





الحياة داخل المختبر 

من ركونها إلى السلؤك اللفظي للمفحوصين يوشك على التحقق. ستصبح حقيقة 
انفعالاتناء رمماء ساطعة بمجرد أن يحل الباحثون شفرة أدمغتنا ووجوهنا وعواطفنا 
غير ا مقصودة. 

ونحن نتجاوز عصر الدراسات المسحية, لاتزال الأسئلة نفسها تطرحء. لكن 
لدينا الآن إجابات أكثر تفصيلا عنها. فبدلا من استطلاعات الرأي تجمع شركات 
التتبع الوجداني كشركة جنرال سنتمنت ممع 5 لوءدء2© البيانات من ستين 
مليون مصدر يومياء من أجل إنتاج تفسيرات لتصورات الجماهير. كما يقوم مقدمو 
الرعاية الصحية والخدمة العامة بتحليل الانفعالات بالوسائط الاجتماعية بدلا من 
الدراسات المسحية لقياس رضا المستخدمين من أجل الحصول على تقييمات أكثر 
حسما'". وبدلا من أبحاث السوق التقليدية: فإن تحليلات البيانات هي ما يكشف 
لنا عن أعمق رغباتنا وميولنا على ما يبدو", ظ 

أحد العناصر المهمة فيما يتعلق بذلك هو أن أحاديثنا شبه الخاصة (عبر 
الفيسبوك مثلا) يُنظر إليها على أنها بيانات مادية جيدة. في حين تعد التقارير 
التي نحررها للمقابلات أو الدراسات المسحية أقل جدارة بالثقة. إن إفصاحنا 
الواعي عن رأينا أو انتقادنا لشيء ما غير جدير بالثقة, أما سلوكنا اللفظي غير 
المتعمد فينظر إليه على أنه مصدر للحقيقة السيكولوجية الداخلية. ربما يبدو 
هذا معقولا من وجهة نظر علم وجداني أو سيكولوجيء لكنه كارثي من وجهة 
نظر الديموقراطية التي تعتمد على مفهوم أن الناس قادرون على الإفصاح عن 
اهتماماتهم عمدا وعن وعي. 

لقد أنتجت هذه التطورات موجة جديدة من التفاؤل بشأن ما يمكننا معرفته 
عن العقل الفردي واتخاذ القرار والسعادة. وبالنتيجة, قد تتضح حقائق كيفية 
التأثير في اتخاذ القرارء وكذلك حقيقة السبب وراء شراء الناس ما يشترونه. الآن. 
عقب مضي قرنين بعد بنتام؛ ربما نوشك على الوقوف على ما يسبب حقا الزيادة 
القابلة للقياس في منسوب السعادة البشرية. وقد تكشف مراقبة سلوك وحالة 
الجماهير امزاجية أسرارٌ وباء اكتئابي ما لعرضه وطرح نصائح بشأنه وأدوات تجنبه. 

إن الشرط المسبق الخفي لتلك الرؤية الطوباوية هو أن يصبح المجتمع 
مصمما ومحكوما كمختبر فسيح نقطن فيه باستمرار تقريبا طوال حيواتنا اليومية. 


207 





صناعة الشعادة 
هذا شكل جديد كليا من ديناميات السلطة يصعب توصيفه من ناحية المراقبة 
والخصوصية. ذلك أن تراكم البيانات السيكولوجية بعيدا عن الأنظار يحدث 
في مجتمع كهذاء ويرجع الفضل في الغالب إلى تعاون المستهلكين ومستخدمي 
وسائل التواصل الاجتماعي الحماسي. إن الأساس المنطقي لهذا المجتمع يمكن 
إجماله في تيسير الحياة وجعلها أكثرز صحة وسعادة للجميع. وهو يوفر بيئات 
كالمدن الذكية لا تتوقف عن التكيف مع مسلك الاتجاهات الاجتماعية الآنية, 
بطرق نادرا ما ينتبه إليها أغلب الناس. وي تتماشى مع خوف بنتام من طغيان 
الأصوات. تستبدل تلك المجتمعات الإدارة الخبيرة بالحوار. عموماء لا يستطيع 
الجميع أن يقطنوا داخل مختبر بصرف النظر عن اتساعه. ولا بد أن تمارس أقلية 
متنفذة دور العلماء. | 

لقد تلقينا طرفا من هذا المستقبل في يونيو 2014: حين نشر فيسبوك ورقة 
تحلل العدوى الانفعالية «هذع 0022 82010231 على الشبكات الاجتماعية02, 
كانت الاستجابة العامة لها شبيهة برد فعل المفحوصين في دراسات وكالة جيمس 
والتر طومبسون المسحية في كوبنهاغن ولندن في العام 1927: الغضب. لقد 
تصدرت تلك الورقة الأكادممية عناوين الصحف العالية لأسباب بعيدة تماما 
عن جودة ما توصلت إليه. بدلا من ذلك بدا تلاعب فيسبوك عمدا بخلاصات 
أخبار 2160564 سبعمائة ألف مستخدم طوال أسبوع كامل في يناير 2012 
انتهاكا لأخلاقيات البحث العلمي*". لقد اتضح أن هذه المنصة التي عوّلت عليها 
الصداقات والحملات الجماهيرية كانت تستخدم هي الأخرى بوصفها مختبرا 
لفحص واختبار السلوك. 

هل سيستمر نشاط من هذا القبيل في إثارة الغضب خلال العشرة أو 
العشرين عاها المقبلة أو سنعتاد عليه؟ والأهم من ذلك. هل سيستمر فيسبوك 
في تجشم عناء نشر ما يتوصل إليه. أم سيكتفي ببساطة بإجراء التجارب لصلحته 
فقط؟ إن ما يقلق بشأن الحال القائم اليوم هو أن التوزيع غير المتكافئ للسلطة 
الذي تعتمد عليه تلك الأشكال من المعرفة صار غير منظور أو مفروغا منه على 
نحو واسع. وباتت حقيقة أنهم يخلطون بين النوايا الحميدة (تحسين صحتنا 
ومستوى رفاهيتنا) وبين منفعة واستراتيجية النخبة السياسية. جوهرية بالنسبة 


208 





الحياة داخل المختبر 


إلى الطريقة التي يعملون بها. والسبيل الوحيد الذي يمكن من خلاله التصدي 
للإدارة الشاملة لكل مناحي حياتنا يتمثل في تصدينا كذلك لحق الخبراء التلقائي في 
تصدير أي شكل من أشكال الانفعال إليناء سواء كان إيجابيا أو سلبيا. 


حقيقة السعادة 

كم كان قدر سعادتك بالأمس؟ كيف كان إحساسك؟ هل تعرف؟ هل تذكر؟ من 
الممكن حتى إن كنت تجهل, أن يطلعك شخص آخر على إجابات لتلك الأسئلة. فمع 
التقدم الذي تشهده علوم السعادة العصبية والرقمية؛ تقترب تلك العلوم من الحد 
الذي يصبح عنده الخبراء مؤهلين للحديث عن حالتك الذاتية أكثر منك شخصيا. أو 
في صياغة أخرىء لمم تعد المسائل الذاتية مسائل ذاتية. 

تويتر مثال على ذلك. ينشر المائتان والخمسون مليون مستخدم لتويتر خمسمائة 
مليون تغريدة كل يومء منتجين بذلك سيلا مستمرا من البيانات التي يمكن تحليلها 
لأغراض شتى. يعد هذا واحدا من أكثر الأمثلة إثارة على تراكم البيانات في السنوات 
الأخيرة. عشرة في المائة من هذا السيل متاحة مجانا من دون أدفى تكلفة: وتتيح 
فرصا مغرية للباحثين الاجتماعيين سواء في الجامعات أو العمل التجاري. باقي 
السيل. حتى آخر تغريدة, متاح مقابل رسوم متفاوتة. 

إن التحدي الذي يواجهه البحث هو فهم مثل هذا القدر الهائل من البيانات. 
والذي ينطوي على بناء خوارزميات قادرة على تفسير ملايين التغريدات. في 
جامعة بيتسبرغ طخ ةناطو81 01 21906751196[] شيدت مجموعة من السيكولوجيين 
خوارزمية كهذه استهدفت حصر قدر السعادة المعبّر عنها في تغريدة لا ت تحتوي إلا 
على مائة وأربعين حرفا. في سبيل ذلك. أسس الباحثون قاعدة بيانات ضمت خمسة 
آلاف كلمة مستقاة من نصوص رقمية. وأعطوا كل كلمة قيمة سعادة 5وءطأمم112 
نال على مقياس من واحد إلى تسعة. هكذا يمكن احتساب قيمة تغريدة أليا على 
أساس تعبيرها عن السعادة. 

صَممٍ مشروع بيتسبرغ من أجل استطلاع اتجاهات السعادة على مستوى مركب 
عبر تحليل خمسين مليون تغريدة يومياء وهو غير معني بمناسيب سعادة الأفراد في 
حد ذاتها. بل يمكنه تحديد بعض الأنماط الواضحة الخاصة بالكيفية التي تتذبذب 


209 





صناعة النشعادة 
بها السعادة بين السكان. سواء مع اختلاف الزمان أو المكان. لقد نشأت خرائط 
السعادة على خلفية هذه البيانات؛ فالباحثون يعرفون الآن أن يوم الثلاثاء هو أقل 
أيام الأسبوع سعادة. بينما يوم السبت هو الأسعد. قد لا يروي لك هذا المشروع 
شيئا عن قدر سعادتك الأسبوع الماضيء لكن مشاريع أخرى تستطيع ذلكء عادة 
تحت زعم رعاية رفاهيتك أو صحتك أو أمنك. 

أحد هذه المشاريع هو مشروع دوركايم الذي طوره باحثون في كلية دارتموث 
01168 طغأناهدت:103, على اسم إميل دوركايم. يعرف دوركايم كأحد مؤسسي 
علم الاجتماع ومؤلف كتاب «الانتحار» 126ا5, وهو تحليل للتباينات في معدلات 
الانتحار القومي خلال القرن التاسع عشر. كان دوركايم يستعين بالبيانات الإحصائية 
الجديدة عن معدلات الوفاة التي تراكمت حديثا على مدى عدة عقود في أوروبا 
آنذاك. أما مشروع دوركايم فقد استهدف نقطة أبعد: إمكانية التكهن بالانتحار 
اعتمادا على تحليل وسائل التواصل الاجتماعي والأحاديث الهاتفية. 

كان المستهدّفون من هذا التحليل محاربين سابقين بالجيش الأمريكي تتزايد 
بينهم معدلات الانتحار أكثر من باقي السكان. والسؤال هو كيف تحدد هؤلاء 
الذين يحتاجون إلى العون قبل فوات الأوان. ينصب اهتمام مشروع دوركايم. 
بمساعدة إدارة شؤون المحاربين القدامى التي تستطيع الوصول إلى السجلات 
الطبية كمصدر إضافي للبيانات. على توفير نظام إنذار مبكر ينبه إلى أن شخصا 
بعينه يُظهر ميلا خطيرا إلى الانتحار. يتطلب ذلك أشكالا متطورة من تحليلات 
البيانات قادرة على استخلاص الدلالات وسط كم هائل من البيانات. مرة أخرى 
من خلال تعلم ما يرجح أن تعنيه كلمات بعينها. حيث تلقن الحواسيب 
وتدرس عبارات الأفراد الأكثر نزوعا إلى الانتحار وتركيباتهم النحوية من دون 
انتهاك أو تعقب للحياة الشخصية أو مشاعر المفحوصين الخاصة. كما استعان 
مشروع مشابه في جامعة وارويك عل21ة18 4ه 6أو:11017 بالمملكة المتحدة 
بملاحظات حقيقية كتبها منتحرون في تلقين الحواسيب طريقة اكتشاف الأفكار 
الانتحارية داخل التراكيب النحوية. 

بالطبع سترتفع احتمالات القياس إذا أمكن إقناع الأفراد بالانخراط داخل مثل 
هذه البرامج المخصصة للمراقبة السيكولوجية. إذ يبتغي النمو الذي تشهده أجهزة 


210 





الحياة داخل المختبر 


الهاتف المحمول كأدوات لسياسات الجيل الثاني للصحة 2.0 5غ1ه»11!*) السيطرة 
على رفاهية الأفراد لحظة فلحظة. بمعنى قدرة النظرة الطبية على النفاذ أعمق 
داخل الحياة اليومية بما يتجاوز حدود الجراحة أو المستشفى أو المختبر. ويعتبر 
تعقب الحالة المزاجية الآن جناحا خاصا من حركة الذات المكممة الأوسع التي 
يسعى الأفراد بها إلى قياس تقلبات حالاتهم المزاجية» سواء لغاية أو محض فضول*". 
وقد طُْرت تطبيقات مثل 8400450 (القائم على مقياس الطب النفسي الأشهر 
للوجدان: «باناس» 242145) لتبسيط ومعايرة تعقب الحالة المزاجية لفرد ما. 

إن تطبيقات الهواتف الذكية مثل 0655 1أمم3آ2 عداملا عء1:2 المطورة في 
هارفارد. أو 5655امم33 المطورة في معهد لندن للعلوم الاقتصادية» والتي تحث 
الناس كل بضع ساعات على التعبير عن تفاصيل حالاتهم المزاجية في الوقت الحالي 
(على هيئة رقم) ونشاطهم الجاريء تمكن علماء الاقتصاد واختصاصيي الرفاهية من 
حشد معارف كان من المستحيل تصورها منذ عقد واحد مضى. هكذا تبين أن الناس 
يصبحون أسعد أثناء العلاقات الحميمية على رغم أن للمرء أن يتساءل بشأن ما إذا 
كان التعبير عن ذلك عبر الهاتف يقدم إفادة عن جودة تلك الخيرة2", 

حين شرع الباحثون أول مرة في السعي إلى جمع البيانات عن سعادة مجتمعات 
بأكملها خلال ستينيات القرن الماضيء واجهوا مشكلة فنية ضربت صميم المذهب 
النفعي: لأي مدى بمكن الثقة بإفادات الناس عن مقدار سعادتهم؟ من المرجح أن 
تشوّه الطريقة التي يُدلي بها الناس عن مقدار سعادتهم بضعة أمور. على رغم ما 
يفترضه ذلك من وجود شيء موضوعي بشأن السعادة يمكن ذكره في اللمقام الأول. 
أولا قد ينسون ما أحسوا به حقا في حيواتهم اليومية وينتهي بهم الحال بنظرة أكثر 
إشراقا أو اكتئابا عما كانت عليه فعلا حالتهم المزاجية. ربما نعتبر ذلك شكلا من 
أشكال التضليل على رغم أن للناس بالطبع الحرية في رواية حيواتهم بالطريقة التي 
يرونها مناسبة. 





(*) ظهر مصطلح الجيل الثاني للصحة 2.0 )1161 منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين باعتباره فرعا 
من تقانات الرعاية الصحية التي تعكس إمكانات الجيل الثاني للويب» ويشمل السوشيال ميديا والمحتوى الرقمي 
الذي ينتجه الأفزاد والحوسبة السحابية وتقانات الهواتف الذكية. وتهدف هذه المنظومة من التقانات في نظر 
المؤيدين لها إلى تمكين المرضى من مزيد من السيطرة على الرعاية الصحية المقدمة إليهم. [المترجم]. 


211 





صناعة الشعادة 

ثانياء سيتأثرون بالقواعد الثقافية المتعلقة بالإجابة عن أسئلة الدراسات 
المسحية. فلو أن السؤال هو: كيف ترى إجمالا مدى إحساسك بالسعادة في حياتك؟ 
أو: كم كان قدر سعادتك أمس؟ فإن بعض الأفراد ربما يستجيبون على الفور بطرق 
معينة تبعا للثقافة أو التنشئة تفضي بهم إلى أنماط تقليدية في الإجابة. فقد يراودهم 
الشعور بأن الشكوى أو المبالغة في تقدير السعادة انهزامية (وهي مشكلة أمريكية 
بامتياز) أو على العكس يرون أن الإعلان عن إحساسهم بالسعادة نوع من الابتذال 
وهكذا يصرحون بغير الحقيقة (وهي ظاهرة متكررة في فرنسا). 

مع نمو علم اقتصاد السعادة خلال حقبة التسعينيات من القرن الماضيء بزغت 
استراتيجيات مختلفة تتجنب هذه المشكلة. إذْ كان الهدف هو الوصول إلى السعادة 
كما نحسها فعلاء لا كما نعبر عنها. وهو ما يتجلى أنها مشكلة فلسفية بقدر ما هي 
منهجية في الآن ذاته. ماذا يعني الوصول إلى حقيقة السعادة. من دون ال مرور بأفكار 
الفرد الواعية عنها؟ لقد طور السيكولوجيون والاقتصاديون أساليب مختلفة لإنجاز 
ذلك من دون أن يطرف لهم جفن. أحدها إعادة بناء أحداث اليومء وهي الطريقة 
التي يسهم فيها الأفراد بأحد أبحاث السعادة من خلال الجلوس في نهاية كل يوم 
وتسجيل لحظات السعادة التي أحسوا بها في أوقات مختلفة وما كانوا يفعلونه 
آنذاك. كانت لهذا الأسلوب بعض العيوب الواضحة فيما يتعلق بإمكانية ارتكاب 
أخطاء عند تذكر تلك التجارب. لكنه ليس إل خطوة واحدة لاستئصال العقل الناقل 
الواعي سعيا إلى قدر أثيري ما من السعادة التي تحلق وتهوي داخل العقل. 

تبشر مجالات المراقبة والمراقبة الذاتية الجديدة التي تتيحها الهواتف الذكية 
وتحليل البيانات بالقضاء على هذه المشكلة. فالناس ليسوا في حاجة إلى الحديث 
عن إحساسهم بالسعادة من خلال دراسة مسحية لو أمكن تفسير كلماتهم إجمالا 
من دون حتى أن يعرفواء أو لو أمكنهم تقديم تغذية راجعة رقمية آنية عن 
هذا الإحساس من خلال تطبيق ما بالهاتف الذي. لقد ظل الطموح لقياس مد 
وجزر الحياة الذهنية مقيدا طوال قرنين بحدود المؤسسات - السجون؛ ومعامل 
الجامعات؛ والمستشفيات؛ وأماكن العمل. من ثم كانت هرميات السلطة التي تيسر 
هذا القياس مرئية» حتى إن م تكن قابلة للطعن بها. اليوم» تتبخر هذه الحدود 
المؤسسيةء بل م يعد لها وجود من الأساس. 


212 





الحياة داخل المختبر 

مع ذلك فهذه ليست حتى الإمكانية الأكثر بذخا من وراء امراقبة النفعية. 
هناك 'مشروعات بحثية تفصل تماما بين التجربة والوعي. من ثم م تعد السعادة 
هنا حالة يمر بها العقل أو الوعيء بل حالة فيزيائية وبيولوجية يمكن التعرف عليها 
موضوعيا بصرف النظر عن رأي المفحوص أو حديثه عنها. 

لطاما كان ما يبشر به علم السعادة من كشف لأسرار الحالة المزاجية الذاتية 
أمرا شديد الإغراء. لكن مع التقدم الهائل الذي لحق بهذا العلم: بدأ المكون الذاتي 
في الانسحاب من المشهد تماما. ويُفضي بنا الآن افتراض بنتام القائل «بأن اللذة والألم 
هما بعدا السيكولوجيا الحقيقيان الوحيدان». مباشرة إلى ال معضلة الفلسفية حيثث 
يستطيع أخصائي أعصاب أو عاط بيانات أن يقول لي بموضوعية شديدة إنني مخطئ 
بشأن حالتي المزاجية. إننا نصل إلى الحد الذي تصبح فيه أجسادناء باعتبارها قناة 
اتصال, أكثر جدارة بالثقة من كلماتنا. 

إذا سلمنا بأن الوجه هو إحدى الطرق التي يمكن عبرها رؤية السعادة باعتبارها 
حدثا فيسيولوجياء فإن الطريقة الأخرى هي الاقتراب من حيزها المفترض: الدماغ. 
تعتبر الآن أنماط مختلفة من الحالات المزاجية والاضطرابات واضحة للعيان بفضل 
قدرات أجهزة تخطيط كهربية الدماغ ©8258 والتصوير بالرنين ا لمغناطيسي الوظيفي 
[8348: بما فيها الاضطرابات ثنائية القطب وتجارب السعادة”". لقد بلغت 
الادعاءات المبالغ فيها بشأن علم الأعصاب حدا هائلاء كما تعول وجاهة حصر 
العقل (كما درسته السيكولوجيا) في الدماغ (كما درسه علم الأعصاب) بالأساس 
على إساءة لفهم ما تعنيه كلمة عقل 84154 في المقام الأول. على رغم ذلك يمكن 
القول إن عصرا نفعيا جديدا تتكشف آفاقه. عصرا لم يكن بنتام ليتخيله أبداء يبلغ 
فيه علم السعادة حدا يستطيع معه لا أن يتخطى الدراسات المسحية والاختبارات 
السيكولوجية التقليدية فقطء بل كل المؤشرات اللفظية والفيزيائية على الحالة 
المزاجية,ء من أجل الوصول إلى تلك الحالة نفسها في تجليها الفيزيائي. هكذا تشهد 
الدلالة الجوهرية لكلمة مزاج 281000 تبدلا. 

مع التهميش المستمر لمفاهيم شائعة كالوعي والانفعالء يطرأ الآن أمر غريب 
مصلحة الأعراض الفيزيائية والأحداث العصبية. ذلك أن الأمزجة والقرارات» التي 


لمي 93 


كانت تعزى إلى الذاتء بدأت في الهجرة نحو أجزاء أخرى من الجسم. وبلغت 


213 





صناعة الشعادة 


على الغابات2. وقد طرح بعض الباحثين مسألة أن تكون للون الأخضر آثار 
سيكولوجية إيجابية”. 

ثمة تاريخ طويل للزج بالمضطربين عقليا للعمل داخل الحقول؛ فرتابة الحلب 
والفلاحة والحصاد تتيح شكلا خاصا بها من السواء لأولئك الذين يعجزون عن 
التأقلم مع السواء الذي يفرضه المجتمع ككل. إِذْ يكتشف أولئك الذين يبدون 
عاجزين عن العثور على التماسك في حيواتهم الخاصة؛ والانتماء إلى وظيفة عادية؛ 
أو الذين عانوا قطعا لعلاقات عاطفية على نحو قاس نوعا ماء أن وجود النباتات 
والحيوانات له تأثير ملطف. ربما تكون خشونة الحياة الزراعية أحيانا جزءا من 
قيمتها. قد يفشل محصول ما أو يسوء الطقس, لكن يظل الضحك والمضي جمعيًا في 
محاولة أخرى هو الاستجابة الوحيدة المقبولة. فليس المجد الفردي بلائق ولا اللوم 
الفرديء في تناقض قوي مع الروح النيوليبرالية للقرن الحادي والعشرين. 

في أوائل القرن الحادي والعشرين كان بيرين ألدريدج 410108 86:6 يتطلع 
إلى تأسيس مزرعة من هذا النوع في كمبريا بمنطقة البحيرات في بريطانيا. كان 
ألدريدج قد سبق له العمل في مزرعة علاجية عد 086 بالولايات المتحدة على 
مدار عام إلى جانب تجربة العمل في خدمات. الصحة العقلية بكمبريا. وقد حدد 
الفلاحة باعتبارها فجوة واضحة داخل أشكال توفير الصحة العقلية المتاحة» فشرع 
ف تهيئة الأجواء لوكالة التنمية الإقليمية .والإدارات الخيرية المختلفة. اثفق على 
التمويل؛؟ فتأسست منشأة «غروينغ ويل» 78[1 وصت١‏ ه62 الخيرية في العام 204 
وهي مزرعة تبلغ مساحتها عشرة أفدنة تنتج الخضراوات التي تباع محليا. هناك 
يستطيع المتطوعون قضاء أقل من نصف يوم كل أسبوع بالعمل في ال مزرعة» وذلك 
لمساعدة النزلاء على الشفاء من عدد واسع من الصعوبات العقلية والانفعالية. 

كانت «غروينغ ويل» من وجهة نظر مموليها وصانعي القرار السياسي وخبراء 
الصحة العقلية ناجحة بدرجة كبيرة, وبينت التقديرات أن أولئك الذين قضوا وقتا في 
العمل داخل المزرعة يحسون بتقدم واضح في أحوالهم النفسية, ويميل إلى الاستدامة 
أكثر من التحسن الذي توفره الصور الطبية من العلاج. في البداية كانت أغلبية نزلاء 
«غروينغ ويل» يجيئون بناء على نصيحة الخدمات الاجتماعية أو ممارمي الرعاية 
الاجتماعية, لكن مع ظهور الوصفة الاجتماعية باعتبارها ممارسة طبية مُعترفا بهاء 


226 





حيوانات إشكالية 


أصبحت «غروينغ ويل» قادرة هي الأخرى على بناء علاقات مع العيادات الطبية 
في أرجاء شمال غرب إنجلترا. وبحلول العام 2013, كان 130 متطوعا قد قضوا وقتا 
في العمل داخل المزرعة. 

كيف ينبغي لنا أنّْ نفهم نجاح شيء مثل «غروينغ ويل»؟ إذا اخترنا النظر إلى 
العقل أو الدماغ البشري باعتباره كيانا سحريا مستقلا ماء له عاداته الغريبة» تقلباته 
واختلالاته؛ والتي ينبغي علينا نحن البشر أن نشملها بالرعاية (بمساعدة المديرين 
والأطباء وأصحاب القرار السياسي). آنئذ يصبح الموقف واضحا نسبيا. إِذْ يسقط 
البشر من حين إلى آخر ضحايا آفة عقلية أو عصبية عفوية يعجزون عن علاجها. ربما 
عصبون ما لا يعمل بشكل سليمء أو خليط رديء من الهرمونات أفرز في دمائهم 
بسبب عوامل إجهاد نفسي كان يجب عليهم تجنبها. . لعلهم ثم يسوسوا سعادتهم 
بفاعلية كافية من خلال الحمية الغذائية والتمرين والتعاطف مع الآخرين: حيثُ 
توفر البيئة الطبيعية والنشاط البدني علاجا سيكوسوماتيا لتلك الأنواع من الوعكات, 
لا يختلف عن العقاقير الطبية أو العلاج بالكلام. 

لاريب أن هذه هي الحكاية التي سيرويها كثيرون من ممولي «غروينخ ويل» 
والمتعاونين مع الخدمات الصحية الوطنية. وهي بلا شك الحكاية التي أسرت اليوم 
مخيلة أصحاب القرار السياسي والمديرين. تُعد هذه هي الحكاية التي ربما يحكيها 
الأفراد الآن عن حيواتهم الشخصية في مواجهة النضج المستمر لنتائج الأبحاث 
العصبية والسلوكية والنيوليبرالية على تيار الإعلام (أو من خلال أدب «ساعد نفسك» 
عمنطوىع؟!! مأعطكاء5): أصيب دماغي بخلل وظيفي يتطلب علاجا؛ بدأ عقلي في 
المبالغة كأنه كلب شارد؛ يصبح قضاء الوقت برفقة النباتات علاجا طبيا. وعموماء 
وفق ما يذكرنا مختصو علم النفس الإيجابي بلا هوادة, فالرفاهية خيار. ثمة شخصٌ 
ما يريد الاستيلاء على عقلي أو دماغي. 

لكن ذلك يختلف كليا عن الطريقة التي يعي بها بيرين ألدريدج المشروع 
الذي أسسه. ففيما يتعلق به؛ تعد «غروينغ ويل» عملا تجاريا وليست وصفة 
طبية ما متنكرة. كان ألدريدج قبل تأسيسه المزرعة قد حصل على درجة 
الماجستير في التأهيل المهني. من خلال دراسة كيف يساعد العمل البشرٌ على 
الشفاء من الأمراض وأحداث الحياة المؤمة. وتفحصت أطروحته ممارسات الإدارة 


207 





صناعة السعادة 
الحتمية الثقافية لإعادة موضعة الاكتئاب داخل الجسم نقطة يعتقد عندها العلماء 
الآن في قدرتهم على تشخيصه من خلال اختبار للدم. ثرى ماذا لو عارض ال مريض 
النتيجة؟ هل سيكون العلماء على خطأ؟ الأغرب أن مصطلح «الدماغ» ند أخذ 
يتحول إلى مفهوم مجرد يمكن أن يشير إلى أماكن جسدية مختلفة. . حيثُ يزعم 
البيولوجي مايكل غيرسون «ه0طو6»2 اعةط21 أنه اكتشف دماغا ثانيا داخل 
الأحشاء يدير عملية الهضم. لكنه لا يمر بتجربة الحالة المزاجية والمرض العقلي. 

إن عددا قليلا فقط من أدوات المراقبة الجديدة التي اختّرعت هي ما كانت 
تستهدف التلاعب بنا أو انتهاك خصوصيتنا لأغراض سياسية. بل على العكسء كان 
اختراعها مدفوعا على نطاق واسع بفطرة طبية أو علمية نزيهة هي أن رخاء البشرية 
سوف يتحسن إذا أمكن استيعاب طبيعة الرفاهية على نحو أفضلء من خلال تعقب 
تلك الرفاهية بين البشر باستمرار. بالنسبة إلى هؤلاء السائرين على خطى بنتام, 
يعتمد التقدم بالعلوم البشرية على العثور على طرق أفضل لفهم العلاقة بين العقل 
والجسمء ووسائل جديدة للربط بين الملذات الانفعالية والجوانب المادية: والاشتباك 
مع المعضلة التي لا تنتهي بخصوص ما يجري حقا داخل رؤوسنا. 

لا ريب أنه يصبح من الصعب مقاومة ذلكء والكثير من تلك الطرق والوسائل 
تطور بشكل واضح لمصلحة صحتنا ورفاهيتنا. على النقيض تتطلب منا الكثير من 
التطبيقات الرقمية الجديدة وأدوات التحليل التي تستهدف كشف أسرار الشعور 
بالسعادة والرفاهية, التعاون بنشاط في قياس ذواتنا ومشاركة تلك البيانات بشأن 
مزاجنا برحابة صدر. لا بد من وجود استفادة واضحة مقابل عمل ذلك. وإلا 
فستتوقف تلك الأشكال من القياس عن العمل. 

المأزق أن هذه لن تكون أبدا نهاية المسألة. فما بدأ على أنه بحث علمي في 
شروط وطبيعة الرفاهية البشرية يمكنه التحول سريعا إلى استراتيجيات جديدة 
للسيطرة على السلوك. من ناحية فلسفيةء هناك هوة تفصل المذهب النفعي 
عن السلوكية: يفضل الأول تجربة العقل الداخلية باعتبارها مقياسا للقيمة» في 
حين لا يهتم الأخير إلا بالطرق المختلفة التي يمكن من خلالها أن يكون الكائن 
البشري الخاضع للملاحظة خاضعا أيضا وعلى نحو محسوس للتأثير والتلاعب. 
لكن من ناحية المناهج والأساليب والتقنيات» فإن اطيل إلى الانزلاق من النفعية 


214 





الحياة داخل المختبر 
إلى السلوكية شديد السهولة. حيث تضمن المشاعر الذاتية الداخلية امتيازا كهذا 
تحت سقف النفعية, بتعاظم فتنة الآلات القادرة على قراءتها والتكهن بها 
بطريقة سلوكية وموضوعية. 
بالمثل. ما يبدأ في الغالب بوصفه أساسا يمكن بناء عليه فهم التقدم والازدهار 
البشريين - كأفكار التنوير والإنسانية الجوهرية - يعاود الظهور فجأة باعتباره سبيلا 
لبيع ما لا يحتاج إليه الناس: ولجعلهم يكدحون في العمل لمصلحة مديرين لا 
يحترمونهم: ولتكييفهم مع أهداف سياسة لم يشاركوا في صياغتها. إن قياس العلاقات 
بين العقل والجسم والعام تصير دانما أساسا لتشديد الرقابة على البشر وجعل 


قراراتهم قابلة للتنبؤ. 
حقيقة القرارات 


يعد مشروع هدسون يارد 45جهلا 1110502 العقاري بالحي الغربي 
في مانهاتن أكبر تطوير تشهده مدينة نيويورك منذ بناء مركز روكفيلار في 
ثلاثينيات القرن الماضي. إذْ سيضم حين يكتمل ست عشرة ناطحة سحاب 
ومكاتب للعمل ونحو خمسة آلاف شقة سكنية ومتاجر ومدرسة. وبفضل 
التضافر بين سلطات المدينة وجامعة نيويوركء. وهو الذي أدى فيه العمدة 
السابق مايكل بلومبيرغ 8100:2558 أع2طء841 دور الوسيط الأساس: سيصبح 
أيضا ممُختبرا سيكولوجيا واسعا. سيصير هدسون يارد واحدا من المشاريع الأكثر 
طموحا لما يصطلح عليه فريق أبحاث جامعة نيويورك ب«المجتمع المكمم» 
(تانصناصتدحطه© 560 أغصة0): حيث يُستعان بكامل نسيج التطوير في التنقيب 
عن البيانات التي سيضطلع بتحليلها الأكاديميون والمهتمون بالتجارة. هكذا 
يتآلف المشروع الذي استهله واطسون للتعامل مع البشر كفثران بيضاء تستثار 
بحثا عن استجابة. مع مبادئ التخطيط الحضري. 

إن أحد الاختلافات الأساسية بين عصر البيانات العملاقة والدراسات المسحية 
هو أن البيانات العملاقة تُجِمّع بشكل افتراضيء من دون قصد تحليلها بالضرورة. 
أما الدراسات المسحية فتنفيذها مكلف وتحتاج إلى التروي في تصميمها بناء على 
أسئلة بحثية محددة. على النقيض من ذلكء فإن الشيء الأبرز فيما يتعلق ببيانات 


215 





صناعة الشعادة 


ا معامّلات هو أن الباحثين يغدون في موقف جمع كل ما يمكن الوصول إليه أولا. 
والانشغال بأسئلتهم البحثية تاليا. ذلك أن فريق المجتمع المكمم يثق جدا بأن لديهم 
فكرة عما يشغلهم: تدفقات المشاة؛ حركة المرور في الشارع؛ جودة الهواء؛ استخدام 
الطاقة؛ الشبكات الاجتماعية؛ التخلص من النفايات؛ إعادة التدوير؛ ومستويات 
الصحة والنشاط لدى العمال والسكان. لكن لا شيء من ذلك يشكل أهمية تذكر في 
تصميم المشروع. ال مطور الرئيس بهدسون يارد متحمس وحيادي في آنء يقول: «لا 
أدري ما الذي ستكون عليه التطبيقات, لكنني أعلم يقينا أنك لن تستطيع إنجازها 
من دون البيانات»*". لاحظ كل شيء أولا. واطرح الأسئلة لاحقا. 

من النادر بالنسبة إلى الباحثين الأكاديميين التورط في مشروع مماثل. لكن متى 
توافرت إمكانية تحقيقه. تغدو فرص التحليل والتجريب السلوكيين هائلة. لقد 
قامت السيكولوجيا السلوكية على سؤال بسيط وقاس: كيف يمكن ضبط سلوك 
شخص آخر وجعله قابلا للتنبؤ؟ دائما ما تحمل التجارب التي تتلاعب بالبيئة كي 
تكتشف طريقة استجابة البشر لموقف ماء معضلات أخلاقية معها. لكن حين 
تتخطى تلك التجارب حدود المختبر السيكولوجي التقليدي وتتغلغل بكل مناحي 
الحياة تصبح المشكلة سياسية أكثر. ذلك أن المجتمع ذاته يُستغل ويُدفع إلى خدمة 
مشاريع النخبة العلمية البحثية. 

وكما هو الحال داثما مع السلوكية, فإنها لا تقوم بوظيفتها العلمية إلا على 
الأساس القائل بأن المشاركين في التجارب سذج. ذلك أنهم لا يدركون تماما ماهية 
ما يقومون به أو ماهية الاختبار الذي يخضعون له. وهي مسألة تدعو إلى القلق. 
في العام 2013 تعرضت الحكومة البريطانية للحرج حين اكتشف مدون خضوع 
الباحثين عن عمل لدراسات مسحية سيكومترية نتائجها مزيفة بالكامل”'". فبصرف 
النظر عن الطريقة التي كان يجيب بها ا لمفحوصء كانوا يحصلون جميعا على النتائج 
نفسها التي تخبرهم أن نقاط قوتهم الأساسية تكمن في سوق العمالة. واتضح لاحقا 
أنها ليست إلا تجربة يديرها فريق الاستبصارات السلوكية التابع للحكومة البريطانية 
أو وحدة الترغيب 17016 ءع4د80, لدراسة ما إذا كان سلوك الأفراد يتغير عند طرح 
دراسة مسحية هذه النتائج عليهم. لقد تعرض الواقع الاجتماعي للتلاعب من أجل 
استخلاص نتائج تخدم هؤلاء الذين ينظرون من عل. 


216 





الحياة داخل المختبر 
يُتيح منطق التخريب هذا عرض سياسات قد تتراءى من دون ذلك غير 
معقولة أو حتى غير قانونية. فتكشف التجارب السلوكية على النشاط الإجرامي 
أن الأفراد أقل ميلا من الناحية السيكولوجية إلى تعاطي المخدرات أو التورط 
بجريمة حقيرة لو أن العقوبة الناجمة عن ذلك سريعة ومؤكدة. لذلك يحتاج 
الربط بين الفعل والنتيجة إلى التشديد قدر الإمكان لو أريد للعقوبة النجاح 
بوصفها رادعا. بهذا المعنى: تغدو الإجراءات القانونية عائقا غير كفء يقف في 
طريق تغيير السلوك. ويكفل برنامج فرصة هاواي البديلة للاختبار مع تطبيق 
القانون ]2ع تمءعع 102ص ااا مملعوطمعظ السب ممم 0 والله بدا (810218) 
ذائع الصيت أن يعرف الجناة من أصحاب السوابق أنهم سيسجنون فورا إذا ثبت 
أنه ليس من ورائهم إلا الضرر. 
تشترك مشاريع مثل مجتمع هدسون يارد المكمم ودراسة وحدة الترغيب 
المسحية الزائفة و210818 في عدد من الخصائص. أكثرها وضوحا هو أنها مزودة 
بدرجة عالية من التفاؤل العلمي بأنها ربما تتوصل إلى كم كبير من المعرفة 
الموضوعية المتعلقة بطريقة اتخاذ الأفراد قراراتهم» ومن ثم تصميم سياسة عامة 
(أو ممارسات تجارية). هذا التفاؤل ليس جديداء بل يميل في الواقع إلى التكرار كل 
عدة عقود. كانت أولى موجات هذا التفاؤل في عشرينيات القرن الماضي بإلهام من 
مبادئ واطسون وتايلور للإدارة العلمية. الموجة الثانية جاءت خلال الستينيات مع 
صعود المقاربات الإحصائية الجديدة في الإدارة والتي كان أبرز مؤيديها وزير الدفاع 
الأمريكي الأسبق روبرت ماكنامارا دققحصة 1 )10661 خلال حرب فيتنام. ونشهد 
الآن ثالثة تلك الموجات. 
ثرى ما الذي يحفز على هذه الغزارة السلوكية حقا؟ الإجابة واحدة في جميع 
الحالات: لاأدرية مناهضة للفلسفة امتزجت مع تبن حماسي لراقبة الجماهير. 
هذان الأمران متلازمان بالضرورة. فما يقوله عالم سلوي حقا هو: 
أنا أبدأ من دون نظرية تفسر سبب الطريقة التي يتصرف بها الناس. لا 
أفترض ما إذا كان سبب قراراتهم موجودا داخل أدمغتهم, أو في علاقاتهم, 
أو أجسادهم.: أو تجاربهم السابقة. لا أستدعي فلسفة أخلاقية أو سياسية؛ 
لأنني عام. ولا أطرح ادعاءات بشأن البشر بخلاف ما أراه أو أستطيع قياسه. 


217 





صناعة الشعادة 

لكن هذه اللاأدرية الراديكالية غير مقبولة إلا على أساس أن اللا أدري هنا على 
دراية بمقدرات مراقبة هائلة. هذا هو السبب الذي لأجله تتصادف دائما عهود 
التفاؤل السلوي الجديدة مع ظهور تقانات جديدة لجمع البيانات وتحليلها. وحده 
العام الذي يستطيع النظر إلينا من منظور أعلى» ينقب عن بياناتناء يراقب أجسادناء 
يقيم تحركاتناء يقيس مدخلاتنا ومخرجاتناء من له الحق في عدم طرح افتراضات 
بشأن الطريقة التي يتصرف بها البشر. 

بالنسبة إلى الباقين مناء فإننا حين نتحدث مع جيراننا أو ننخرط في نقاش, نستند على 
الدوام إلى افتراضات بشأن ما يريده الآخرون أو يفكرون فيه والسبب الذي لأجله اختاروا 
المسار الذي سلكوه. وما عنوه في الحقيقة حين نطقوا كلاما بعينه. إن استيعاب ما يقوله 
شخص آخر يعني بشكل أساس الاعتماد على فرضيات ثقافية مسبقة متعددة خاصة 
بالكلمات التي يستخدمها والطريقة التي استخدمها بها. ربما لا تكون هذه الافتراضات 
المسبقة نظريات با معنى الحرفيء بل بالأحرى قوانين أساسية تساعدنا على تفسير العالم 
الاجتماعي من حولنا. إن الادعاء بإمكانية التعرف على الطريقة التي تُنّخذ بها القرارات 
على أساس البيانات فقطء لا يمكن أن يصدر إلا عن مراقب فوقي. فبالنسبة إليه. النظرية 
هي ما م يصبح مرئيا بعد. وفي عصر البيانات العملاقة والتصوير بالرنين المغناطيسي 
الوظيفي والحوسبة الوجدانية: يأمل هذا المراقب أن يستطيع التخلي عنها تماما. 

انظر كيف تقوم هذه العناصر بعملها اليوم. الأمر الأول: اللاأدرية النظرية. 
إن الحلم الذي يدفع علم البيانات إلى الأمام هو أن نستطيع يوما ما الاستغناء عن 
مجالات الاقتصاد والسيكولوجيا وعلم الاجتماع والإدارة وغيرهاء المتشعبة. وبدلا 
منهاء يبزغ علم شامل يختص بدراسة الاختيار. يبحث من خلاله الرياضياتيون 
والفيزيائيون مجموعات واسعة من البيانات لاكتشاف القوانين العامة التي تحكم 
السلوك. وبدلا من علم يدرس الأسواق (علم الاقتصاد)» وعلم يدرس أماكن العمل 
(علم الإدارة). وعلم يدرس خيارات المستهلك (أبحاث السوق)» وعلم يدرس التنظيم 
والعلاقات (علم الاجتماع)؛ لن يكون هناك إلا علم واحد ينفذ مباشرة إلى حقيقة 
السبب وراء اتخاذ القرارات بهذا الشكل الحالي. إن نهاية النظرية تعني نهاية 
المجالات المتوازية وفجر عصر جديد يندمج فيه علم الأعصاب مع تحليل البيانات 
العملاقة ليضعا معا عددا من القوانين الراسخة التي تصف عملية اتخاذ القرار. 


2318 





الحياة داخل المختبر 
إن قوة المكتشفات العلمية تزداد كلما قلت الافتراضات بشأن البشر. لقد كانت 
السلوكية على مدى فترات طويلة من تاريخهاء تشير في المقام الأول إلى دراسة سلوك 
الحيوان مثل الفئرانء لكن ما صنع من واطسون شخصية ثورية بالسيكولوجيا الأمريكية 
هو رأيه المتشدد أن التقانات ذاتها ينبغي توسيعها لتشمل دراسة البشر. يُنظر اليوم إلى 
حقيقة أن خبراء التحليل الكمي (الرياضياتيين والفيزيائيين المزودين بتقانات خوارزمية 
لاستقراء مجموعات واسعة من البيانات) هم من يضطلعون بمهمة جعل سلوكنا قابلا 
للتنبق ب باعتبارها أكثر الحقائق المبشرة. نظرا إلى أن هؤلاء الأفراد لا يثقلهم عبء أي 
نظرية تهتم بالفصل بين ما يميز البشر أو ا مجتمعات عن غيرها من النظم الأخرى. 
الأمر الثاني هو المراقبة. كما تشير أمثلة كهدسون يارد أو وحدة الترغيب, فقد 
برز عهد الوفرة السلوكية الجديد إلى الوجود بناء على تحالفات على مستوى رفيع 
جديد بين السلطات السياسية والباحثين الأكادمميين. ولا هذه التحالفات لكان على 
علماء الاجتماع متابعة العمل في كنف النظرية والفهمء كما نفعل جميعا حين 
نسعى إلى تفسير ما يوشك الأخرون على عمله في الحياة اليومية. بدلا من ذلك. 
تقوم شركات مثل فيسبوكء التي يمكنها طرح ادعاءات موضوعية صارمة تتعلق 
بمدى تأثرنا بسلوكيات أو أمزجة أو أذواق متباينة - بفضل قدرتهاء بملاحظة وتحليل 
النشاط على الإنترنت لما يقرب من مليار مستخدم. 
إذا أضفت المراقبة السلوكية الشاملة إلى علم الأعصاب. فستصبح لديك صناعة 
حرفية تضم خبراء دراسة القرار المتأهبين للتنبؤ بالطريقة التي سيتصرف بها فرد ما 
في مختلف الظروف. إذ يكشف علماء نفسانيون ذائعو الصيت. مثل دان أريلي هه5 
براعنة مؤلف كتاب «لاعقلاني بشكل متوقع» لههه1)ة::1 /إآاطه26010, وروبرت 
سيالديني نصنةلة1© +1056 مؤلف كتاب «التأثير: سيكولوجيا الإقناع» :ععم216ه1 
ده أمهنومء2 4ه بروواوطئزو2 16 النقاب عن أسرار اتخاذ الناس للقرارات المعنية, 
والتي توعز إليناء كما تقول تلك الكتبء بأن الأفراد ليسوا مسؤولين عن خياراتهم 
على الإطلاق؛ ذلك أنهم يعجزون تماما عن الإفصاح عن مسببات أفعالهم. وسواء 
يرجع ذلك إلى السعي إلى تحقيق الكفاءة في محل العمل أو إلى أنها غاية السياسة 
العامة أو تحديد موعد غراميه فإن العلم العام المعني بدراسة الاختيار يعد بتقديم 
حقائق كانت في السابق مجرد خرافات. الحقيقة هي أنه بغض النظر عن السياقء. فإن 


6219 





صناعة الشعادة 


الخيار يبدو كأنه يشير إلى شيء ما يشبه مقترحات التسوق, وأن المعنيين بدراسة اتخاذ 
القرارات مم يتخلصوا بعد من آفة الانحياز أو النظرية كما يرجون. 

مع ذلكء. فإن تلك الشرعية الواضحة لهذه المقاربة القائمة على البيانات من 
أجل فهم البشر لاتزال تسهم بالمزيد من التوسعات في مجال القدرة على المراقبة. 
تعد إدارة الموارد البشرية أحد أحدث المجالات التي غزتها نشوة البيانات في وجود 
تقانات جديدة عرفت ب «تحليلات اللوهبة» وع الصف 4م»121:, والتي تتيح 
للعاملين بالإدارة تقييم موظفيهم حسابيا مستفيدين من حركة البريد الإلكتروني في 
مكان العمل”". وتمضي شركة سوسيوميتريك سولوشنز كدهغنااه5 عتماء درم ك50 
ومقرها بوسطن إلى مدى أبعد. إذ تنتج معدات يرتديها الموظفون لتمكين 
الإدارات من تعقب تحركاتهم ونبرات أصواتهم وأحاديثهم. كما تعد المدن 
والبيوت الذكية التي تتجاوب مع سلوك قاطنيها وتسعى باستمرار إلى تغييره. 
حيزا آخر تبنى فيه اليوتوبيا العلمية الجديدة. وفي مفارقة ساخرة في تاريخ 
النزعة الاستهلاكية؛ تبين أننا سنستطيع قريبا التحرر من عبء مسؤولية قراراتنا 
الشرائية بفضل التسوق التنبئي»: الذي ترسل من خلاله الشركات منتجاتها (مثل 
الكتب أو البقالة) إلى بيوت ال مستهلكين مباشرة من دون طلبهم: بناء على تحليل 
حسابي خالص أو الرصد الذي للبيوت20, 

إن خطاب تجار البيانات يعود إلى عصر التنوير: فهو خطاب عن الانتقال من 
عصر التخمين إلى عصر العلم الموضوعيء يعكس الطريقة التي استوعب بها بنتام 
أثر المذهب النفعي في القانون والعقاب. لكن هذا الخطاب يخفي تماما علاقات 
وأدوات السلطة الضرورية لإنجاز تقدم كهذا. 

ريما لا يوجد ما يثير الدهشة في كل هذا. فجميعنا نعي بّداهة أن إجراء معاملة 
رقمية ما أو مشاركة معلومة مع صديق سيكون موضوعا للبحث داخل المختبر الشامل 
الجديد. وتسلط الخلافات ال محيطة بالمدن الذكية وفيسبوك الضوء على مسألة تهديد 
الخصوصية التي تنطوي عليها هذه المنصات. لكن غالبا ما يكون العلم الذي ينتجه 
ا مختبر الجديد بعيدا عن الانتقاد: إذ تغرينا فكرة أنه أسفل الأسطورة الليبرالية عن 
الاستقلال الفردي, يوجد لكل خيار سبب ما أو دافع موضوعي سواء كان بيولوجيا أو 
اقتصاديا. لكن ما ننساه كثيرا أن هذه الفكرة لا معنى لها على الإطلاق؛ ذلك أنها تغفل 


2060 





الحياة داخل المختبر 
أدوات ا لملاحظة والتعقب وامراقبة والتدقيق. إما أن نمتلك النظريات والتأويلات عن 
النشاط البشري وفرصة لبعض من الاستقلال الذاقء وإما أن نمتلك حقائق صارمة عن 
السلوك ونعيد بناء المجتمع بوصفه مختبرا. لكن لا يمكننا أن نمتلك الأمرين معا. 


يوتوبيا السعادة 

في العام 2014 أعلن مصرف ألفا علمة8 4168 الروسي عن شكل جديد غير معتاد 
من أشكال التمويل الاستهلائي اسمه «حساب توفير النشاط» ووصاحة5 9716م 
أصناوءع4*". يستخدم المستهلك بمقتضاه أحد أجهزة تتبع النشاط الجسماني 
العديدة مثل )1ذ811 أو تع مع سنج أو 2نا عدم ط حول التي تقيس عدد خطواته 
يوميا. وتثمر كل خطوة يخطوها قدرا صغيرا من النقود يُحوّل إلى حساب النشاط 
الذي يتمتع بأعلى عائد مقارنة بالحسابات العادية. وقد اكتشف مصرف ألفا أن 
المستهلكين الذين يستخدمون هذا الحساب يدخرون ضعف ما يدخره المستهلكون 
الآخرون» ويسيرون مرة بونصف المرة ضعف ما يسيره الروس في المتوسط. 

في العام السابق أجر يت تجربة في محطة أنفاق فيستافوكنايا 8[ 7ط 179725)370 
بوصفها جزءا من التحضير لدورة الألعاب الأوطبية شتاء 2014”©. استبدلت فيها 
بإحدى ماكينات التذاكر ماكينة أخرى تحتوي على مستشعر, وكان أمام الركاب 
خياران: إما دفع ثلاثين روبلا ثمنا للتذكرة. وإما الجلوس في وضع القرفصاء ثلاثين 
مرة أمام اماكينة خلال دقيقتين. الذين يفشلون في أداء هذا التمرين كانوا يضطرون 
إلى دفع الثلاثين روبلا. 

لايزال ينظر إلى ماكينة تذاكر تعقب اللياقة البدنية ايوم على أنها احتيال. 
أما حساب توفير النشاط فهو أكثر جدية؛ ذلك أن برامج تعقب اللياقة البدنية 
للموظفين التي تباع بناء على ثمارها الإنتاجية المحسوبة لا شيء غير قانوني فيها. حين 
تصدى بنتام ملسألة طريقة قياس المشاعر الذاتية أفصح عن أمل ملتبس أن يتم هذا 
القياس من خلال المال أو قياس معدل النبض. وفي هذا الشأن. نجح تماما في توقع 
أدوات خبراء الرفاهية الأولى. 

المرحلة التالية في صناعة السعادة هي تطوير تقانات يمكن من خلالها التوحيد 
بين هذين المؤشرين المنفصلين على الرفاهية. إن الواحدية 2 - وهي بمعنى 


221 





صناعة الشعادة 
أن اعتقاد أنه لا يوجد إلا معيار واحد وحيد للقيمة يمكن من خلاله تثمين أي 
ناتج سيامي أو أخلاقي - دائما ما تحبطها حقيقة أنه يستحيل العثور على مؤشر 
واحد قاطع لهذه القيمة أو بناؤه. امال لا بأس بهء لكنه يهمل الجوانب الأخرى 
السيكولوجية والفيسيولوجية للرفاهية. قياس ضغط الدم أو معدل النبض لا بأس 
بهما أيضا إلى حد ماء لكنهما يعجزان عن بيان مدى رضانا عن حياتنا. يستطيع 
التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي الآن تجسيم الانفعالات آنياء لكنه يغفل 
المفاهيم الأوسع للصحة والازدهار. هكذا تصطدم المقاييس الوجدانية والاستبيانات 
بمشكلات ثقافية تتعلق بالطريقة التي نفهم بها كلمات وعلامات مختلفة. 

هذا هو السبب الذي لأجله ربما تمثل ترجمة المقاييس الجسدية إلى مقايبس نقدية 
والعكسء أهمية بالغة في الوقت الراهن. إذ تشرع تلك الترجمة في تذويب الحدود 
التي تفصل المقايبس المحددة للسعادة أو اللذة: وتبني أداة قادرة على تحديد القرار 
أو النتيجة أو السياسة الأفضل بكل الطرق. هذا افتراض طوباوي (با معنى الحرفي لكلمة 
يوتوبيا: لا مكان). لا بمكن أن يوجد مقياس واحد للسعادة والرفاهية؛ وذلك للعلة 
الفلسفية الواضحة التي تقول إنه لا وجود في الحقيقة لأي كمية يمكن قياسها من مثل 
هذه الأشياء في المقام الأول. الواحدية مفيدة بلاغياء وجذابة من منظور القادر الذي 
يتعطش لوسائل بسيطة لإنجاز ما يجب إنجازه تاليا. لكن هل ثمة من يؤمن حقا بأن 
كل اللذات والآلام تقبع في مؤشر واحد؟ لا ريب أننا نستطيع مناقشة تلك المسائل كأنها 
جوهر القضية. اعتمادا على مجاز «المنفعة» أو «الرفاهية». لكن اطرح المؤشرات امالية» 
والسلوكية, والسيكولوجية: والفيسيولوجية: والوجهية. والعصبية الموضوعية. ساعتها 
ستتطاير الفكرة الوهمية عن السعادة باعتبارها كمية يمكن قياسها. 

في تلك الحالة, ما الداعي لبناء أداة قياس كهذه؟ لم التمادي إلى هذا الحد لتأكيد 
أن الشظايا المختلفة لهذه السعادة مترابطة. ونؤلف علاقات بين أرصدتنا في البنوك 
وأجسادنا؛ وتعبيرات وجوهنا وعاداتنا في التسوق؛ وهلم جرا؟ نحنء في كنف التفاؤل 
العلمي. محكومون بفلسفة لا تبدو معقولة. هذه الفلسفة تعجز عن القطع بصورة 
يقينية مما إذا كانت السعادة شيئا ماديا أو ميتافيزيقيا. كل مرة كسابقتهاء كلمأ 
وصلنا إلى إجابة, يتملص من بين أيدينا هذا اليقين. مع ذلك لاتزال أدوات القياس 
تواصل النمو, وتزحف أكثر على حيواتنا الشخصية والاجتماعية. 


222 





الحياة داخل المختبر 


لقد رأى ساكن. كوبنهاغن الذي ركل باحث وكالة جيمس والتر طومبسون من 
فوق درجات السلم في العام 1927 جوهر هذه القضية: واحدة من استراتيجيات 
السلطة. مراقبة وإدارة وحكم مشاعرنا ناجحة إلى درجة أنها تحيّد طرقا بديلة لفهم 
البشرء وأشكالا بديلة للتمثيل السيامي والاقتصادي. لن يبلغ هذا المشروع غايته 
أبدا. وعلى رغم ادعاءات علماء الأعصاب بعبور الحدود النهائية المتعلقة باتخاذ 
القرار أو الانفعالات. سيظل البحث عن واقع مشاعرنا الموضوعي بلا جدوىء ولن 
يكف عن التشعب. الأمر الرئيس هنا هو ما إذا كان من الممكن التعبير عن الشقاء 
من خلال أدوات القياس: وإذا كان من الممكن فهم النجاح بلغة النتائج القابلة 
للقياسء حينئذ تكون المشاريع التحررية والنقدية أسيرة شرك يسخر طاقاتها. 

تستطيع النفعية أن تصادق عمليا على أي نمط من الحلول السياسية سعيا إلى 
تحسين الأداء العقليء بما في ذلك الأشكال شبه الاجتماعية للتنظيم والإنتاج على نطاق 
صغيرء حيث يبدو أنها تجعل الناس يشعرون بأنهم أفضل حالا وأكثر صحة. وهي تؤيد 
الازدهار البشري وفقا لفهم إنساني مطلقء, وهو الذي قد يتحقق من خلال الصداقة 
والغيرية كما يوصي السيكولوجيون الإيجابيون. لكن لو أن تعريفا لتحسين الأداء كان 
قد طرح بحيث يشمل التحكم في ظروف وزمن المرء؛ وصوتا يمارس نفوذا على صناعة 
القرار؛ وفهما لاستقلال الذات م يُختزل لمجرد سببية سيكولوجية أو عصبية: للا كان 
هذا التعريف محسوبا ببساطة. فمثل هذه الفكرة عن الإنجاز البشريء والتي يعبر 
فيها الفرد عن أفكاره بغير قصد, حيث التعاسة أساس للنقد والإصلاح لا العلاج: 
وحيث يبتلع النسيان مشاكل الجسم والعقل بدلا من استهدافها من خلال البحث 
الطبي المتعنت, تشير إلى صيغة سياسية مغايرة كلية. 

ثمة عدد من السيكولوجيين النقديين على مر السنين ممن سعوا إلى لفت الأنظار 
إلى هذا. من خلال التشديد على مدى التشابك بين المرض العقلي والحرمان من 
السلطة. إلى جانب عدد غزير من المشاريع والتجارب الللهمة التي تسعى إلى منح 
الناس الأمل جزثيا من خلال استعادة ما يقولونه عن حياتهم. هناك أيضا تجارة لا 
تعتمد على العلم السلوكي في الإدارة أو البيع. كل هذه البدائل المتفرقة هي جزء من 
بديل أوسع ربما يغدو فهمه جيدا وصفة أفضل لتحقيق السعادة. 


203 





حيوانات إشكالية 


أصبح مفهوما منذ زمن بعيد أن العمل 
في الهواء الطلق له بعض الفوائد الانفعالية 
والسيكولوجيةء وبخاصة حين يكون ذا طبيعة 
ميّالة إلى تحقيق ذلك. يمكن للبستنة أن تكون 
مفيدة في التخفيف من حدة الاكتئاب. وهناك 
دليل يطرح مسألة أن حضور أوراق النباتات 
يحسّن الحالة المزاجية لفرد ما بشكل مباشر. 
وكانت الهيئة البريطانية للإحصاءات القومية' 
حين كشفت عن بياناتها الرسمية الأولى بشأن 


ادر الرفاهية القومية. قد خلصت إلى أن أسعد 
«نمة احتمال مُقلق أن تكون النظرة . د إن اله . ا . هه 
السلوكية والطبية تحديدا للعقل سكان المملكة المتحدة هم من يعيشولن في 
هي ما يحتجزنا داخل أشكال السلبية الأطراف الجميلة البعيدة في أسكتلندا. فى 
القرونة بالاكتئاب والقلق في المقام ا ١‏ 
الأول» | حين كان أسعد العمال هم من كانوا يشرفون 


225 





صناعة الشعادة 
التشاركية لاستكشاف فوائد صروح العمل الديموقراطي ال معروفة على نحو آخر 
ب «التعاونيات» و6:176م0-0©. وقد أدهشه أن حشر العمال داخل إدارة 
الشركات - سواء كانت مؤسسات اجتماعية أو لا - كان أسلوبا واضحا لمساعدتهم 
على إعادة اكتشاف الإحساس بوجود هدف. وأنهم فاعلون في حيواتهم الخاصة. 
اذا إذن لا ندمج حركة المزارع العلاجية: التي كان يُنظر إليها عادة بوصفها خدمة 
تُقدم لمرضى الصحة العقلية, بالتعاونيات التي كانت تتيح نموذجا لتمكين البشر 
من التنظيم والإنتاج جماعيا؟ 

فعلياء تتغافل كل التحليلات العلمية للآثار السيكولوجية الناجمة عن قضاء 
الوقت مع النباتات تماما السبب وراء احتمال قيام الفرد بذلك. هكذا تصبح البستنة 
والحصاد محض علاجينء وتمثل العلاقة بين أوراق النباتات والحالة المزاجية باعتبارها 
علاقة بسيطة بين السبب والنتيجة. لكن روح «غروينغ ويل» تختلف كليا عن هذا 
الوضع؛ ذلك أن مبدأ تنظيمها يقوم على أن يتشارك المتطوعون الغاية ذاتهاء وهي 
إنتاج وبيع الخضراوات الطازجة. فا مزرعة مؤسسة بوصفها مجتمعا صناعيا مدبراء 
وهي من الأشكال القانونية المتيسرة لبناء تعاونيات داخل المملكة المتحدة. فأي 
شخص لديه اهتمام ب«غروينغ ويل»» وليكن زبونا أو متطوعا أو زائرا يرغب في 
معرفة المزيد عن الفلاحة: يلقى تشجيعا على أن يُصبح عضوا كي يمكنه آنئذ المشاركة 
في اتخاذ القرار. وتتوافر الفرصة للمتطوعين للانخراط في إدارة المشروع على أي 
مستوى يرغبون فيه من الأسبقية في القيادة. لا يتعلق هذا بمجرد العمل اليدوي. 
بل بالتعبير عن نظرة خاصة والاضطلاع بسلطة ما. 

لدى الوكالات التي مولت «غروينغ ويل» والأطباء الذين نصحوا المرضى بالتطوع 
فيها. نظرية واحدة بشأن ما يجري داخلها. لكن ألدريدج وزملاءه لديهم نظرية ٠‏ 
أخرى تختلف كليا. فوفقا للفئة الأولى يعاني المتطوعون مرضا عضويا ويتلقون شكلا 
من العلاج. أما بالنسبة إلى الفئة الأخيرة, فإن المتطوعين يعيدون اكتشاف كرامتهم 
ويتمرنون على اتخاذ القرار والمشاركة في عمل تجاري يلقى رواجا بالمنطقة الملحيطة. 
في النظرية الأولىء المتطوعون سلبيون» من دون أن يكون لديهم تفسير طبي مناسب 
لموقفهم. وفي النظرية الأخرىء المتطوعون ناشطون ويظفرون بفرص للتأثير في العام 
حولهم من خلال تفسيره والتباحث معه. ١‏ 


268 





حيوانات إشكالية 


ألا يمكن أن يكون كلا الرأيين صحيحا؟ ظاهريا ممكن. فبإمكان البشر تعهد 
فكرتين مختلفتين بشأن ما يجريء اعتمادا على نوعين مختلفين من الأدلة والمنهجية 
العلمية. لكن السؤال الأكثر جوهرية هو ما يعنيه العمل وفقا لصيخ مُعينة من 
التفسير السيكولوجي والعصبي, للمجتمع والسياسة أو قصص الحياة الشخصية. ثمة 
احتمال مُقلق أن تكون النظرة السلوكية والطبية تحديدا للعقل - مثل أن يكون أحد 
أعضاء أو أجهزة الجسم الداخلية يعاني في صمت - هي ما يحتجزنا داخل أشكال 
السلبية المقرونة بالاكتئاب والقلق في المقام الأول. إِذْ قد يغدو مجتمع مصمم 
لقياس وإدارة التقلبات باللذة والألم. كما تخيل بنتام. مكرسا لمزيد من حالات 
الانهيار العقلي أكثر منها في مجتمع مصمم لمساعدة البشر على الكلام والمشاركة. 


فهم التعاسة 

اذا يصبح المرء تعيساء وأي شيء ينبغي عليه فعله حيال ذلك؟ هذان هما 
السؤالان اللذان يشغلان الفلاسفة وعلماء النفس والسياسيين وعلماء الأعصاب 
والمديرين والاقتصاديين والنشطاء والأطباء على السواء. وترتكز الكيفية التي يشرع 
بها الواحد منهم في الإجابة عن هذين السؤالين بشكل كبير على نوعية النظريات 
والتأويلات التي يوظفها. فعالم الاجتماع سيقدم أنماطا مختلفة من الإجابات عما 
سيقدمه عالم أعصاب الذي سيقدم بدوره إجابات تختلف عن إجابات المحلل 
النفسي. ذلك أن مسألة الطريقة التي نفسر ونستجيب بها للتعاسة الإنسانية مسألة 
أخلاقية وسياسية في نهاية المطاف. تتعلق بالموضع الذي نختار صب انتقادنا عليه. 
والموضع الذي نتعامى عنهء وا موضع الذي نميل إلى توجيه العتب إليه. 

تعد رؤية بيرين ألدريدج التي قامت عليها روح «غروينغ ويل» وبنيانهاء 
رؤية مهمة. ذلك أن التعاطي مع العقل (أو الدماغ) باعتباره كيانا مستقلا غير 
مقترن بسياق وينهار من تلقاء نفسه. فيقتضي من الخبراء مراقبته وعلاجه. هو 
عرض للثقافة ذاتها التي تُنتج اليوم قدرا كبيرا من التعاسة. إن عدم التمكين هو 
جزء لا يتجزأ من الكيفية التي ينشأ بها الاكتئاب والإجهاد النفسي والقلق: وعلى 
الرغم من المساعي امثلى التي يبذلها مختصو علم النفس الإيجابي. فإن عدم 
التمكين يحدث نتيجة لمؤسسات واستراتيجيات اجتماعية وسياسية واقتصادية, 


209 





صناعة الشعادة 
وليس لأخطاء عصبية وسلوكية. إن إنكار ذلك يعني تعميق المشكلة التي يدعي 
علم السعادة أنه يمثل حلا لها. 

بخلاف الفروع المعرفية السلوكية والنفعية المختلفة التي تعرضنا لها في هذا 
الكتابء ثمة عدد من التقاليد البحثية التي تتشارك هذا التركيز على عدم التمكين. إذْ 
تُشدد تقاليد علم النفس المجتمعيء الذي نشأ في الولايات المتحذة إبان الستينيات, 
على أنه لا تمكن فهم الأفراد إلا داخل سياقاتهم الاجتماعية. وكان مختصو علم 
النفس السريري من بين المنتقدين الأشد وضوحا لإضفاء منحى طبي على الإحساس 
بالضيق» ودور شركات الأدوية في التشجيع على ذلك. وقد قدم أولئتك السيكولوجيون 
- من أمثال ديفيد سمايل لنهج:5 12:10 ومارك رابلاي 1م82 34216 في المملكة 
المتحدة - إلى جانب انتقاد الرأسمالية. تأويلات بديلة للأعراض النفسية. بناء على 
فهم سوسيولوجي وسياسي أكبر للتعاسة”. ويحاول علم الأوبئة الاجتماعي كما 
بمارسه كارلس مونتائر 8262)صنا84 وعاننوت في كندا أو ريتشارد ويلكنسون 8:50ط1112 
دوعص فلا10 في المملكة المتحدة. استيعاب الكيفية التي تتفاوت بها الاضطرابات 
العقلية عبر مجتمعات وطبقات اجتماعية مختلفة: وارتباط هذا التفاوت بالظروف 
الاقتصادية والاجتماعية المختلفة. 

لقد عثرت تلك المقاربات الأكثر سوسيولوجية في لحظات تاريخية مختلفة 
على طريقها إلى التفكير الرأسمالي. وكما أوضح الفصل الثالث. كانت ثمة فترة إبان 
الثلاثينيات والأربعينيات اقتضت فيها أبحاث السوق بعدا شبه ديموقراطيء. سعيا 
إلى استكشاف ماهية ما كان الجمهور يرغب فيه ويعتقده بشأن العالم. فأصبح 
علماء الاجتماع والإحصائيون ذوي دور فعال في الكيفية التي ممْثْل من خلالها 
اتجاهات الجمهور. وكما ناقش الفصل الرابع» فقد نجم عن التشديد الذي مارسته 
الإدارة على العمل الجماعي والصحة والحماس منذ الثلاثينيات حتى الآنء تحليل 
أكثر راديكالية من حين إلى آخر يبرز أهمية القوة والصوت الجمعيين داخل محل 
العمل باعتبارهما عاملين مساهمين في الإنتاجية والرفاهية. تشير هذه الإمكانية إلى 
نماذج تنظيم جديدة للغاية, وليس مجرد تقنيات حديثة للإدارة. 

عند كل نقطة في تاريخ قياس السعادة, بدء! من عصر التنوير حتى الآن» تُشرق 
الآمال في عالم اجتماعي وسياسي مختلف مع تحول التعاسة إلى أساس للتصدي 


200 





حيوانات إشكالية 


للوضع الراهن. إن استيعاب المتاعب والآلام التي يلقيها العمل والتدرج الهرمي 
والضغوط امالية واللامساواة على عاتق الرفاهية الإنسانية ما هو إلا خطوة أولى 
للتصدي لتلك الأشياء. لكن هذه الروح التحررية سرعان ما تنقلب إلى روح محافظة 
بمجرد أن تستخدم الأدلة ذاتها أساسا للحكم على سلوك وذهنية البشر, بدلا من 
هيكل السلطة. الآمال عالقة أكثر منها ممُحبطة. والانتقادات موجهة إلى الداخل. 
وليس هذا بالضرورة ما يجب أن تكون عليه الأمور. 

إن العين الناقدة بمجرد أن تنصب على المؤسسات وتبتعد عن انفعالات الأفراد 
وحالاتهم المزاجية, تبدأ الأمور في الظهور حقا بشكل مغاير. إذْ يرتبط معدل الإصابة 
بالمرض العقلي في الدول الثرية بشكل وثيق جدا بمستوى التفاوت الاقتصادي في 
ا مجتمع ككلء والولايات المتحدة على رأسها". وتؤدي طبيعة وجاهزية العمل دورا 
حاسما في التأثير في الرفاهية العقلية. يُشبه الدور الذي تؤديه الهياكل التنظيمية 
والممارسات الإداريةء حيث يعد اكتشاف أن البطالة تمارس تأثيرا سيكولوجيا سلبيا 
يغوق تأثير خسارة الأرباح من أهم النتائج في اقتصاد السعادة©. 

خلال ذلك؛ تكرر اكتشاف أن أنماط العملء حيث لا بمتلك الأفراد مهارة الاجتهاد 
سملعع و2 للنعل5 أو سلطة اتخاذ القرار إأء#مطسسدخ «مزوءء5, تؤذن بإفراز 
هرمون الكورتيزول في .الدم. وهو الذي يؤدي إلى تصلب الشرايين وزيادة فرص 
الإصابة بأمراض القلب©. فليس من المستغرب أن تكون سعادة الموظف أعلى في 
الشركات التي يملكها موظفونء حيث يكون اتخاذ القرار أكثر تشاركية والسلطةٌ أكثر 
توزيعا مما في المؤسسات العادية التي يملكها مساهمون'”. ويبين ديفيد ستاكلر 
5 10310 وسانجاي باسو 1اقة8 (52(8 في تحليلهما الواسع للكيفية التي 
تؤثر بها فترات الركود الاقتصادي في الصحة العامة: الأساليب الدقيقة التي أدت بها 
سياسات التقشف إلى انتكاس الصحة العقلية والبدنية» وإلى وفيات لا لزوم لها. 
كما يشيران في تحليلهما إلى بدائل يمكن من خلالها أن تتحول فترات الركود إلى فرصة 
لإجراء تحسينات على الصحة العامة. إن مسألة أي الطريقين نختار مسألة سياسية 
في نهاية الأمر. 

وفي حين يصب الاقتصاديون وأصحاب القرار السياسي تركيزهم على مسألة ما إذا 
كان لدى الفرد عمل أو لا ثمة دليل معقول يطرح مسألة أن هيكل وغاية المنظمة 


2031 





صناعة الشعادة 


أمران حاسمان بسبب ما لهما من آثار سيكولوجية وفيسيولوجية على الموظفين. 
فعلى سبيل المثالء يجد البشر العمل داخل المنظمات غير الربحية أكثر إرضاء منه 
داخل الشركات الخاصة. حيث يؤدي إلى مستويات أقل من الإجهاد النفسي”. 
وبذلك يعني النظر إلى العمل بوصفه مجرد مساهم في الإحساس بالرفاهية - كما 
يميل أصحاب القرار السياسي الاعتقاد الآنء من دون أن يضعوا في اعتبارهم الغرض 
من العمل - السقوط في مغالطة سلوكية تنظر إلى البشر على أنهم حيوانات مخبرية 
تحظى بسلوك لفظي أكثر تطورا بعض الشيء. 

يقترح البحث المتعلق بالإعلان والطموح المادي هو الآخر نقدا على الدرجة 
نفسها من الإقناع» حيث تفخص عدد من الدراسات التي بدأها عام النفس الأمريكي 
تيم كاسرء الكيفية التي ترتبط بها المادية بالسعادة. مكررة القصة ا مزعجة نفسها؛ 
إذ يكشف طلاب إدارة الأعمال المنضوون بشكل قوي تحت لواء القيم المادية 
(بمعنى قياس جدارتهم بامال) عن مستويات سعادة وتحقيق ذات أقل من نظرائهم 
الذين لا يعتنقون الأفكار ذاتها”". لقد اكتشف أن الأفراد الذين ينفقون نقودهم 
بطرق هّوّسية - إما بحرص شديد وإما بإسراف شديد - يعانون مستويات أقل من 
الرفاهية”". كما كشفت المادية والعزلة الاجتماعية عن أن كلا منهما يعزز الآخر: 
فأولئك الذين يحسون بالوحدة يسعون وراء السلع المادية بصورة أكثر قهرية. في 
حين يكون الأفراد من ذوي النزعة المادية أكثر عرضة للإحساس بالوحدة”". 

يؤدي الإعلان والتسويق دورا حاسما في تعزيز تلك الحلزونات السلبية, بل إن 
لديهم في الحقيقة (هم وذوي نعمتهم) مصلحة اقتصادية واضحة في فعل ذلك. فإذا 
ما استمر الاستهلاك والنزعة المادية على حالهما علة ومعلولا للثقافات الفردانية غير 
السعيدة, آنئذ تصبح الحلقة المفرغة حلقة مربحة لهؤلاء الذين يشملهم التسويق. 
إن الدور الدقيق للإعلان في توالد القيم المادية مختلف فيه, على الرغم من أن . 
البحث يشدد على مسألة أن كليهما نشأ إلى جانب الآخراة". 

لا شيء من الأبحاث التي أشرنا إليها هنا يثير الدهشة على نحو خاص. والكثير 
منها أثار نقاشا كبيرا في وسائل الإعلام الرئيسة. وجميعها ينتهي إلى مسألة كيف 
تُوزْع السلطة في مجتمع واقتصاد ما. إن الأفراد متى شعروا بأنهم صرعى قوى 
لا تأثير لهم فيها - سواء كانت الفطنة الإدارية, أو انعدام الأمن اماليء أو صور 


2032 





حيوانات إشكالية 


الكمال الجسماني. أو .مقاييس الأداء عديمة' الشفقة. أو تجارب منصات وسائل 
التواصل الاجتماعي المتواصلة. أو إملاءات معلمي الرفاهية - لن يجدوا صعوبة 
في تحقيق الرضا في حياتهم فقطء. بل سيصبحون أكثر عرضة للإصابة بانهيار أعنف. 
وكما كشف بحث مونتانرء فإن أولئك الذين يقبعون في قاع سلم الدخل هم الأكثر 
قابلية للعطب فيما يتعلق بهذ الشأن. ذلك أن محاولة الحفاظ على أسرة مستقرة 
في الوقت الذي لا يكون فيه الدخل منتظما ويغدو العمل متقلقلاء هي من بين أكثر 
ما يمكن للفرد عمله إجهادا للنفس. لا ينبغي السماح لأي سياسي بأن يعتلي منصة 
ويتكلم عن الصحة العقلية والإجهاد من دون أن يوضح موقفه أكثر فيما يتعلق 
بمسألة التداعي الاقتصادي بالنسبة إلى أكثر الناس عرضة له في ا مجتمع. 

إذا كنا نعرف أغلب هذاء فلماذا إذن لم يحقق هذا الخطاب النقدي انتصارا 
سياسيا؟ إذا كنا نرغب في العيش مزدهرين اجتماعيا وسيكولوجياء لا بصورة 
شديدة التنافسية والوحدة وامادية؛ فثمة برهان قوي من علم النفس السريري 
وعلم الأوبئة الاجتماعية والصحة المهنية وعلم الاجتماع وعلم النفس المجتمعي 
بشأن ما يعرقل هذه الإمكانية. تكمن ال مشكلة في أنه خلال التاريخ الطويل 
للتحليل العلمي للعلاقة بين المشاعر الذاتية والظروف الخارجيةء هناك دانما 
ميل إلى رؤية الأولى على أنها الأيسر في التغيير من الثانية. وكما يشجع كثيرون 
من مختصي علم النفس الإيجابي الناس الآن على القيام به بحماس شديد. فإنك 
في حال عجزت عن تغيير سبب همكء حاول وغيّر الطريقة التي تتفاعل وتشعر 
بها حياله. هكذا جرى تحييد النقد السياسي. 

لا يعني ذلك القول إن تغبير الهياكل الاجتماعية والاقتصادية أمر سهل. بل 
هي مسألة محبطة لا يمكن التنبؤ بنتائجها؛ ومخيبة للآمال بشكل كبير غالبا. لكن 
ما يصعب إنكاره على رغم ذلك هو أن تنفيذ هذا التغيير بأي طريقة مشروعة 
يصبح مستحيلا فعليا متى صارت المؤسسات والأفراد أنفسهم مشغولي البال بقياس 
ا مشاعر والخيارات الفردية والتلاعب بها. إن قدر العثور على حلول اجتماعية 
وسياسية للمشاكل التي تسبب البؤس. آنئذ لا بد أن تكون الخطوة الأولى هي 
الكف عن النظر إلى تلك المشكلات من ناحية سيكولوجية صرفة. وعلى رغم ذلك. ثم 
تنتصر الرؤى النفعية والسلوكية للفرد باعتباره قابلا للتنبؤ؛ ومطواعا؛ وسهل الانقياد 


2033 





صناعة الشعادة 

(مادامت اطراقبة الكافية موجودة) بسبب انهيار البدائل الجماعية. فلطاما تعرضت 
تلك الرؤى لضغوط نخبة معينة لغايات سياسية واقتصادية معينة» وهي تتعرض 
لضغط سياسي هائل في الوقت الراهن. 


مسارات علمية 

منذ الثمانينيات, و«عقود الدماغ» تتوائلى من دون انقطاع. إذ سبق أن أعلن 
جورج بوش الأب عقدٌ التسعينيات «عقدا للدماغ». وأطلقت المفوضية الأوروبية 
عقذها المناظرٌ في العام 1992. وبحلول العام 2013, أعلنت إدارة أوباما برنامجا 
جديدا بمتد عقدا كاملا للاستثمار في علم الأعصاب. لقد عاظمت تلك العقود من 
أهمية الاستثمار العام في أبحاث الدماغ لأعلى مستوى؛ حيث يتوقع أن تبلغ تكلفة 
مبادرة أوباما المعروفة ب 884177 ثلاثة مليارات دولار حتى تبلخ مجراها الطبيعي. 
في حين شهدت أبحاث المفوضية الأوروبية المعروفة ب 887 استثمار نحو ملياري 
يورو في مشاريع خاصة بعلم الأعصاب في الفترة بين العامين 2007 و2013. 

كان المجمع الصناعي العسكريء كما أطلق عليه آيزنهاور في العام 1961, 
هو المحرك الرئيس لعلوم الأعصاب في الولايات المتحدةء ويرى البنتاغون فرصا 
جديدة للتأثير في المقاتلين الخصوم وإنتاج جنود أمريكيين أكثر مرونة. ويضم عام 
الأعصاب بول زاكء الذي تركز أبحاثه على الأهمية الاجتماعية والاقتصادية لهرمون 
الأوكسيتوسين 5لء0:(0), البنتاغون بين زبائن الاستشارات المختلفين. في تلك 
الحالة يكمن الاهتمام في كيفية دفع الجنود الأمريكيين إلى التصرف بطرق تجعل 
فوزهم بثقة المدنيين في الدول التي اجتاحوها أكثر ترجيحاء حيث يقدم زاك النصح 
بشأن الأسس العصبية للانخراط الأخلاقي على الأرض. 

لا تثير مسألة استثمار الصناعة مبالغ طائلة في أبحاث الدماغ دهشة تذكر. ذلك 
أن شركات الأدوية لديها بعض الحوافز شديدة الوضوح التي تحثها على دفع حدود 
العلم في هذه ال منطقة, في حين يحتفظ المسوقون العصبيون بالأمل في أن يجيء 
اليوم الذي يشهدون فيه تحديد زر الشراء بشكل نهائي. آنئذ تصبح القضية هي 
اكتشاف الكيفية التي يمكن بها كبس هذا الزر من خلال الإعلان. إن مضامين علم 
الأعصاب بالنسبة إلى أي شخص يسعى إلى التأثير والسيطرة على البشر - سواء كانوا 


2034 





حيوانات إشكالية 


موظفين أو مجرمين أو جنودا أو أسرا تعاني اضطرابات أو مدمنين وغيرهم - أمر 
بالغ الوضوح. حتى لو كانت مبالغا فيها أحيانا. حيث تحظى التفسيرات السببية 
الفظة لسبب اتخاذ فرد ما القرار «س»», كنقيض للقرار «ص». وكيفية تبديل هذا في 
المستقبل» بسوق رائجة بين أصحاب النفوذ. 

ريما يرجع التركيز السياسي على الدماغ باعتباره عضوا فريدا إلى أوائل 
التسعينيات فقطء لكنه يتماشى مع تقاليد أطول أمدا أفرزت تحالفات بين باحثي 
الجامعات والحكومات والشركات منذ أواخر القرن التاسع عشر. كما أنه من 
المعروف أن قدرا كبيرا من الاستثمار البحثي في العلم السلوي وأبحاث اتخاذ 
القرار إبان الخمسينيات كانت تقوده الحاجات العسكرية الملحة وقت الحرب 
الباردة”*". وتعتبر جامعة ميشيغان التي كانت مركزا رئيسا لهذا البحث منذ 
الحرب العامية الثانيةء وتشغل موقعا مركزيا في تطور علم الاقتصاد السلوي, 
متلقيا منتظما لعقود الأبحاث المتعلقة بالدفاع, وذلك من أجل فهم أفضل للعمل 
الجماعي واتخاذ القرار في المواقف القتالية. 

يحظى علم العدوى الاجتماعية, الذي أسهمت فيه تجربة فيسبوك في العام 
4 للتلاعب بالحالة المزاجية» هو الآخر بعلاقات مع مصالح الولايات المتحدة 
الدفاعية. إذ أطلق البنتاغون مبادرة منيرفا البحثية ©12)17الهآ طعتهعوع2 وبجعم 1/1 
في العام 2008 لجمع اللمعرفة العلمية الاجتماعية بشأن القضايا والمناطق ذات 
الأهمية الاستراتيجية للولايات المتحدة”*". وقد شملت هذه المبادرة عقدا مع جامعة 
كورنيل لدراسة طريقة انتشار الاضطراب المدني كعدوى اجتماعية. كان أحد متلقي 
التمويل من مبادرة منيرفا في جامعة كورنيل هو أستاذ الاتصالات جيفري هانكوك 
عكمعصة11 برع ء[, الذي كان أيضا أحد الباحثين ا مشاركين في الدراسة التي أجراها 
فيسبوك. ليس هذا تلميحا ل «ذنب المشاركة» بل هو ببساطة إشارة إلى أن بعض 
أشكال المعرفة مفيدة لأنماط معينة من الوكالات ذات المصالح الاستراتيجية الخاصة. 

لقد أصبحت السلوكية الشعبية «موتهتاه:جهطء8 م20 باقتراحها الكشف 
عن أسرار التأثير الاجتماعي. منطقة رائجة بالنشر غير الروائي صنعت من بعض 
علماء النفس مشاهير يافعين مثل دان أريلي وروبرت سيالديني, ومن الاقتصاديين 
السلوكيين أمثال ريتشارد ثالر 15816 4مقطعذع. تتراوح أجور إلقاء المحاضرات 


235 





صناعة الشعادة 
بالنسبة إلى أولئك الأكاديميين بين خمسين ألف دولار وخمسة وسبعين ألفا يومياء 
ما يمنحنا مؤشرا إلى أنماط الشبكات التي يجري تلقيمها بمعارفهم”". حيث تصب 
دائرة الخبرة السلوكية مباشرة في مصلحة صناعتي التسويق والإعلان كما كانت 
الحال دائما منذ عودة الزائرين الأمريكيين لمختبر فيلهلم فونت إلى الوطن في نهاية 
القرن التاسع عشر. 

فئة قليلة فقط من تلك النماذج هي المشغولة بالسعادة أو الرفاهية في حد 
ذواتيهماء على رغم زعم علماء الأعصاب اليوم أنهم «يرون» الانفعالات والوجدان 
والاكتئاب والسعادة ظواهر مجسدة وسلوكية. وفيما يتصل بذلكء. تفرغ السعادة 
أخيرا من بعدها الذاتي على نحو حاسم, لتتحول إلى حدث موضوعي سلوي يتحرى 
وجوده الخبراء. وسواء كان الاهتمام بنتاميا بوضوح أو لاء أي تعظيم انفعال إيجابي 
ما داخل الفرد. فإن ما تشترك فيه كل تلك التقاليد هو تصميم عام على علم 
سيكولوجي تدرس فيه أنشطة ومشاعر البشر من أجل تحسين فهم الكيفية التي قد 
يمكن بها التنبؤ بتصرفاتهم والتحكم فيها. 

لقد غدث التصورات النفعية والبيولوجية والسلوكية للحياة الإنسانية همي 
التصورات الوجيهة الوحيدة تقريبا اليوم في الغرب. لكن ذلك يرجع إلى تكريس 
أعظم موارد القوة والثروة في تاريخ الإنسان لضمان تلك التصورات التي قد 
نصفها بالأيديولوجيا. لكن حصرها داخل هذا التوصيف يعني المغامرة بتجاهل 
الطرق التي يجري بها التنظير وتطوير ودعم وتطبيق رؤية ما للحرية الفردية. 
بفضل أجهزة تقنية ومؤسسية. بطبيعة الحال لا يحدث ذلك بطريقة شبحية 
بفضل السوق أو الرأسمالية أو النيوليبرالية» بل تتطلب كثيرا من العمل والقوة 
وامال ي تنجح كما هي الحال. 

إن أعظم نجاحات علم السعادة والعلوم السلوكية تتحقق حين يعمد الأفراد 
إلى تأويل وسرد حيواتهم طبقا لتلك الخبرات. ذلك أننا بوصفنا أشخاصا عاديين نعزو 
إخفاقاتنا وحزننا إلى أدمغتنا أو عقولنا المضطربة. كما أننا ندرب أنفسنا من خلال 
التعاطي مع شخصيات تعاني انفصالا دائماء على أن نكون أكثر تشككا في أفكارناء أو 
أكثر تسامحا مع مشاعرناء بتشجيع من العلاج المعرفي السلوي. سيربك ذلك بطريقة 
ما ا مؤرخين الثقافيين لعقد مقبلء فنحن ننخرط في رصد ذاتي كمي من تلقاء أنفسناء 


206 





حيوانات إشكالية 


ونتطوع بتقديم معلومات عن سلوكياتنا وعاداتنا الغذائية وحالاتنا المزاجية لقواعد 
البيانات, ربما بدافع اليأس لا لشيء إلا لكي نصبح جزءا من شيء أكبر من ذواتنا. حين 
ننفصم بهذه الطريقة, يصبح وجود علاقة ما - ربما صداقة؟ - مع النفس أمرا ممكناء 
يمكنها متى جرى تناولها حرفيا أن تسفر عن وحدة و/ أو نرجسية. 


إغراءات مبهمة 

ثُرى كيف يبدو متنفس ما من هذا العلم السيكولوجي المخبري؟ وفي حال صارت 
السياسة والتنظيم نفسيين بشكل مفرطء ويختزلان كل مشكلة اجتماعية واقتصادية 
في أحد الحوافز أو السلوك أو السعادة أو الدماغ, فإلامٌ نحتاج كي ننزع ذلك المسلك 
النفسي عنهم؟ إحدى الإجابات هي إغواء دائم» لكن علينا أن نكون منتبهين. ذلك أن 
هذا الإغواء يهدف إلى تحويل علم العقل (أو الدماغ) ا موضوعي العقلاني الصارم إلى 
نقيضه, أي خوض ذانتي رومانسي في متاهات الوعي والحرية والإحساس. 

يتزايد إغراء الصوفية بدرجات أكبر حين يقابل بعالم اجتماعي مختزل في قوى 
السبب والنتيجة الطبيعية شبه الآلية. ففي مقابل الموضوعية الراديكالية لعلم 
الأعصاب والسلوكية اللذين يزعمان جعل كل المشاعر الداخلية مرئية للعام 
الخارجي» مة قدر مناسب من الجاذبية في الذاتية المفرطة التي تدعي أن ما 
يهم فعلا يخص الفرد المعني تماما. لكن المشكلة تكمن في أن هاتين الفلسفتين 
منسجمتان إحداهما مع الأخرى كلياء وأنه ما من خلاف بينهماء فضلا عن وجود 
صراع. وهذه حالة وصفها غوستاف فخنر ب «التوازي السيكوفيزياني». 

للتدليل على ذلك انظر كيف ينزلق الترويج للاستغراق العقلي (ونسخ كثيرة من 
علم النفس الإيجابي) بسهولة بين تقديم حقائق علمية بشأن ما تفعله أدمغتنا أو 
عقولنا وتعليمات شبه بوذية لترتيب وخلق وملاحظة الأفكار في أثناء تدفقها داخل 
الوعي وخارجه. إن قيود العلوم السلوكية والعصبية تتمثل في أنهاء في حين تزعم 
تجاهل الجوانب الذاتية للحرية الإنسانية. تتحدث لغة لا يفهمها في المقام الأول 
سوى خبراء الباحثين داخل الجامعات والحكومات والشركاتء الذين يتركون فجوة 
لمزيد من الخطاب الذاتي والسلبي بتركيزهم على أيما شيء يمكن جعله موضوعيا. 
وصوفية العصر الجديد تسد هذه الفجوة. 


237 





صناعة التنعادة 


يعمل كثيرون من مؤيدي السعادة, مثل ريتشارد لايارد, على الجبهتين في الوقت 
ذاته. إذ يحللون الإحصائيات الرسمية معتمدين على دروس علم الأعصاب, وينقبون 
عن البيانات ويتعقبون السلوكيات لإنتاج رؤيتهم الموضوعية الخاصة بشأن ما 
يجعل الناس سعداء. ثم يلحفون في طلب ديانات دنيوية جديدة وممارسات تأملية 
واستغراق عقليء من شأنها سد حاجة السردية التي يستطيع من خلالها غير العاملين 
بالحقل العلمي التحكم في رفاهيتهم. والنتيجة هي أن القوي والمغلوب على أمره 
يتحدثان لغتين مختلفتينء وتعجز لغة الأخير عن التشويش على لغة الأول. لا يمكن 
شجب أو توجيه نقد عام للقوي تحت تلك الظروف. 
تصبح لغة ونظريات النخب الخبيرة أكثر تمايزا وانفصالا عن لغة ونظريات 
الجمهور. وتتباعد الكيفية التي «يروون» بها الحياة الإنسانية والكيفية التي «نحيا 
بها». ما يقوض إمكانية التداول السياسي الشامل. فمثلاء يشدد علم النفس الإيجابي 
على ضرورة أن نكف عن مقارنة بعضنا ببعض والتركيز على الإحساس بمزيد من 
الامتنان والتعاطف. لكن أليست المقارنة تحديدا هي الداعي لوجود مقياس 
السعادة؟ أليس إعطاء شخص ما «سبعة» وآخر «ستة» يهدف إلى جعل اختلافاتهم 
قابلة للمقارنة؟ إن الطابع الأخلاقي الذي يُقدْم عن طريق العلاج غالبا ما يتعرض 
للإهانة كليا على يد منطق العلم والتقانات التي تدعمه. 
تستفحل هذه المشكلة في عصر التتبع الرقمي واسع الانتشار والبيانات العملاقة 
الناتجة عنه. يمعن الباحث في وسائط الإعلام النقدية؛ مارك آندريجيفيك 1:ة3/1 
عالاعزء ل صق: في كتابه «التخمة» انااعم؛م1آ, النظر في الكيفية التي تقتضي بها 
ظاهرة المعلومات المفرطة طرقا جديدة للتنقل بين المعارف وتيسرها. لكن تلك 
الطرق؛ كما يكشف الباحث. لديها أشكال متطرفة من اللامساواة تشكل جزهءا لا 
يتجزأ منها. فمنها من يحوز قوة التحليل الخوارزمي والتنقيب عن البيانات من أجل 
الإبحار في عام يفيض بالبيانات التي تنتظر الدراسة بشكل فردي, وهي تضم وكالات 
أبحاث السوق ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي وخدمات الأمن. لكن بالنسبة. 
. إلى الباقين مناء أصبح النبض والانفعال هو الطريقة التي نوجه بها ونبسط قرارتنا. 
بالتالي فإن أهمية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي 20/11 والتحليل العاطفي 
في العصر الرقمي تكمن في أن الأدوات التي تصور وتقيس وتقنن مشاعرنا تغدو 


2038 





حيوانات إشكالية 


ا ممر الرئيس بين خطاب خبير مضمر يضم الرياضيات والحقائق, وخطاب شخص 
عادي يتحدث عن الحالة المزاجية والاعتقاد الصوفي والمشاعر. «نحن» ببساطة 
نتحسس ما حولناء في حين يضطلعون «هم» بالمراقبة وتحليل النتائج حسابيا. ثمة 
لغتان منفصلتان تعملان في الوقت ذاته. 

تدور ديستوبيا(* البنتامية الأخيرة. كما تعرضنا لها في الفصل السابعء حول عام 
اجتماعي صار موضوعيا تماما لدرجة التغلب على الفارق بين الموضوعي والذاتي. 
سيعرف العام متى استوعبّت السعادة كليا؛ أين ومتى تحدثء. بصرف النظر عن 
الشخص الذي يفترض أن يشعر بها. كما ستستبعد الحاجة إلى التعلم من السلوك 
اللفظي للشخص موضع الدراسة بشكل نهائي من خلال أشكال رفيعة من قراءة 
العقل. وستتواصل وجوهنا وعيوننا وحركات أجسادنا وأدمغتنا مع لذاتنا وآلامنا 
نيابة عناء لتحرر بذلك أصحاب القرار من «طغيان الأصوات». ربما يكون ذلك 
مبالغة في مجتمع سياسي ملائم» لكنها تستعرض مثالا منعشا للكيفية التي تتطور 
بها تقاليد محددة لعلم سيكولوجي وسياسي. ربما تتيح الصوفية عونا فلسفيا خاصا 
في مجتمع كهذاء بل طمأنينة سياسية أخيرة أيضا. 


أعرف ما شعورك 

تكلف رؤية دماغ شخص آخر «يبرق» مبالغ طائلة؛ إذ تبلغ كلفة مختبر حديث 
للتصوير بالرنين ا مغناطيسي الوظيفي مليون دولار, إلى جانب تكاليف تشغيل سنوية 
تقدر بما يتراوح بين مائة ألف وثلائمائة ألف دولار. لكن الاستبصارات التي تقدمها مثل 
تلك التقانات بشأن المرض العقلي وخلل وإصابات الدماغ هائلة. وبالتدريج تترجم لغتنا 
اليومية بشأن الأمزجة والخيارات والأذواق إلى مصطلحات تتوافق مع أجزاء مختلفة 
بأدمغتنا. حيث أصبح في مستطاع المسوقين العصبيين الآن تحديد أن إعلانا بعينه 
يسبب نشاطا في جزء ما داخل الدماغ, في حين لا يسبب إعلان مغاير ذلك النشاط. 
يُعتقد أن لذلك آثارا تجارية مهمة. لكن لأي مدى يمد ثنا الكثير من التقدم التقني يد 
العون في مشكلة الحياة الاجتماعية الأكثر جوهرية: والمتعلقة بفهم الآخرين؟ 


(*) ديستوبيا 12جزهغ1098: أي المدينة الفاسدةء وهي تقابل مصطلح «يوتوبيا» هذمه]0] المعروف. [اللحرر]. 


209 





صناعة الشعادة 

حين كتب بنتام أن: «الطبيعة وضعت البشر تحت سيطرة سيدين مهيمنين» 
الألم واللذة». وأعلن أن هذين الكيانين ربما كانا قابلين للقياسء كان يؤكد على 
مقاربة فلسفية معينة لا تختلف فيها مسائل السيكولوجيا بدرجة كبيرة عن 
مسائل العلوم الطبيعية. في الواقع. قد تصير السيكولوجيا (والسياسة) علمية 
حقا متى ارتكزت على أشياء «طبيعية» و«موضوعية» كما في البيولوجيا 
والكيمياء. وعلى المنوال ذاته. ليس لدى البشر ما يميزهم عن الحيوانات الأخرى 
إلا سماتهم البيولوجية الخاصة. فكل الحيوانات تعاني» وكذلك البشر. إن كثيرا من 
الشخصيات التي ألقي الضوء عليها في سياق هذا الكتاب تتقاسم هذا التحامل 
الفلسفي بطرق عديدة. وقد تشكلت مفاهيمنا وفق ذلك؛ إذ تنشأ أفكارنا 
عن السلوك والإجهاد النفسي والعجز المكتسب 16552©55م1161 1.6820 من 
التجارب على الحيوانات باستخدام الفثران والحمام والكلاب. 

لكن ماذا لو أن هذه الفلسفة ترتكز على أساس خطأ؟ وماذا لو كنا لانزال 
نرتكب الخطأ ذاته. بغض النظر عن مدى ما وصل إليه تقدم أجهزتنا في مسح 
الدماغ وقياس العقل وقراءة الوجه؟ في الواقع. ماذا لو كانت قابليتنا لارتكاب 
هذا الخطأ تزداد كلما غدت تقاناتنا أكثر تطورا؟ بالنسبة إلى لودفيغ فيتغينشتاين 
صاء أقصعع 1111 عاستلناك. وأولئك الذين تبعوه. فإن عبارة مثل عبارة بنتام بشأن 
«السيدين المهيمنين» ترتكز على سوء فهم جوهري لطبيعة اللغة السيكولوجية, 
ولي نعيد اكتشاف مفهوم مغاير للسياسة ربما علينا أن نشق أولا طريقا مختلفا 
لفهم مشاعر وسلوكيات الآخرين. 

كان فيتغينشتاين يقول إن استيعاب ما تعنيه كلمة ما يعني استيعاب كيف 
تستخدم, بمعنى أن المسألة المتعلقة بفهم الآخرين هي في المقام الأول وقبل كل 
شيء مسألة اجتماعية. وبالقدر نفسه. فإن استيعاب ما يفعله شخص آخر يعني 
استيعاب ما تعنيه تصرفاته بالنسبة إليه وبالنسبة إلى المحيطين به. فإذا تساءلت: 
«بماذا يشعر ذلك الشخص؟» في مستطاعي الرد إما من خلال تأويل سلوكه, وإما 
بسؤاله مباشرة. فالإجابة ليست داخل رأسه أو جسمه ي تكتشفء لكنها تكمن في 
الطريقة التي نتعامل بها معا. فلا شيء بيني وبين التأويل الصائب بشكل عام فيما 
يخص مشاعر الآخرينء مادام حديثي يُنظر إليه باعتباره تأويلا لأفعالهم وتواصلهم. 


210 





حيوانات إشكانية 


أو ما يعنيه سلوكهم..لن أقف على مشاعرهم باعتبارها حقيقة: بالطريقة نفسها 
التي أحدد بها درجة حرارة أجسامهم. إذ لا تعني مسألة صدق المفحوص أنه 
سيفصح لي عن كل ما يدور برأسه. 

يشير ذلك إلى الجودة غير العادية للغة السيكولوجية. ولا يكف علماء 
الأعصاب والسلوكيون عن بلبلة أنفسهم بشأن ذلك تحديدا”". فاستيعاب 
مصطلح سيكولوجي مثل «السعادة» أو «المزاج» أو «الدافعية» يعني فهم كيف 
يتجلى في الآخرين (كما في السلوك على سبيل المثال) وكيف يطرأ على النفس 
(كما في التجربة أو الخبرة). أعرف ما تعنيه السعادة؛ لأنني أعرف كيف أصفها 
في حيوات الآخرين وألاحظها في حياتي. لكن هذا نمط استثنائي من اللغة؛ إذ لو 
تصور واحد يوما أن السعادة تشير إلى شيء موضوعيء سواء بداخلك أو بداخلي» 
آنئذ أكون قد أخطأت فهم الكلمة. 

كان فيتغينشتاين يقول إن الخصائص السيكولوجية هي خصائص للحيوان 
بصفة عامة. إذ من غير المعقول أن أقول إن: «ركبتي تريد الخروج للتنزه»؛ لأن 
الإنمان وحده من يسعه أن يريد. لكن بسبب غطرسة السيكولوجيا العلمية وعلم 
الأعصاب. صار من المألوف أن نقول على سبيل المثال إن: عقلك يريد منك أن تشتري 
هذا امنتج: أو إن: دماغي لا يتوقف عن النسيان. حين نفعل ذلك ننسى أن الإرادة 
والنسيان هما تصرفان لا يمكن فهمهما إلا على أساس تأويل بشري ضمن علاقات 
اجتماعية؛ ولهما نوايا وأغراض. تسعى السلوكية إلى استبعاد كل ذلكء لكنها في تلك 
الأثناء تنتهك اللغة التي نستعملها لفهم الآخرين بدرجة كبيرة. 

السيكولوجيا مبتلاة بالخطأ نفسه. مرة تلو الأخرى. وهو نمذجتها وفق 
الفيسيولوجيا أو البيولوجياء إما بقوة المجاز أو عبر مزيد من الاختزالية الحرفية. 
بالطبع, هذه المحاولة لاختزال السيكولوجيا فيما هو جسماني أو على الأقل جعلها ' 
ترتكز على مجازات ميكانيكية أو بيولوجية. هي واحدة من إستراتيجيات القوة 
والسيطرة الرئيسة التي أتاحها باحثون مختلفون جرى التعرض لهم في سياق هذا 
الكتاب. بالنسبة إلى جيفونز. كان أفضل فهم للعقل هو استيعابه على أنه ميزان 
آلي؛ وبالنسبة إلى واطسونء لم يكن سوى سلوك قابل للملاحظة؟ وبالنسبة إلى 
سيلي. فيمكن استكشافه داخل الجسم؛ وبالنسبة إلى مورينوء فيتجلى بالشبكات 


201 





صناعة الشعادة 
الاجتماعية القابلة للقياس؛ أما المسوقون الآن فيفضلون نسبة قراراتنا وحالاتنا 
المزاجية إلى أدمغتناء وهلم جرا. 

وعلى رغم ذلك لسنا في حاجة (بل ولا ينبغي لنا) العودة إلى ثنائية فخنر أو 
فونت. ذلك أن التشديد على الطبيعة الذاتية المتسامية غير الملموسة للعقلء في 
مقابل الجسم الماديء يعني الاستمرار في إساءة تفسير الثنائية نفسهاء كالقول بأن 
تعاليم الاستغراق العقلي نصفها من علم الأعصاب والنصف الآخر من البوذية. إن 
العودة إلى رؤية للعام العقلي بوصفه عالما خاصا ومستترا بشكل كامل بالنسبة إلى 
العام الخارجي تعني البقاء حبيسي الحالة الراهنة حيث لا نكف عن الطرح على . 
أنفسنا أسئلة عصابية وبارانوية مثل: «ترى بم أشعر حقا؟» أو: «أتساءل إن كان 
يشعر بالسعادة حقا». ففي هذه المنطقة الفلسفية ال مضطربة» يستطيع صاحب 
جهاز فحص الدماغ أن يعد بحل كل المسائل الأخلاقية والسياسية إلى الأبر9", 

يبدو الخيار بين بنتام وفيتغينشتاين في جوهره مسألة تتعلق بمعنى أن 
نكون آدميين. فقد طرح بنتام الظرف الإنساني باعتباره ألا جسمانيا مكتوما يمكن 
الشفاء منه بشكل محترف من خلال إجراءات مصممة بعناية. هذه هي أخلاقية 
التعاطف التي تظهر في مجتمع المراقبة العلمية. وهي أيضا تنظر إلى الفصل بين 
البشر والحيوانات باعتباره أمرا عديم الأهمية فلسفيا. أما بالنسبة إلى فيتغينشتاين. 
فعلى النقيض؛ إذ لا شيء يسبق اللغة. ذلك أن.,البشر حيوانات تتكلم, ولغتهم هي 
اللغة التي يفهمها بشر آخرون. فتخسر اللذة والألم موقعيهما المميزينء ولا بمكن 
التعاطي معهما بوصفهما من الحقائق العلمية. «لقد تعلمت مفهوم الأم حين 
تعلمت اللغة». لكن من غير المجدي البحث عن واقع للوعي خارج الكلمات التي 
نعبر بها عن أنفسنا”". وفي حال كان البشر مؤهلين للتعبير عن أنفسهم. تختفي 
فجأة الحاجة الدائمة إلى التكهن بمشاعرهم أو محاولة قياسها. كذلكء ربماء تختفي 
الحاجة إلى تقانات المراقبة السيكوسوماتية واسعة الانتشار. 


هل من وسيلة أخرى لفهم البشر؟ 
تُعد السيكولوجيا والعلوم الاجتماعية ممكنة بشكل مثالي وفقا للشروط 
التي وصفها فيتغينشتاين؛ وفي الواقع تلك الشروط أكثر وضوحا. فالمساعي 


242 





حيوانات إشكالية 


ا منهجية لاستيعاب الآخرين من خلال سلوكهم وحديثهم جديرة بالاهتمام, لكنها 
لا تختلف كثيرا عن أشكال الفهم التي نمارسها بعضنا مع بعض في الحياة اليومية. 
ووفقا ا يرى السيكولوجي الاجتماعي روم هاري 12:6 مه80, فإننا جميعا 
نواجه المشكلة العرضية المتعلقة بعدم التأكد مما يعنيه الآخرون أو يعتزمونه 
لكن لدينا أساليب للتغلب عليها. ويواصل: «إن الحل الممكن الوحيد هو استغلال 
فهمنا لأنفسنا باعتباره أساسا لفهم الآخرينء وفهمنا للآخرين من نوعنا من أجل 
مزيد من الفهم لأنفسنا»!"”. 
واحدة من نتائج هذاء حين نصل إلى امتلاك المعرفة السيكولوجية, هي اضطرارنا 
إلى أخذ ما يقوله الآخرون بمزيد من الجدية. ليس ذلك فقطهء بل إن علينا أن نفترض 
أنهم في الأغلب يقصدون ما قالوه ما لم نتمكن من تحديد سبب ما دفعهم إلى 
الكذب. فحيث تسعى السلوكية داما إلى تفادي «إفادات» الناس بشأن مشاعرهم 
خلال بحثها عن واقع انفعالي مضمر. تشدد سيكولوجيا اجتماعية تأويلية على 
صعوبة الفصل بين الشعور والكلام نهائيا. إن جزءا مما يعنيه فهم مشاعر الآخر 
يتعلق بالإنصات واستيعاب ما يقصدونه حين يستخدمون كلمة «شعور». 
ربما كان لتقنيات مثل الدراسات المسحية دور قيْم تؤديه في تعزيز فهم مشترك 
عبر مجتمعات ضخمة ومتنوعة. لكن من جديد. ثمة سوء فهم مفرط بشأن ما 
يحدث حين تُجرى دراسة مسحية؛ ذلك أن الأخيرة لا يمكن أبدا أن تكون أدوات تمثل 
مجموعة ما من الحقائق الموضوعية شبه الطبيعية. بل هي طرق مفيدة ومشوقة 
للارتباط باليشر وسبرهم بحثا عن إجابات. ووفقا لما قاله السيكولوجي النقدي جون 
كرومبي #إطدده0 قطمرز فيما يخص أبحاث السعادة المسحية: 
لا تمارس السعادة ضغطا محتوما يجعل كل المشاركين من البشر يختارون 
أحد مربعات الاختيار دون سواه على مقياس ما. فلا وجود للعلاقة شبه 
القانونية بين السعادة والاستجابة لاستبيان ماء كما هي الحال لنقلء بين 
حجم كمية من الزئبق ودرجة حرارتها!'". 
لا يعني ذلك أن أبحاث السعادة المسحية لا تفي بشيء. لكن ما تفي به لا يمكن 
فصله عن التفاعل الاجتماعي بين الفاحص والمفحوص. وفكرة اكتشاف ما هو أكثر 
موضوعية من هذاء من خلال تجريد ا مستجيب من وعيه الذاتي (على سبيل المثال» 


203 





صناعة الشعادة 


تحليل العواطف من خلال تويتر بوصفه بديلا) ما هي إلا وهم. فهو ينطوي أيضا 
على أشكال من التحايل والتلاعب التي تُحدث شقة بين الباحث وكل من سواه. 
تتمثل طريقة أخرى لاستيعاب هذا النقاش في أن السيكولوجيا كما هو مفهوم 
تماماء عبارة عن باب نمر من خلاله إلى الحوار السياسيء وهو ما يناقض التقاليد 
البنتامية والسلوكية التي وردت في هذا الكتاب التي تنظر إلى علم النفس بوصفه 
خطوة إلى فيسيولوجيا و/ أو علم اقتصاد يهدف تحديدا إلى غلق الباب أمام 
السياسة. وما مم يقع خطأ ما؛ فإن أسئلة السيكولوجيا الجوهرية تظل بسيطة نسبيا: 
ماذا يفعل ذلك الشخص؟ وبماذا يشعر هذا الشخص الآن؟ الإجابات عن مثل تلك 
الأسئلة غير إشكالية نسبيا في الأغلب, والمنهجية الأولى والأهم للإجابة عنها منهجية 
نستخدمها جميعا كل يوم: امض فاسألهم! 
لا يثير عدم اتخاذ النخب الإدار ية هذه المنهجية بمزيد من الجدية أي دهشة؛ 
إذ تقتضي عمليات تشاورء وتعترف للبشر بحقهم المشروع في تأويل وانتقاد ظروفهم 
الخاصة. كما تقتضي أيضا مهارات الإصغاء التي صارت مطموسة في مجتمعات حصنت 
القدرة على امراقبة والتصور. إن الإدارة والحكومة تغدوان أكثر أمنا منها مع فكرة 
أن الأدمغة «تبرق» أو أن قابلية التفكير ل «الملاحظة لا تقل عن البيسبول», عنها مع 
احتمال تعبير الناس عمذا عن انفعالاتهم وآرائهم. لأسباب عديدة, يبدو جعل عقولنا 
مرئية أسلم من جعلها مسموعة. وستحتاج بنى.تنظيمية بأكملها إلى التغيير في حال 
جرى التخلي عن الرؤية السلوكية لعقل صامت مؤتمت لمصلحة عقل ذي ناطق. 
ريما تكون القدرة على الإصغاء داخل مجتمع منظم بناء على القياس 
السيكولوجي الموضوعي قدرة معادية لما هو سائد. فثمة ما هو متطرف بشأن منح 
الحظوة للقوة الحسية للأذن في نظام سياسي قائم على القوة الحسية للعين. يقول 
عاطم النفس السريري ريتشارد بنتال 1لهم»8 0مقطء81 إنه حتى الأنواع الخطيرة من 
المرض العقلي التي تعالج في الغرب اليوم باستخدام العقاقير الطبية» يمكن التعافي 
منها من خلال الارتباط بالمريض وتاريخه بحذر وصبر. ويقترح: 
إن قَدّر لخدمات الطب النفسي أن تصبح أكثر علاجية حقاء وإن قُدرت 
لها مساعدة الناس بدلا من مجرد «إدارة» صعوباتهم. فسيكون من 
الحتمي إعادة اكتشاف فن الاتصال بالمرضى بدفء ولطف وتعاطفى22, 


2044 





حيوانات إشكالية 


لن «يطببهم» الإصغاء ولا الكلام؛ لأنهما ليسا علاجين في المقام الأول. لكن وراء 
أعراض الذهان والفصام قصصا وجروحا عاطفية لن يكتشفها إلا منصت جيد. 

إن إعادة اكتشاف الإصغاء يشكل أولوية تتغلغل في مجالات العلم الاجتماعي 
الأخرى. فعا الاجتماع ليس باك 82 و6.آ يقول: «إن الإصغاء للعالم ليس ملكة آلية, 
بل مهارة تحتاج إلى التدريب», لكن هذه الملكة تضل في مجتمع «إمبريقية ذاهلة 
متطفلة» يضم ما لا يحصى من البيانات والفضائح والحقائق والأرقام”". إن معرفة 
الآخرين تعني الارتباط بقصصهم وكيف يحكونها. في الماضيء اقترحت انتقادات 
الأيديولوجيا فكرة أن أغلب البشر يخضعون ل «وعي زائف»., حيث يجهلون ماهية 
مصالحهم الحقيقية. ثمة مفارقة ما في عصر الترغيب وتجارب فيسبوك السرية. ربما 
تصبح الآن أكثر راديكالية في تسليط الضوء بدقة على الأساليب التي يعرف بها 
الناس العاديون حقيقة ما يفعلونه. ويفهمون بها حيواتهم: ويعرفون بها مصالحهم 
بوضوح. لأجل ذلك يحتاج الباحثون إلى تعلم بعض التواضع. 

بين كل هذاء تعد قدرة المتحدث على تقديم رأي نقدي واحدة من أهم 
القدرات البشرية التي أعاد مختصو علم النفس الاجتماعي اكتشافها. فوصف 
نقد أو شكوى ب «تعاسة» أو «استياء» هو سوء فهم صريح لا يعنيه ا مصطلح., 
أو ما يعنيه الإحساس به أو تجربته. لن يلمع «النقد» داخل الدماغ: ولا يعني 
ذلك القول إنه لا شيء يحدث على مستوى عصبي حين نتمرن على رأي نقدي. 
ذلك أن السعي إلى جر جميع أشكال السلبية تحت تعريف عصبي أو عقلي 
واحد للتعاسة (والتي غالبا ما تصنف بوصفها اكتثابا) ربما يكون أوخم العواقب 
السياسية للنفعية بوجه عام. 

إننا حين نعي مفاهيم مثل «نقد» و«شكوى» بشكل صحيح. ندرك أنها تنطوي 
على شكل خاص من التوجه السلبي نحو العالم يكون الناقد وجمهوره معا على دراية 
به. ووفقا لعبارة هاري فإن: «الشكوى شفهيا جزء من السخط؛ لأن جزءا مما ينسب 
إلى شخص يوصف بأنه ساخط هو الميل إلى الشكوى»”. إن مفاهيم مثل النقد 
والشكوى لا تعني شيئا من دون أن نقدّر أيضا أن للبشر القدرة الفريدة على تأويل 
وسرد حيواتهم» وحيثما يفتش «محلل العواطف»». مُنَقَبا في رزم البيانات الخاصة 
بتويتره عن دليل على الانفعال السيكولوجي الذي صدر من الناس بالمصادفة؛ فإن 


245 





صناعة الشعادة 
الإنصات إلى شخص ما يشرح قراراته الصحيحة والخطأ في حياته يعني الاعتراف 
بالكرامة الإنسانية فيما يتعلق بالفهم والتلفظ. 

إن الإقرار بأن البشر يغضبون وينتقدون ويقاومون ويحبطون يعني استيعاب 
أن لديهم أسبابا للإحساس أو التصرف بتلك الطرق. فالبشر يعبرون عن أنفسهم 
بطرق عديدة وبمستويات مختلفة من الأمانة» لكن هناك أسبابا معقولة تجعلنا 
نقبل الروايات التي يقدمونها عن حيواتهم. فلو أن امرأة ما دُعيت إلى التعبير 
عن مشاعرها (بدلا من إصدار تعليمات لها بتسمية أو قياس تلك المشاعر بشكل 
صحيح). فإنها تفعل ذلك ضمن ظاهرة اجتماعية. فحين تعتري الناسّ الرغبةٌ 
في النقد أو الغضبء يصبح في مستطاعهم كذلك نقد أمر خارجهم أو الإحساس 
بالغضب حياله, وسواء اعثيروا أشخاصا بارزين أو خبراء أم لا فذلك أمرٌ نادرا ما 
تكون له صلة بالموضوع. هذه حالة أقل عزلة؛ وأقل اكتئابا؛ وأقل نرجسية من 
الحالة التي يتساءل فيها البشر كيف تتصرف عقولهم أو أدمختهم, وأي شيء ينبغي 


ضد السيطرة السيكولوجية . 


تخيل أن قدرا صغيرا فقط من الإرادة السياسية ورأس امال النقدي اللذين 
يدفعان برامج السعادة والبرامج السلوكية قد مول إلى مكان آخر. ماذا لو أن حصة 
من عشرات المليارات من الدولارات التي تنفق حاليا على رصد أقل التقلبات التي 
تطرأ على عقولنا ومشاعرنا وأدمغتنا وتوقعها ومعالجتها وتصورها والتنبؤ بها. كانت 
تنفق بدلا من ذلك على تصميم وتنفيذ أشكال بديلة للتنظيم السياسي والاقتصادي؟ 
لا ريب في أن الضحك الذي ستقابل به هذه التصورات داخل أرفع مستويات 
العمل التجاري وإدارة الجامعات والحكومة هو إشارة إلى ما آلت إليه الآن الأهمية 
السياسية لتقنيات السيطرة السيكولوجية. 

لكن هل يجدها ممارس صحة عقلية مستنير أو عام أوبئة اجتماعية هو الآخر 
شيئا طريفا؟ لا أظن ذلك. فأغلب الأطباء النفسيين ومختصو علم النفس السريري 
يدركون تماما أن ا لمشكلات التي يتقاضون أجورهم لقاء التعامل معها لا تبدأ داخل 
عقل أو جسم فرد منعزل» أو حتى بالضرورة داخل العائلة؛ بل تبدأ بانهيار اجتماعي 


246 





حيوانات إشكالية 


وسياسي أو اقتصادي أوسع. إن حصر السيكولوجيا والطب النفسي داخل حقول 
الطب (أو علم شبه اقتصادي سلوي) هو وسيلة لتحييد الإمكانية النقدية لتلك 
ا مهن. لكن بم يطالبون وبماذا نطالب؛ إن سنحت الفرصة؟ 

إن المطالبة بنزع السمة الطبية من التعاسة؛ في معارضة صريحة لمصالح صناعة 
الأدوية (وممثليها داخل الجمعية الأمريكية للطب النفسي) تكتسب زخما”. 
بل لقد قال روبرت سبيتزر :26اام5 +8061؛ كبير مهندسي الطبعة الثالثة من 
الدليل الإحصائي والتشخيصي التي صدرت في العام 1980: إن تمديد التشخيص 
الطبي ليغطي المتاعب اليومية العادية قد تمادى الآن إلى حدود غير مسبوقة. 
وتعد ظاهرة الوصفة الاجتماعية إحدى الصلات الممكنة بين التطبب والمساعي إلى 
بناء مؤسسات اجتماعية واقتصادية بديلة. بطبيعة الحال يمكن لهذا أن يمضي في 
طريقين: ففي حين قد يعني ذلك التنقيب عن نماذج مغايرة من التعاون الاجتماعي 
والاقتصادي من أجل المنفعة المتبادلة: يمكن أيضا أن يطلق العنان لمزيد من تطبئب 
العلاقات الاجتماعية, حيث يقيّم العمل ووقت الفراغ بناء على ما يدرانه من نفع 
فيسيولوجي وعصبي خاص. 

قد تمثل الشركات التي تقوم على مبدأ الحوار والتحكم التعاوني نقطة بداية 
أخرى بالنسبة إلى عقل ناقد حول اهتمامه لينصب على العام وليس على نفسه. 
إن واحدة من هزايا الشركات المملوكة للموظفين هي أن تلك الشركات أقل 
اعتمادا على أشكال السيطرة السيكولوجية التي عول عليها مديرو الشركات منذ 
عشرينيات القرن الماضي. فما من حاجة إلى بلاغة الموارد البشرية الهازئة حول 
كون «العاملين هم الأصل رقم واحد» داخل شركات تقر ذلك وفق الدستور. ذلك 
أنه مموجب شروط اللملكية والإدارة وحدهاء والتي تجعل أغلب البشر مستهلكين. 
ينبغي للكثير من الجهد البلاغي «الناعم» أن يأخذ على عاتقه طمأنة أولئك 
البشر بأنهم ليسوا مستهلكين. 

إن أي حديث واقعي وعلى استحياء عن المنظمات ينبغي أن يسلم بوجود قدر 
أمثل من الحوار: والتشاورء يبدأ بالصفر (موضع فريدريك تايلور) حتى التشاور 
المستمر. كذلك لا يعقل أن يعني الجدل من أجل بنى عمل ديموقراطية. دمقرطة 
كل القرارات في جميع الأوقات. لكن من غير الواضح ما إذا كان واقع حكم الإدارة 


27 





صناعة الشعادة 


المطلق لايزال فاعلا حتى وفق شروطه الخاصة. فلو كانت الدعوى لهرميات تقوم 
على أنها فعالة؛ وتقلل التكاليف؛ وتنجز العمل فإن قراءة أكثر تدقيقا للكثير من 
الأبحاث بشأن التعاسة والإجهاد النفسي والاكتئاب والتغيب عن العمل ربمما تقتر 
أن البنى التنظيمية الراهنة تخفق حتى في تحقيق هذا الهدف المحدود. 

ف حال كانت التعاسة تكلف اقتصاد الولايات المتحدة نصف تريليون دولار 
سنويا بسبب انخفاض الإنتاجية والإيرادات الضريبية» وفق تقديرات غالوب. فمن 
يسعه. بناء على الطيف الذي يبدأ بتايلور وصولا إلى التشاور المستمرء الزعم أن 
القدر الأمثل اقتصاديا من التعاون والحوار داخل محل العمل ليس أقرب كثيرا من 
الطرف الأخير من هذا الطيف؟ على رغم ذلكء فإن التشاور والحوار اللذين يهدفان 
لجعل الموظفين يشعرون بأنهم موضع تقدير. غير ذوّي نفع ويكرران الخطأ نفسه 
مرة أخرى؛ إذ ليست الغاية جعل الموظفين يشعرون بأنهم موضع تقديرء بل إن 
إعادة ترتيب علاقات القوة هي ذات القيمة, وهي حالة ستؤثر على الأرجح في 
مشاعرهم كأثر جانبي. 

إن وضع البنى التنظيمية التي تخص التشاور بالامتياز على المسار الصحيح أمرٌ 
بالغ الصعوبة. لكن هذا يرجع بذرجة كبيرة إلى نقص المارسة والمشورة المهنية 
والتجريب. كان الناقد الثقافي رايموند ويليامز 5جدف!1/11 2020درة82 قد كتب 
في العام 1961 أن ممارسة الحوار الديموقراطي ربما كانت شيئا يحتاج البشر إلى 
تعلمه كي يمكن نقله إلى إدارة الشركات والمجتمعات المحلية: «هذه هي القوة 
الحقيقية للمؤسسات؛ إذ ترشد جاهدة إلى طرق بعينها للشعور. من دون أن تخفي 
في الوقت ذاته أننا لا نمتلك ما يكفي من المؤسسات التي تعلم الديموقراطية بطريقة 
عملية»79. وتؤكد نماذج الشركات التعاونية الناجحة الحقيقة في استبصار ويليام: 
فبمرور الوقت. يصبح أعضاء الشركة أكثر مهارة في التشاور بشأن ما يجمعهم وأقل 
عرضة لاستعمال البنى الديموقراطية متنفسا لشكاواهم وتعاستهم الخاصة. لكنهم 
في حاجة إلى المساندة في منحنى التعلم هذا*. إنه لمؤشر معبر للكيفية التي تغيرت 
بها ثقافتنا السياسية خلال نصف القرن الماضيء أن يصبح المقابل المعاصر لاقتراح 

يليامز هو أن نعلّم سهولة التكيف والاستغراق العقلي: علاقات صامتة مع النفس, 
5 من علاقات ملفوظة مع الآخرين 


248 





حيوانات إشكالية 


من الممكن النظر إلى الإجهاد النفسي باعتبارها مشكلة طبية» أو مشكلة سياسية. 
فأولئك الذين درسوه في سياقه الاجتماعي الأوسع يدركون جيدا أنه ينشأ في ظروف 
يفقد فيها الأفراد السيطرة على حيواتهم العملية, وهو ما ينبغي أن يلقي بالضوء 
السياسي على العمل غير المستقر والإدارة ذات السيادة المطلقة لا على الأجسام أو 
العلاجات الطبية. كان جون أشتون 2ه454 تنطه][؛ رئيس جمعية الصحة العامة 
البريطانية, قد ناقش في العام 2014 ضرورة انتقال بريطانيا بالتدريج إلى أسبوع 
يقتصر على أربعة أيام, من أجل التخفيف من حدة المشكلات المركبة الناجمة عن 
الإفراط في العمل أو قلته. وكلاهما عامل مسبب للإجهاد النفسي, 

اليوم, على حافة القياس والإدارة النفعيينء ينشأ اندماج متدرج بين علم 
الاقتصاد والطبء, يؤلف علما واحدا يختص بالرفاهية. مصحوبا بفانتازيا واحدية 
بشأن مقياس موحد للوضع الإنساني الأمثل. حيث تصبح المقاييس التي تستهدف 
الجسم متناظرة مع تلك التي تتلاءم مع الإنتاجية والربح» وهذه مساحة مهمة 
للنقد والمقاومة. فمن حيث المبدأء قد نقر بأن السعي من أجل الصحة والسعي من 
أجل امال لا بد من أن يظلا داخل صعيدين تقييميين منفصلين تماما. حيث يسفر 
الانطلاق من هذا المبدأ عن مسارات عمل شتىء من الدفاع عن الرعاية الصحية 
العامة إلى معارضة مراقبة الرفاهية في محل العملء ورفض التطبيقات والأجهزة 
التي تسعى إلى ترجمة سلوكيات اللياقة البدنية إلى مكافات نقدية. 

ليست الأسواق هي المشكلة بالضرورة بل يمكنها في الحقيقة أن تصبح مهربا 
من السيطرة السيكولوجية المتعارف عليها. إذ تحيط بالعمل التقليدي مقابل 
أجر شفافية تجعل الإدارة السيكولوجية والجسدية الإضافية أمرا غير مفيد. وعلى 
العكس. يحل الرفاه الاجتماعي المشروط والترتيبات التدريبية التي تُطرح بوصفها 
أساليب تجعل الناس يشعرون بمزيد من التفاؤل أو ترفع من اعتدادهم بأنفسهم. 
محل المزيد من السيطرة السيكولوجية التي غالبا ما تقترن باستغلال شديد الجلاء. 
ووفق ما جاء بالفصل الخامس., دائما ما كان يتعرض تبجيل النيوليبرالية للأسواق 
الحرة للمبالغة. مهما يكن الأمر. ذلك أن جاذبية التسويق الذي يسعى إلى التقليل 
من عدم اليقين التجاريء لطابما فاقت جاذبية الأسواق ذاتها بالنسبة إلى الشركات. 
ويعتبر الشك في الخدمات المجانية مثل أغلب منصات التواصل الاجتماعي» عرضا 


2149 





صناعة الشعادة 
لقلق أكثر عمومية من تقانات السيطرة السيكولوجية. وهو قلق لا يمكن اختزاله في 
المخاوف التقليدية بشأن الخصوصية. 

منذ صار الإعلان «علميا» مطلع القرن العشرين. أصبح إحدى أقوى تقنيات 
التلاعب السلوي بالجماهير. في هذا الشأن فإن المعلنين لديهم مصلحة راسخة في 
مناقضة أنفسهم؛ فالمستهلك سيد ولا يمكن خداعه؛ إذ الإعلان مجرد أداة في خدمة 
المنتج. من جانب آخر يواصل الإنفاق على الإعلان الارتفاع» وتتعرض المساعي لكبح 
قدرة العلامات التجارية ووكالات التسويق على إغراق وسائل الإعلام والفضاء العام 
وا مؤسسات الرياضية والعامة بالصور لهجوم ضار. لو أن الإعلانات بريئة» فلم 
تغرقنا إذن من كل جانب؟ 

لقد حققت الحملات المقامة من أجل فضاءات خالية من الإعلانات (مناهضة 
للتلوث البصري) القليل من النجاحات البارزة في مدن مختلفة حول العام. إذ تخلو 
مدينة ساوباولو البرازيلية من لوحات إعلانية عامة امتثالا لقانون «المدينة النظيفة» 
تق تان سوعانت الذي قدمه العمدة في العام 2006. واكتشفت مدن برازيلية 
أخرى إجراءات مماثلة لتقليص أو حظر الإعلان. ثمة حملات أخرى كانت أكثر تركيزا؛ 
ذلك أنه في العام 2007 أزيلت إعلانات الإقامة الفاخرة في بكين. حيث أعلن العمدة 
هناك أن المعلنين: «يستخدمون مفردات مبالغا فيها للتشجيع على فخامة وترف 
أبعد من متناول المجموعات ذات الدخل المنجفض. وبالتالي لا تفضي إلى انسجام 
داخل العاصمة». وتدير منظمة أمريكية هي «كوميرشال أليرت» لمءىء تصددم 
علش سباق «إيه. دي. سلام» دمدا5 44 السنوي الذي تمنح فيه جائزة قدرها 
خمسة آلاف دولار للمدرسة التي أزالت أكبر قدر من الإعلانات من فضائها العام. 

تعول حملات كهذه قطعيا على بعض الأفكار التقليدية إلى حد بعيد والتي تتعلق 
بكيفية الدفاع عن الشعب. وهي تستهدف بعض التقنيات عتيقة الطراز نسبيا 
الخاصة بالسيطرة السيكولوجية. كما تعد موضعة امنتج أعصمعع212 غع مط (*) 
داخل وسائط إعلامية «مجانية» ومحتوى ترفيهي نوعا مختلفا كليا من المشكلات, 
في الوقت الذي تُمكن فيه الإنترنت التسويق من مراقبة واستهداف الأفراد بطريقة 


سسسب شي 


(*) تقنية إعلانية تستخدمها الشركات للترويج ممنتجاتها من خلال أساليب غير تقليدية. وذلك من خلال ظهور تلك 
المنتجات في الأفلام السينمائية والتلفاز وسائر وسائل الإعلام الأخرى. [المترجم]. 


250 





حيوانات إشكالية 
أبرع وأكثر فردانية. كما يفترض بالبنى التحتية «الذكية» التي توفر حلقات تغذية 
راجعة مستمرة بين الأفراد ومتاجر بيانات ممركزة: أن تصبح مستقبل كل شيء بدءا 
من الإعلانء. مرورا بالرعاية الصحية والإدارة الحضرية. حتى إدارة الموارد البشرية. 
إن المختبر الشاملء كما جاء في الفصل السابعء احتمال مفزع لأسباب ليس أقلها 
صعوبة أن نرى كيف يمكن عكس اتجاهه في حال أصبح ذلك مرغوبا في المستقبل. 
لكن ما من سبب لافتراض أن الممارسات مثل فحص الوجه في الأماكن العامة لا بد 
أن تظل قانونية. 
ترى كيف يبدو نقد الذكاء؟ وهل سيلوح كأنه احتفاء ب «الغباء»؟ وهل سنرفض 
بكل بساطة ارتداء الأساور التي تتبع الحالة الصحية؟ ربما. قد يبدو الإفلات من بعض 
جوانب اليوتوبيا البنتامية مستحيلا كا محلل العاطفي الذي يكتشف الحي الأسعد في 
ا مدينة. من خلال التنقيب في البيانات الجغرافية الخاصة بتويتر؛ وتعليمات الطبيب 
بمزاولة المزيد من الامتنان من أجل تحسين المزاج وتقليل الإجهاد البدني. لكن تَذَكر 
التناقض الفلسفي المتأصل في تلك المشاريع؛ وأصولها التاريخية والسياسية, قد يوفر 
على الأقل مصدرا لشيء ما لا يحظى بأي ترابط جسدي أو عصبي بسيطء. وينطوي 
على مسحة غريبة من السعادة على الرغم من التعاسة: الأمل. 


251 





مسرد المصطلحات 





مسرد المصطلحات 


مسرد أهم ال مصطلحات الواردة في الكتاب 


#ماناع 17م 
أميتربتلين (دواء مضاد للاكتئاب ثلائي الحلقات) 
اماد اا سي 
مزرعة علاجية 

جماعاتية 

علم النفس الح 


















كتئاب 
لسلوي 


سا0 

ات 
مي 0 000 #سسصسصصة 
شيط لوق 


255 





صناعة الشعادة 















كورتيزول (هرمون الغدة الكظرية) 001501 
مقاييس الاكتئاب والقلق والضغوط النفسية 


الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات 
العقلية 


8 5056588 لزاع تمق جمتووءومع 12 






4ه اقناصةة8 لوء م5 لسة عنأوممعقاط 
لم11 






ناقل عصبي (ذو علاقة ببعض الأمراض العصبية 
والنفسية) 


تفاوت اقتصادي ا المنتوعض1] عتسرمممع8 













ةم 100 





الولاء الوظيفي 111 ملظ ععنره امصسظ 


وجودية (مذهب فلسفي) ل 1 


علم النفس التجريبي 















روه ام طعرووه لماسمعصستمعء يده 


ال بالرنين الغن الوظبة 
لتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (عم هفسآ 


متلازمة التكيف العام عتمعلمرزة سمنعقامملهة لممعدء 0 
أثر هوثورن (علم نفس) +11 ع عمط ]1 


2356 






ععمقصمقع1 عناعموةة8 لمسمناءعصدظ) 6191 










مسرد المصطلحات 


ماسصااو0 لسعاي معط 
إبرونيازيد (دواء مضاد للاكتئاب مشتق من دواء 


م1 
للتدرن) 


الاقتصاد القائم على المعرفة لإتسصمومءظ لعقوط-عولع امم 1 
العجز اللكتسب وقع صووء اماع لعصيوع.1 


























لي نهب لست 
اسرويس ]000 سسصس 

















ف 
ته 


257 





صناعة الشعادة 








سناع امه صرمعنع ل 


علم النفس العصبي (سيكولوجيا الأعصاب) 
نواة متكثة (منطقة في المخ يعتقد المتخصصون 
أنها مسؤولة عن قرارات الشراء) 


اج [مطن ”زو تزه تناع 


عع ف كنا6 لعنلا 


وكز (ترغيب) لا 
الصحة المهنية 

أمثلة 

أوكسيتوسين (هرمون معجل للولادة) 
بوة 


الوفاء بالعطاء 1-10 





2 61 © 

6 | وهو 0 

5 | 8 

8 | + |2 |ع 

5| |] 
9 

بغ | 5 

يا 

2 

2 

ام 

يسما 


5-0 
5 


ربط الأجر بالأداء بجوظ لع قاع 1-عه سقصصممامعم 
عامتعصصط عتنموعاط 


1 دور 


3 
03 


م( 


السلوكية الشعبية 
علم النفس الإيجابي 
التعظيم النفسي 


علم الأدوية النفسية 


إهم1متاع روط عل زووط 


1 عتط روط 





لإكره1مع قد عقطاصه طع روم 
الفيزياء النفسية ق تةتإطده طعتروط 


تإجهئع لاه طعتروم 





يمك 
#تيش ييه 





' 
0 
6 
- 
بع 


يه (علمانية) قمماعناءظ عدلدعءعة5 


٠. 
3 - 


258 





مسرد المصطلحات 














عكلهاصناع1 متصمغميء5 عولاءع 51 
(55115) وعمعتطاتطمآ 





مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية 









ا 







لآ 





2059 





الهوامش 





الهوامش 
ايلقدمة 


20216 8 كتتة تحجروة1 عللأه0...عطلوعء8 لصف أمتالظ صعما لسع بمصوعئا' الث (1) 
14 القناتة[ 23 رمه سمت مقتتهغط؛ رقه90ة0آ مغ وملكوائلء14 وسمامر8 
ختعمة مع لم لرمجمة علة غعع81ة التوعلة لاعلط مط" ,معسطلفطكت بمعطمظه (2) 
7 لإمقتائطء8 18 بعأناءمء 
لالقل1 ,ق0390آ كف ,رقم صتصئزذ عمتاعنوعة[ سه العطمصوت برعط0ة84 (3) 
4 لإكقتامة[ 21 بصوع.ونء طصدمه81 لله]” صم لأمغللع11 مجحفط علنل1[ه00 وسنادرة 
اممف #تتاقوعكل] 0غ مم1 3 قاء© فعتصمك14] واخصدة اتزمصمط مذ ,تاوعلة محوط (4) 
.2013 طاعءمهاة 14 ,م نه.تالاة روقعم 
(5) على سبيل المثال» صمم مارتن سيليغمان مقددوناء5 ه 85:1 وفريق من علماء النفس 
الإيجاني بجامعة بنسلفانيا مشروع ععدءنازةع85 دوء2 لإدخال العلاج ال معرفي السلوي 
في الفصول الدراسية. وقد أرسلت ثلاث سلطات تعليمية بالمملكة المتحدة عام 2007 
مائة مُعلم بريطاني لزيارة المشروع تمهيدا لتأسيس مشروع مماثل بالمملكة. 
موت "جرمااء8 لمهي ولاه(" وعلومه© -بجولظ مسنتاعهاة ععوء2 10:ه/8ا :15 عاروة (6) 
طعنققة 27 ,تزمء .أو هتمع متلسط رماء11 
16 نص 52,000 أ تالضعل اق16 عقناه]1 لأعصياهن) لعموء )5 بورمامقي]1 طوعوة (7) 
.08 62طم1ع0 9 بلناءمء. طموموعاء] , قنامنات 
01 ناك الس" ,تفده أماموظ معلعطة؟ ممه دلمقتحقء5 ععلل01آ برلموعاط عمممعاطو8 (8) 
0116 ,2[ناقضآ وملمعغممق عط كه ممنغهاستصلاة لمعضلع81 عبط ومتاظ كه عقمعء5 ه 
ع56 ركأقتاصعك5 1016 عوط لعمعمع018آ “طء51 معتستسصلط" سنهط' :2013 ,10 :49 
4 إتقنائطة7 5 تامع 
لمهي رممعل1 بعل لصة طعموعوع1 تمعصنان :354000 وساعسموع54' كام18 وت (9) 
2009 لإمقبصطء1 11 ,حرم كاعول56 
عملا بنع[ بامتعطت كمف لصة كامل1 عط [ه غطئنلاه؟1 ,عطعءئماء1ل2 طعا لعاءظ (10) 
.3 ,1990 ,متبجهدء2 
صق 001014 قتنامة5 5قع:51 وسأمنظ ,12203 عش ,رقم متصتصاد قهة لاعطاصوصوت (11) 
لاله صماغمغنللء11 
(12) انظر: 
-50 لمتتوظ ممعملا بوطلا ناموع.] العامة عطا' وعلط عتقط قصة ممممنلل167 لمقطعتر 
.2009 ,عصهآ معللف :معلمما زعاءع8 هنآ أومدسلف معنتاعكء 
كما تتعرض كتابات كارلوس مونتانير #عصةغضد184 وعاءة0 الأستاذ بجامعة تورنتو بكنداء لهذه 
المسألة بشكل أكبر. 

.203 ,2013 المممع1 ععداصواءه6] لدطاه1 عط زه 6غه)5 ,مدطللهت (13) 
لقاضءسامعصد8' بعك معصوط رعطقءز لصة ه0111 عتتقدز بتعسمقت1 سققم4 (14) 
عاع21 لق1ك50 اوتتمغط1" سمج قغصمت لمصملغمصسط علمع5- ع اأومهق8 عه ععمع لظا 
24 :111 ععصعءة5 عطا أه ومعلوعف لمصمعداك عط غه ووستلعععمءط ,مارم 

.2014 
.1944 ,عم 1011060 بمملصماآ رمدملليه5 م 8050 عطل ملعجدة .4 8 (15) 


2063 





صناعةٌ الشعادة 


الفصل الأول 
(1) «كان هيوم في ذروة مجده؛ ومن ثم كانت القضية مألوفة بالنسبة إلى الجميع. الفرق 
بيني وبين هيوم هو أن: استخدامه للقضية كان من أجل تفسير الوضع الراهن. في حين 
استخدمتها أنا لإيضاح ما ينبغي أن يكون». عبارة منقولة في كتاب: 
امعط ليما قصة علا 1115 :تممطمعظ عع[ ,بممممكلئة4 معصلئئة معاعمطت 
20120 بووعء2 11350 :.ققققة 
(2) انظر: 
-56 01 .قلع ,صصنت0 اأعمطظع ك8 مص صنله1!-عموعءط عستيعطعوت ,لاعطمطعة مخلتطم 
-:01 :0م01 بطتلوعه14 لقبوعك ده موستخا كا معغطا0 0صة ,معت كاعملدوعس1 لمت 
4 قوع82 نوع انمتا 10:0 
.109 لعولا قصة عتاا من1آ! بسمطامعظ رمسععيع[ ,ممعمنلاة ص نعمت 0 (3) 
2 ,.قلاط1 (4) 
81 ماوع طتصعف ,دهن هلقأيع.آ لصة فلوعهم8 ذه وعامتعصاءط عط" ,دممطعمعظ8 ردمعيعر[ (5) 
.0 ,1988 ,مكامه8 قتاعطاءتصموط 
.0 .1014 (6) 
,بقنة النلصنة2 م1 مره سرمعظ تملوظ أه عجماة غط1 ,غلاعنه8 وممومرز (7) 
4 بقوع :8 المع اونا 01004 
تلتق صحمففمق لتنة عا رمامعيءات]1 فده إامطلللة رععا أعتمةنآ رعءمتسطاطت لتطعتصيز (8) 
-خلض1 قصة قعناللهله184 ,نلتسن5 قومعم أععكقمف كه عصتله0 دمل )قليامه2' ,تزمة 
4 ,3 :17 ,تعصعومعسن1ة عسسطوك؟ ,كلقنالك؟ 
(9) هذا ليس أمرا مفروغا منه, لكن للحصول على حجة مقنعة بشأن فلسفة بنتام الواحدية. 
انظر: 
-ممقهع 1 لوعه84 مضه ومننه امء031 تنم انمدعال دده سمطتصعظ' معني لمعطعنا8 
4 ,1 :26 مهغللنانآ بهمة 
9 رقملكملفاعم] مه فلهدملا زه لومعضقط غط!' ,تمقطاهع8 (10) 
١‏ .29-0 ,.للط1 (11) 
-ضعا اولع وذ غمطة؟” دمناوعا0 عطا ما معجقدة صحنذا أخصف1 اعبمقصدم1 (12) 
أعطمللة .8 .11 للقمة ,ماعط مصعةط .له ,تومناك8ا لمعتتامط مم1 صا ب أمعم 
70 ,قمعو بإاتووء جلدنا عمل أءطتصسوة 
نتتتقطلاصعء8 وتمعععز كه جوماأمطع روط لمصه 84008 غط1" ,كلامم وعظء14 لوط (13) 
-86 عط ذه بدمغونةآ عط كه لفصعيه[ بطععمءدصدة لوجعمء0 0مة لسبمجئلعو8 
برجم أهطع رو لقتده ه11 غطة" ,كلامم رعء54 :1968 ,3 :4 وعممعك5 لومم تفط 
-قعقتدمقات كته سصمناغوع ظغصمد 0 تومه" مأرمق8 .11 بسممطتمع8 جمعن1 كه 
68 ,4 :نك قععدعكء5 لفعرماتحقطعظ عحل كه بوممؤونط عل كه لمصضنته[ ,م4 
اممقطفصنظ لم11 تعادملا مع[ ,وعلة روطم مطعروة2 5ه قأضء علط معصطع8 بتساقيا0 (14) 
.1 -30 ,1966 رتامأق ضما سه 
(15) عرّف جوستاف فخنر الفيزياء النفسية بأنها: «نظرية دقيقة تُعنى بدراسة العلاقات 
التابعة وظيفيا بين العقل والنفس أو بشكل أكثر تعميماء بين العامين المادي والعقلي؛ 
الفيزيائي والسيكولوجي». انظر: 
7 رقع 1[ةتإطممطعترزو2 أه قامعسعلظ ,تعصطع8 


264 





الهوامش 


(16) «ليس من الدوافع الموجودة ما هو غير موجّه إلى اختلاق اللذة أو الإبقاء عليها. أو إلى 
استبعاد السخط أو تفاديه». انظر: 
قصة ععصطءة8 «ملمعط1]' تقاكما0 بمتطخللا جممع عسسطملح وعوى طاءع ماع11 اعمطعنق3 
علطتا بطوعساطوان2 مطملا منطهبره .لفصوعة' مع اجل1عه18 لمعاف طم مط روط متا 
2 ,2004 رقوع28 طلوعسطم 21 ,0 بطأومعب 
(17) العلاقة بين العقل والجسد «ثشبة العلاقة بين مُحرك بخاري وآلية معقدة. فوفق كمية 
البخار التي يولدها المحرك» تتصاعد أو تنخفض طافته الحركية.» انظر: 
رةه أقتتطحه طاءتجوط أن ممع سرعاظ بتغعصطعع18 
(18) وردت إشارة إلى هذا المقال في: 
57 بتتنة8 01 5602 م1" ,مم8 
'إط/اا سمط عبعناء8 عا وصلط اعبط روا :برو مامجهب8 ,صم مقصاآ ستكحوكة (19) 
,مبعقنام لاملصفظ ملعملا ببولة ,وصمءةا؟ 15 لإناظ علا 
5208 وصتطعء؟8 ,'خب0 غ1 لوول موت ناملا :فوع ستمصةة' بماحلمت مقط 121 (20) 
4 أقناوناث 26 
اكلأمقطه لقدملول! عطة1 بقلمم1ن1 ممسممطتمعظ' ,رطع لعصصستاط علسيون (21) 
.70 ,1 :10 قعتلتطة طمللء8 كه لمعيه[ ,#إصمممحومن 
)22 هذا الفهم للحكومة. باعتبارها ممتدة خارج حدود الدولة, ناقشه بالتفصيل ميشيل 
فوكو الذي كان يعول كثيرا على تأثير بنتام. فيما بعد. تناول عدد من السوسيولوجيين 
الفوكويين بالتحليل كيف تعمل إدارة الذهنية باللةغصعصم»»ء:ه6 بالمجتمعات 
الليرالية مثل بريطانيا. انظر: 
ع #قعلاهن غه وعقتاطععة تصمعهلمامه5 برممغتسع1 بلطتسيءء5 ,التوعنه8 أعطعلقيز 
قله :2007 ,صوالتمسعهماط عجومولوط بععامامع ستقم8 ,1978 -1977 وعصوع12 
طسوت كطقدمط؟" لمعتغتام2 مستسوطعه بسسملععم85 قو معووم8 رعومع 
لانن تعاء لصة 1056 ففاملال< :1999 ,وفعمه لوو متا عولترطصوه 
لقصمومء2 هسه لواعه5 علتتسمممعظ وصلءعاكتصتصسللة بتمعوععط عط يستمعومن 
.2008 تله نعم ل تعطصوت ,ع1اي1 
#ستلتسة ع1 عوع8 لصة متحت" وعمعك5 لمعتعمامطعرووط 15 ومكوكووقم (23) 
1 تلن[ 30 ,دومع والملععسدعاعة ,“ومع ومععه موعراة وعنة 1و2 
0 أمقع ممه عامط هون وعلتددة وصاءء5 ومتمطة برفبطذ" ,تكتجولد52 ونولة (24) 
أتذجة ك2 بسصمع, عسل 
م اقمع حلم عحناع 88 بالهدده مط أه مأعقع56 عط" نععو8 انتمطف ,للنتآ سوط (25) 
.0 ,ع طقتاطنا2 عهة2 تندوم1 :ددم لدم.1آ 
نعملهما وععمعاء5 بوعل8 هم ومع وصمدوع,1 :ودع ستمممكط ,لعدرف[ لمقطعته (26) 
,2005 رعصما معللق 


الفصل الثاني 
تلوع ده ,وعووء دسلل1 لناعونا ععط0©1 اسه طمفالحينط18 بمووء الهلة برعنقمم (1) 
0 رقوع2 لسع لتنا مأوعع 0 -الت6علة3 
.166 تمن أعع52 ألم مقمهطط' كلامسدده0 أن عموجة] (2) 
.6 لمر أععاء5 أزمتوؤققةء!' قضه تستتدده0 01 عؤنان15 (3) 


2065 





صناعة الشعادة 

قأعف متك مقتفظ وأقمه4[ تععمعاء5 3 م8181 ون الاعتمتاماقم1 مف ' ركقملة مممدط (4) 
أعتضعاترصد5 لقنصصف :33 وسمصمءظ لمعنغناه2 كه ماقا ,أقعتم مدمعظ صذ 
2001 

.89 -1870 ,أممطع5 بأنانانا لمستوعوك8 عط كه عمن8 عطا ,عورم .5 1 (5) 
1960 رقوع22 موقصمف 1 1ه بواأومع اونا :ععمع لم1 

فستواء0 عطا فته ,عدج ألو8 تروتعصظ :ه8101 مقصبطةة غط1' رطعقطصلطة1 صمقصة (6) 
,92 رووعع مأصعمظتلد0 كو الور عتمتا برعاعطاعظ لاتمع 1100 أه 

قصمبع[ نع [صواة سقتللا4؟ :ععطصداة عبط لعابه لاعمكخلا ف ,نمطقطء5 أعتوهمول3 (7) 
سماءء صاءط :دصماءعماءط رقن تتسمصمعظط لوءااقتمسعطا1 2ه عمقل عغط) لتنة 
.0 ,رووعم2 اوم 17مل1 

.2013 متتازمع8 نتامقدماآ متفامصطاظ برلغعاماة ضعلوعآ سمعلمود[ (8) 

(9) انظر: 

تصملهمطآ بلإتسمصمعظ لمعكتلآه20 أه بإممغط1؟ عط1' ,قصمع[ بإعلمهك5 تصدتللكلا 
1871 شه لتسعمقاة8 

أممط5 زتلنانا لمستومدا! عطا ذه عدنظ عط؟' بترعجه11 (10) 

زإتمضمعظ لمعلكلاه2 [ه بصمغط1' عغط1 ,قصمبع[ (11) 

(12) «نحنُ نعمل كي ننتج وهدفنا الوحيد هو الاستهلاك: وينبغي أن تتحدد أنواع وكميات 
السلع التي ننتجها في ضوء ما نحتاج أن نستهلكه». مرجع سابق» 102. 

05 وضنلقلة ع لسة قصمهع[ لواتلقدم1خمق1 لمعتصقطءء51' ,قمملة معمدة1 (13) 
ب4 :30 #عمعك5 أله برإاممعملتط2 لسة بممغقلط مذ وع1لن50 ,سقاة عتسسمصمعءظ 
,192929 
(14) «أصبح عقل الفرد الآن هو الميزان الذي يعقد مقارناته. وهو الحكم النهائي على كميات 

الشعور.» انظر: 

4 تإتصمصمء 18 لمعغتاومط كه بصمعغط]' عطا1' رقصمع[ 

' 3 .-1112 ,.قلط1 (15) 

مقط ضذط صمامستفمه© ومقلة :1602103 تصوعمط ,قصستوتللا)؟ ل4صلتلةهوم8 (16) 
عمء:8 هتدعم ةتلهن غه بوالوعجلمتنا اإعاعطء8 عمموع8 متضمع)- لطامععاعمالة 
.1282 

ترتصمصمءظ لمعتاتاه8 له برمغط]' غط1 رقصه 8[ (17) 

متمعولوط تععاه 1 ووصامد8 ,قعتمدمصمعظ ذه وعاماعصاع ,للقطتعممكة لعظلف (18) 

3 ,2013 ,مقللتصسعةة8 
.3 ولامدمعظ لقعغت[ه2 كه بمغط]' عط رقصمع[ (19) 
(20) انظر: 

رقعتقبط8 لهاعه50 5ه تعتستمممع8 عغطوتآ مقط" غمع11 غ18402 ,لوم ك8 متلتطط 
نومع ططلمنا ععلتأمبطسدت تعمل عطصيون) ,قعلتسمصمعظ وأعمتطولم عه وعتسبطط 
.219 ,1989 رؤقوعمط 

(21) انظر: 

رق 1511غة]5 0صة ,لمقعوة1 عاستمصمعظ8 ,ععصقطت ده طاموصمععل8 ,لطلوومهئ811 متلتطم 

٠‏ .1994 ,4أ165ننآ :8 مقصصده2 :312 ,تمقطصم] 


266 





الهوامشس 


عط 300 عمستام ه116 وطغمو بع 80 00 ع0 ضقاهت لنننوط (22) 
,2 :21 11/6 جوع 2601031 01 اناه[ ,اتلنانآ عنناقوء184 5غ أوعنن 
.2007 
قل ي) أن كفلا عط لصة تروهامطعتروط ,معتسسمممع8' ,ولمداط 8506 .2 (23) 
0 ,4 :34 معنسمهمء8 غه تفحصدره[ عمل أعتطمصوت ,لممعط1' معامطهت 
(24) نوقفشت هذه القضية في: 
معطا لمة لمتكمسلولا عتسرمممءظ «وللتطتقمع5 قصة منمعهن' ,علمعجياه1 سمامواخ 
,6 :116 إممأماءه5 01 لمعنه[ ممع تفصق ,عوك" أو متننولر 
(25) انظر على سبيل المثال: 
-]08ن) ععلمءلا بمستممفوع1 6ه وعاباى مه دملكه تتاقمع صوومك" ,وامتضيو؟ وات 
4 كنه ل ممتصمع:0 بومالمامءعم ,ععفاط غه معمعقءع2 عط لصو أقعمع8 
,6 :37 برإاأعاعنة 
تستكشف هذه الورقة كيف كان تحليل الكلفة والفائدة يستعمل في حساب قيمة دفاعات 
مدينة البندفية ضد الفيضانات. 
(26) انظر: 
ر28 10211976 عط مستلصم علدنا" 552010 8 فللعل8ة عمتطلنت عم أمعسامومعجم 
عأناءامم ,مم8 لصة عنتطانت صذ عمعصعيفوصظ أه عمالولا لصة فأعدمصم1 
.2010 ,قهرم ذوعا أطنام /أضع ”تلا امع 
مصة ,ةوعصتم مقاط رمتعا" ,عمتتمط لصوو طل كولاه لصة للوجوه بععلدم (27) 
قعنلمنةة لفوعا كه لمصحيه1 ,عم قصو”آ ترم هقمع مسرم عه مله لتاعلقك عل 
52000 
رعكتاقةع21 5ه وستصصة84 علأغصع نوم ماع21 غط؛ لهة طفدوت طاء2' رمعطه© وممصلة (28) 
000 .2008 ,ث2 :3 معناع ل 06و81 
لمسصتلعوت 4ه قأطعطع نموع14 لمعنهه لم تطامنمعل8' ,معتمن2 أعتصوط (29) 
:19 ععقاء1! عة ععتمطت لقاعمة ,'#مسطشاعميلق ومتصموعآ عه عع سامملع11 
3,004 
لممة ععاععم 1013 تاتسلا لمللاظ ,0 ملعن8 4م56 ,ممقابص1 مولظ (30) 
.07 ,1 :53 وممنعا؟ (معمقطعن2 أه لوعيعل؟!' بمتعأفمعيعم] مومع 
قمع ماع22 علقن8ظ تلق ءمتقصاظ لصة 6 رلة كك وللمعاية معروت (31) 
.0 ,6 :29 ووالاقطء8 ممصن ةة لضة ممعساهب1] 
(32) أثار هذه المسألة كبير مستشاري العلوم السابق بالحكومة البريطانية؛ ديفيد نوت 
خأنال1 123910. انظر: 
اط تقل لمء ممم لقطه1ت) غطا عفسهت ومعخلصدظ نط عوتآ عوتهء مك لزم» 
ألتنصف 15 متام 
اصتوعظ عباملا دره متام موم2 10135(7آ عناملا عتمفاظ نمعطنآ1 عه[ بطغتتمة علاعطء 841 (33) 
4 عصناز 17 متطامء .قورع تزع ممت 
ملامت لصة عنئمامما8 لمع8 28 رومن! متاكناز تمععطمة بومع1 ,طتتدرة ععلىق (34) 
كلقسعأة ومنصعة8؟ طفدءت لوعبيع1ة ههه ععصوءعطتوظ لفممتفوصة مععصيدةه 
عط كه ويسصتلعععمع2 ,مع اططسظ عأععلعوة8 لمادة ستي معد مساممعع ملظ وستمباد1 
4 ,29 :111 ععسععة عطاغه مإسرع لوعفم لمصم ةكح 


267 





صناعة الشعادة 


الفصل الثالث 
مه أه قدصم لهم لصدة لمع1عمغون1؟ أعممعوماقلطعة]' 2 15 غقطة؟' ,رمطءقوءظ8 اعد (1) 
.1998 1 :11 أءتعاصمن طنا ععسمعاعة أسعصسماعم1آ 
"إ 011064[ ععم عامروعط 0004 عبطلا بلصتلا ممعغطئنظ عط1 ,ماع11 ممطلوده[ (2) 
80013 تمعطتصوط ملعملا بجعلة ,قدامتئناعظ له معتتامط 

(3) انظر: 

0 ,ع امب ,”متاق عل8-وبظ" وأمتدمظ عط لصل؟ مغ ععمظ عطآ" ملأعاممك؟ة معمدكة 
تإأناز 2 ,ممه طعصضباءع ل1ءه؟ .أقصوت ,2011 بإتقبايو 

2013 عمقل 27 ,متتلمع ب ماو سابع صعط ,علط كه بوم غو 11 ه' لطعت أمرعطمع 4) 

لقصهلمتقظ ده ممع 04 أعوصم] عط“ رئوعه]؟ وعملمفهر[ لتنة مسط يع[ (5) 
4 ,1 :41 طعموعوع 18 معتستافصمت ذه لقصقيده][ أمعتصطع وكام مومع 

.06 طلاعمفة18 18 ,حتامء. زوزع متلصه ,'.عص1 قوع صاحصصةة؟' ,ومامدج مقلع[ (6) 

ها قأاضعن ]8 مسصصرون" عمعصمك8ة غصعكل همه أمطك علتقلئط وعغايسمت طخزع؟1 (7) 
:2 إووامطعء رو عتسسفمهن 5ه لقصهنه[ ممم لأمعععع عل سشامومكة مماعلمط 
3001 

لفخصعلا علعوا8 عط لصة لعظ عغطة رماع تمصعموعم]1 عوممع0 قصة ععلععط معتووط (8) 
.98 ,1 :17 ععدعاعة5 وسناعطاعدك8 ,غطع1 لضة ووسماصوة كه ومستاممعم 

قصة كاعماءععمة ,وماغصعل4 بمملامععمع2 كه كومأقصعمقن5 بوموئ0 ممطاهدهز (9) 
1 مققع22 28111 نققق1ة ,عمل أءطتصةت ,عتنطلنات ممعلماة 

11156087 صا السلا ممأعطلة! ,.مقء ,مممصلطمه لوط قمه ععطعل2 امعطمع (10) 
عامعلمعق مم1 خطءعملعه7 برو هامطعروط عقاصعك5 م كه ومنلفكة عط 
01 ,623 لاقتاطيط 

(11) انظر: 
عتستمصمعظط مصة لوعتومامصطءع1 تممكساوع8ه أمطصمه0 عغط1 معوندع8 معصدر 
101157638167 لممصة11 بشاة عمل «تطصوت اعاءه5 صمتأهدعمكمآ عط غه ممتعاء0 

٠‏ .988 ,وقعمط 
زكر ه[مطععرة27 عظاخدعاءة5 و كه وسلعلة4] قط ته جسملعطلانة؟ ,.لك نعطعنظه أمعطمه (12) 
.0 بلغاتضاآ لإممصتصهت ممتطعغتاطن8 تستمعاط ععاعملا بممتر 

(213 مرجع سابق. 

(14) كتب عام النفس الأمريكي إدوارد ثورونديك في العام 1907: «توفرء أو ينبغي أن توفر 
السيكولوجيا المبادئ الأساسية التي يجب أن يُبنى عليها علم الاجتماع والتاريخ وعلم 
الإناسة والألسنية والعلوم الأخرى التي تتعامل مع الفكر والفعل والبشريين.. وحقائق 

' وقوانين السيكولوجيا.. لابد أن توفر أساسا يجري تأويل وتفسير الأحداث الكبرى التي 
يدرسها التاريخ بناء عليه.» وردت في: 
اقاكلقه8 ابرومامطعروط ممعلمكل8 كه ممنيء0 لماعه5ة عطاك" وعوتعموط سنن 
'.عهلء م1 كه جومامكءه5 عط قصة جوهاماءعه5 

بكتاب: 

وممأوسات1 طامملا بوعلة امعنوم© لقاعه5 صذ إجمامط روط ,له رففنظ وعللق 
79 ,وتعطقناطن2 
م هامطء رو عقانامعك5 د كه ومنلدك8 عط ممة ستعطلت؟ معطعن2 (15) 


208 





الهوامش 
(16) انظر: 


.98 رقوعم8 لالز ملعملا بجع781 لماه تقبط 8 ث0 111510577 ل :أمتاخصه0 ,541113 صطه[ 
(17) انظر: 
ان ٠0‏ 
ذش :قتناه لقا 8 لع نوع -طالوء11 ثه مرعاحامط عن 1 ,008 ناقبرعف 2010 (18) 
.2009 6 :39 غعسعاءة له وعلليط5 لوءه5 ,"فيط لمعتههلوعممقى 
لموعصع 6 :181 رمتطجممعة8 ,أقتعه اتمطعظ8 مسرم 28701087 ,دهم غه1؟ .8 ونطمر (19) 
اا مامم8 
عط قهة صمم نومآ قنلهه82 صطمل تصوكة لمعتمقطعع34 الإعللعه5 برررع؟1 (20) 
1989 رووعع2 مانن عط بعتملا ماع81 ,مسفلعه اجمطء8 ,0 وويستمضاعء8 
(21) مرجع سابق. ص 130. 
42 -41 بأقاعه اتتقطعظ و 4ه أهته م لصةنة غطا مم نومام طءوو2 ,موا (22) 
ها ققعصع تلا قمعم ع2 60 هه ويمتاصصدة"' 2101 اعساسقتصدم8 (23) 
.2002 ,3 :15 لع مهن ها ععمعك5 ,لوم بصيرة وعام5 لعالمتا أوعزع عل 
سا1 عط ممه دين © نر نيوك نتف لع سف لعوموعكة غط1' رمع1 طوعوة (24) 
09 ,ققع 2 بوالومع 100117 لعهبصمك؟ شاط رول اءطتصف عتاطدط مموكز وعهن 
(25) انظر المرجع السابق. 
طمموعوع8 أععلموك8 ذه معغتامط غلك اتأفوط لوعتلقع خ* ,اممعطتموببطء5 شرواء؟ة (26) 
لكان عط كه عمام؟ مط ,لع ,طاعجملعيم8 ملاومعك1 ما ,'50 -1900 ستقكام8 وذ 
0ن ,ضع صع بوك1 0 باأءقوعوع8 أعاممة كه مولت ىه نمع ستتتقصوح 
مققع2 اقمع طستا لعوقد0 بقوم ك0 ومعطمة عناطبط لهع 41 1ا20 عل 
11 ةقلعمو تق غطا' بمعو1 (27) 
ممرعاوة16 01 ,لجرمعء1541001 ,عجوم عن 1864 ,تأاقو8 وعدم[ (28) 
1960 رقوعع2 جالوي 101 
1ن نام 00 رتل0 مما :امون كه أقعنوصوت عط بلصوء؟ ممصوم1 (29) 
موإقعنطت أن طلسم علدنا :مممعاطنت ,تصمايء تستقدمت جنا ؤه عفل8 ع لسة 
07 قمع 


الفصل الرابع 
1ع م قممة عمرو ممع تععماوطاءه8! لوطمله عط زه عاهاة ,مم1 ,جتطلة (1) 
3 بتتمع,ونا المع ,غ01 1عه/8؟ ورعلوع1 نا +40 فغطوتمسآ 
(2) مرجع سابق. 
لشاعقنة طصة] 6 505 ورسامفيصظ' رععامقات 8 لهة لمعاعماة اعوط (3) 
لطاع ممصم جو ما أتممع ال له باعص وروم ععتره أجسظ طوسصعبط1 عع مق روط 
عكلناءجمع قاط قلللعاة عقهم لو ممما ,ومعصاقب8 عم تمع مودعم 
لقاع امعقطة ذه لمختط1 ة لملطء8 ااممصع8 عمرومامصة" ورطوميكة فصماع (4) 
2014 عتن[ 26 بلنابوءء متام هجو مصعم ,وعقوه 
(5) وفق تقديرات الكلية الأور وبية لعلم الأدوية النفسية والعصبية عهعلامت صهعدمت8 
"يمام فص مف طم هطاء رفم معع27 5 فإن 38 بالمائة من الأوروبيين يعانون مشكلة في 
صحتهم العقلية. انظر: 


2069 





صناعة السعادة 

ععلده5لل لقأتوعط م صم ماع كيان عقة كتتقع رمئتاظ 4ه لعتط ه' لإعاعوم8 طوعوة 
عع طسعامةء5 5 برصدمء. سقتلمتاوغط) ,'مقعئرل عمه تإتنق دأ 

عتدمممع8 عط لصة طخلوع11 لمتمعلة يله مأممتقلط روط )ه عوعلامت لوعرم8 (6) 
,فظضمغساه5 51115 لصة وعأعماءظ لقصمل و88 ااتناأوجده10 

(7) مرجع سابق. 

ع1 مسمتتدعء0 تع لللوتعصصط ومعصلاء1؟ عغط1' يصتصم8 عتدسمممعع8 18014 (8) 
.2010 ,088 تنا لماء؟ ركهلا أمتصوع 0 علناعع 88 

مصة ووءعصاصصة1ط* ,تمعه5 أعتصة2آ قصة مغوءط متصعينبظ ,للوحوه عتمم (9) 
,882 .0آ8 وعامعة 0 طءموعمع قعل تتمشوعط عل موللا غط1 ,و اجاأعسلومط 
00 ,لم6 1تلله ظل0ع8 أ الع دعوم 10 كأ سمهلا كه برازورء لدت 

لاع لم2 بققعة عاعهك8؟ بإطالوعة؟ ملاععمغط]' قععه1' هصة علعفوعمف؟]1 معطم (10) 
2 بقعاهه8 عتفمظ عامملا وعلط عقاآ رصناره6/ كه ننه عنما مصمعع2آ عط ته 

.51166688 102 ومتودوصط' رععاعقات لصة 0معمراعة838 (11) 

08م ععقم م لأعننا5 لعالتلسصه© سماة لصنتاظ انان لأعمعظ"' تمصزوع عطيدا (12) 
تعطتوعءع2آ1 28 بلنامع نم طامم ,علعوةا م )نآ سل العلا 

.لق لل ناعرط ,0187 علعبمة 86 للابده© ومماعه2آ1 ومعف' جز2ه8 اعتصو©طا (13) 
1 أقناجيناث 13 

طاعمهة8 10 ,دمع ,عدقمتواط ,'فانات عتقاء8! قتنة قطلوء 12 ,ومنهف' أوعدره8 سملءة (14) 
2014 

15 له نرا/ة - لعنزهامسعمتا عطاعم؟ ”يستغلصتط؟ عجلغتومط"' ,لوفام 1 دا (15) 
لعجف 15 أعت رع قاعم ضعلمعمه ,عهم عه 

-081* ,8081582 لزنا ققة ترإمقص1 سلأامقاة بأعقات للتونا ,لعوترها لمقطلءنه (16) 
,20 معصة2 لم1أومبء1014 82 ,الإميفعغط! لمعلوه[مطعروط أه فلوزلقسف أمطعدعظ8 
قعنتصمممعظ أه أممطء5 مملمما ,ععممصمسضمامع8 عتلسمضمعء8 م1 معامعن ,829 
56606 لمع أناه2 لله 

:بجع عه ترهط" تع نط المع 13 2 عم دنه رقم تفصعظ مصة لمملا عم أمع سموجء2 (17) 
,2008 ,فده لاقع تاطنام /أدع ممع امع /لنا تامع ,لمتماعظ صل طغلمع11 ممه علعمئلا 

“لوجم 5216 مقعتلاأمناظة 0م00 ها ع8 كوعصاوجة11 مون" ,4ل0عص5 ست (18) 
12 عتناز 20 ,صدمء.ممتلممبجعط) 

.وعطاعم] ,ققعععلا5 عناملا قأعةومحد1 لإلأعععانآ قوع مام ج11 بتو" رمسماومهت ترطاة1 (19) 
1 3 نا[ 5 ملتامع 

لإتنة تلمع اق ,أعصمع6ا! )1 عسصلهنا عأتاملا -قلطوءء8 وسللة1"” متعمظ عطوعنا (20) 
للهن دده2آ1 أناظ ,عمناد لله18 م ععله1” ,رقغه1له2 صو”ا :2013 ععطدووءءع12 6 ,سزوة 
4 إتقناعطء2 27 موممتمضطط.ذعماط كلوءء8 1:8 

11010 لنقصتطط عط1 ,طاعةطصتطه 8 ومعصق (21) 

6 860042 مص تع لصدحاء 10 نطاتواظ امسعسعع مصهاة عط 1" بامهوعاة ماعطتهاة (22) 
2010 إقمة ه0010 عقنهن 2102 ,إلا ا مارملا بعل تإطدموملقطط 

(23) ورد في: 

عصعمط ا هة] عط غه بوصمهش1وض1ط خ تعولء تمصا تاداع ةكتصملة ,عتموء للأت لمقطعنر 

.0 ,1993 رقوع22 اقمع انصن1 عمل لط تصةن ,قالع تامع م8 


20 





الهوامش 


(24) انظر: 
لعطعتا/ة نقتط كه بمماقلط عستلده حجره وابوموعطلآ وعلد8 [ممطء5 قوع مم8 لعو ج11 
ناا ها ر”اء866 عمومطا مقاط" عغط1" بممقعسطة طوعلف8 قمة بإطععضق 
.تلع قططوموعطا! ,قصم1قايا 
+17 مطاتوا/ة اأمسعصع وقصة1 عط1 أموممة (25) 
عنملا أن إعع8 لسة لأغهرة عط1 تععدمة غه نروهامطعروط' ,ع8 استهعك!ة مووعةة (26) 
4 تإنقناضف[ 31 متصمء.غتلصباحعء أصرات ,ععقاجيلءه8؟ 
يشار إلى أن إيريك تسيتسيلين هناره زف" عء8, من معهد ستانفورد لإدارة الأعمال. 
متخصص في مسألة الضحك باعتباره أساسا مزيد من التواصل الحقيقي خلال العمل. 
© :ع تسمموعومعط علعمأقاجة]” غط1” ,عقم8 ققامعكك1 لصهة 8111162 معئمط (27) 
.1988 ,2 :22 روم [ماءه5 ,علنآ لولعهة لصة «طتحاءءة زطن5 كه أمعسصعجمنو 
كاتا صا قمماطععمم0 لملهة هسه عكاآ كه لاتتمو0' ومعتمع8 ممتطعوكة (28) 
لخن فلسولمصة لمعاغاء0 مه مقمدمره؟ ندملغولموعه عممعطالوء11 
10 هلال نجع قصة علمناا كه وتسجلمهم 5 ممعت ,68 .ول8 معموم 
ععطعء5 لمع نالاه2 لسة وعلتسمدمعظ ذه أممطءة 
.17 ,1970 مانن ججوريع131 كلاملا +11 ع1[ 1ه ووعن5 غط1 ,عنرواعة مصوة (29) 
املا 216 ,1/12205168 واأقتاصعك5 له بعللا 147 ذه موعة عغطك رعتراء5 فصوتع (30) 
.9 ,لامطماعظ؟ لسممعومنة موكلا 
عكاآ 1ه ومعناة غط1' رعتجاءع5 (31) 
16 ,1974 أفضعاة بماعملا بب816! ,قوعم و11 أبامطغ1م؟ ممعماة ,عتجاعة مصواط (32) 
(33) انظر: 
صطه[ عذوعطع ان 118007 كعلرظ شه نقوع2)ة بعصو متلتطط لصة عععممت نووت 
.00 ,ص50 عقب 1لا 
(34) إحدى أهم الدراسات في هذا الشأن هي الدراسة المعنونة ب ترهدة5 للهطعخلط/78 والتي 
أجر د يت في الفترة بين العامين 1967 و1977 داخل الخدمة المدنية البريطانية. وهو 
ما يشير إلى الروابط العرضية الواضحة بين الحالة السوسيواقتصادية والآثار الصحية, 
118 18 ,تقتمء.مقستقعط 'طالوء13 طغل موعصتفسظ 10 مبجمدآ1 ماع 0 ممع [لدنا" (35) 
.2010 
نشاط عمل نطسون ومتمسظ ,نروء[ة متدمنهة قصة الممتة اعمطءنةة 5ج (36) 
21162853 مهامء1ل8 لصة ممذفلتصة سملم :2000 عمط عوانمعجزون] لموصوتر 
عأتهلا بعل ,هنولو عط ععقف عدلم؟ وصنللنتطعه اترمصمصوع8 لمعتط8 عط 
ل ل 0 اتعطأت برعي[ :2014 ,موعدط بوازويء وتنا متطصيمامك 
80 تمل مآ ,حسكتلهد ل تنلصة كه عهة مف ص بطتجلاءعلامت لسو تإعو معط 
4 قوء:2 


الفصل الخامس 
.205 لتذف 21 ,ددمء. مقن عماوعط) ,برعالصعكم]1 غطوتصومع21 واعنماظ ع1 للدظ؟' (1) 
1 أنعامة عطاك راع عاط عأمكل ممه ممعس نعللا لتمطء121 (2) 
,18143659 تعصصة كه غمعصمماءي8 عط عهنتا ع8 كلما5ة مكمكات85513 (3) 
4 لترجية 1 ,صرمء.مكمك معممق 


271 





صناعة الشعادة 
قعناعلطعم طامظ8 أه تأنه" مامسصده0 #تامتدملععاعع2 مده دوعمع بتاع مصرمك" (4) 
,09 ترما 22 بإقلم وبع صلوء لع ,أعصنخهظ لع2ع020ئ1نا مه ععممقصمماموط 
رقوع 72 "5111 نشلة نمل اطتصةت ,تمستلمتع 812 [أه معاوط طون قط معدمف1 حمل (5) 
2003 
(6) انظر؛ 
كه #طنتوعغط0 علمنوناع5 امعععط وأاموم5 طتتاملا 120" ,لة ك ممفاءلة تعذه1]' 
عصع 51 مأتمطة أقع عقنت ,ومفامعصسصصهت لصة مع اع عالف ع اورة 
10:6 
(7) هذا وفقا لمؤشر جيني خصعء00666 أصأت. 
ماخ ع وم00 عل كه ومتعلةكة عط" نمقصفط عاطتماهم1 ,صلاعظ-ومنللئطط صن (8) 
بقدماءولة نا ,با عاعملا ببع11 ,رمدهدعة مغ لوع0ا مجمعآ8 عط مممك عمعصيء 1/40 
2009 اإتنقم 0ه 
كما رو هامطعتروط علافأتسمقصيطط تمعامعصسف ومامءستامعصظ ,مدوم معلووعز (9) 
وعممهة! عاعملا مول كاء5 مععممل8ة عط كه مسامفطة5 عط لصة ععتغلنات 
3 ىامتمصمعم 
عل امتقصيد8 م131 موتمعع05© انقتطناة1 1ه لمعاغوط عط ,لخصوت عوعلمقآ (10) 
66 وعد لإطاتسع ادنا عوابا 
(11) ورد في: 
دان تادر لم0 © برموقع18 لوىء طاتامع51 كه قدم1اء باعاقمه© ملع عتتصوز 
.201017 ,قوعم 
رده لغمعدسل8 معطولك؟ طمتاهمظ صا لماتمةت مقصسط' ,سمولاممع11 مععقمم (12) 
فعاتسمضوء8 أه أممطك5 صمقدم1 ,عقا عتسعلهعم مصتص؟00) غم تعكلع ععجيدقم 
.4 عصبز -2526 ,وععصعك5 لوعقغتامم لسة 
لقتة تق[ كه ععموعطمتعصسعظ ن بطايطة أه ععزظ عطك ,ك1 لصسصةك (13) 
6 ق16تطتوتامء8 لتة متها 02 لقصعنه][ ,'-19321970 ,ميقعلطت )8 وعتسمهمع8 
١‏ ,1983 ,1 
(214 مرجع سابق. 
براعفظ عط غه عأتمتصعقة ف :معأ متمصمع8 لصو عمآ أه عملظ عط بأمعاءط عهجمع0 (15) 
نهآ كه فصتجا0 عط ,مله رزع 1م12 وعأمقطلن 0صة أقاعةظ معقععصمع8 صل ,موعلا 
لموجةك8 بصقطصع ةاعط© ,ومغطنة8 وستقصده8 عط عزط بإوووظط1 بقع تتصمصمعظ لله 
6 ,2005 هع181 
عقوعقعض1] مأ 15 ووعستمم8 كه طللتطتعصمهصمع8 لمكه5 عط1" ,رممتسلعاء8 ممكلاقة (16) 
.0 لعطسصتعاصة5 13 ,عستمديهقا؟ معمصت؟ عاعملا بوعلة عط غقضوءط 115 
له طاسواعدع 50 بأاتءمطاسية بلقتلوءءطتامع1! كه وعتصنا عط ,وعاجةطة 11لا (17) 
014 نيةة :هلهم مماغلء مدرمي أه عأومآ عطا 
ممطاصعءة2 اتعطووعهه1ة1 بطععوة. ,لوم ع5 لمعتسعغطءمصبعل8' ,عومظ8 مدامطللة (18) 
لصة ععبوو2 ,عمك لعصماظ #اعن1 عقنا 4ه وعغتلمط ,عومآ1 عقامكطةئة :2003 
دماععصع :[77 ,رصمعععصاء2 الإسسكمع 0 أوجزط- لمعم عط صل بمتجلءء زطانة 
.007 رقوع 8 زوع كلملا 
.1994 ,6 1و8 طاميه8 بملصدمآ رعمعمع2 م16 مصتمع هاتآ تعصدت] ععلع5 (19) 


2/2 





الهوامش 
21505 عط مستوممهوانا قلعذ عط كه ووعصاموع18 عط رومءطصععطظ8 منتمتف (20) 
وأصععن0-اللععك8 للمععاصملة عهم سومج مرععدمت عط هذ مماووعومء2 4ه 
0 ,رققع25 اوالورعأدلآ 
مسحو نشاة عمل 1ءطتصون ,فرظ أصدووعومع0 مم4 عط ررلدء13 لتجوط (21) 
997 رؤوعم8 زوم لوملا 
(22) وفقا لتعليقات وأبحاث مستفيضة:؛ لا يتجاوز تأثير مضادات الاكتئاب تأثير الأدوية 
الوهمية 8وطمعوا إلا بشكل هامشيء. فضلا عن تزايد فعالية الأدوية الوهمية عاما 
تلو الآخر. انظر: 
مللناهة مراعلة84 قصة مطقرة متإطم8 مممصقاء5 .]8 أمقد50 ,رطفلة14 ببطامصسل ,8 
لقغصةغوطناة ,عاطفاعةلا بصم زأووععمء0آ1 عهز142 زه وعللجة صذ عمممموعظ وطمعوام* 
.14 :287 صملأواعمدهفم لمعلن14 ممعتعصهم عط كه لقصعيم[ ,أمستوامءت لضع 
.2002 
]0 ب«مغط1' ة ذه و«ملتمقصيده] زووعصا!1 لمخمع كلم كه طلؤازة عط ,مم52 ممتصمط؟ (23) 
0 مبملفتصعئع2 معمعقط عاعملا بوع1]1 باعسلصمك لمصموععم 
,179 #عسعاوءة أقععة!© عصدقه] صا عصوة وصاع8 دن" رمقطمقمعقه2 ..آ,ط (24) 
كاء5 عطا كه قمعصتموع1] عط وى طضعمطظ (25) 
8 أمقووع ءاضق عطا رجلوء11 (26) 
لم غ20816ية121 ذه :6511-111 كه وستلدك8 عط رعماءء1 للقصصوط (27) 
:2164 اإاأقوء 17دنا 0400 :02100 الإمامتطعنزو سيوع لع ددم كه أقعناودهن 
2013 
عتنقتطع رو صل عونا ج10 ومامعغلونت علأومسهملطط' ,له أء ععصطواع18 صطمر (28) 
1 :26 لالتقتطعأرزوط لوعمعوع0 ,لطععوعوعه 
وقد صار ذكرٌ الورقة الأخيرة هو الأكثر ورودا في تاريخ الطب النفسي الأمريكي. 
.110 105841-111 غه مصنلة81 غط ررععاءء2 (29) 
(30) كانت مسألة ما إذا كانت متلازمة مثل الاكتئاب «تتناسب» مع ظروف المريض مسألة 
حاسمة بالنسبة إلى مدرسة ماير في الطب النفسيء وكانت تعني وجود تحالف ضمني 
وفي الغالب صريح بين أطباء نفسيين كثر ونشطاء يدعون لإصلاح اجتماعي خلال 
خمسينيات وستينيات القرن المنصرم. لكن هذا التحالف قوضته الطبعة الثالثة من 
الدليل الإحصاني والتشخيصي. انظر: 
اما ملطروظ مط :و5202 ذه 5نم.آ عط1' ,لاع تاععلوةآ عتصمععر[ لصة مغتمديه1] سوالة 
:0114 عل عهولنآ عجأووعومع0آ مخصز بروععه5 لقدصعم1؟ لع مدصم كفصو 
.07 رؤوعع2 1م1211 
(31) ورد في: 
1051-1 1ه مصنطلمط1ة عط ماع12 
(32) تعرف القضية بقضية أوشيروف 0#معط09 نسبة إلى رافائيل أوشيروف الذي ربح 
القضية. كان قد خضع للعلاج من اضطراب الشخصية النرجسية في العام 1979. في 
البدء. خضع لعلاج نفساني لكن في وقت لاحق من تلك السنة أحيل إلى مؤسسة مغايرة 
للصحة العقلية أخضعته للعلاج بالليثيوم فبدأ يتعافى على الفور. وقد حصل في العام 
3 على مبلغ قدره 550 ألف دولار. 
,الإتأك لم1 عنتصدآا مغ 4ععلصنآ عامهطلصمتة بوامتئط رو“ ,عمط عاموم مع (33) 


213 





صناعة الشعادة 
2008 351897 6 ,درمء.وع تستانزه. ووماط.لاء؟ 
ع صوط لإتافتط :رو 1#عل02 أمع نا مغ ماسودوع رصعل اصف؟ جزععامتتمط ةا وعامم (34) 
(اتمععة10 26 ,حصمع .اوه صده أوصتطقة؟ ,معلا بود لم120 عدط8 10 1165 طخت 
.2012 
(35) انظر على سبيل الطثال: 
عاعوتطء تروط مصة وومآ صع5100' رعدره1آ تتعطمماقتعطت لصة زه [صم1 عللناز 
أه إدمع15' ملموعقتآ أمعصدمماءبع1 ه 4نوجم] تعقعيه0 عملت[ عط وقميع 
كه أقضقناه[ تنوءأءعصسق عط ,ععسعتلاقع8 0صة عامنظ لعأماعظ -امعصسع حومع8 
.14 ,8 :171 لإماقتطعبووط 
(36) على سبيل المثال» تقدر تكلفة الاكتئاب على أصحاب العمل في أوروبا بنحو سبعة 
وسبعين مليار دولار. انظر: 
لدتطاني لصة لقءه5 عه ععصماءم متا“ ,رمجقص!1 ملامواظ لضة ماعمآ-فصوج8 وجوه 
نتنو لوقع زمء10 10 عاعه/ما كاه عممل؟ لصة ععتومك1[015 وعلتطلعلم4 ه10 ورماعة2] 
عطا ها ومتوعممء0آ أه 510 تفع تنظ مأسنام0 ومعبع5 ه تممك وومتلمما"ا 
4 ,3 :9 ,عم 0 2105 ,عع هارملا 
عع ةأواءه11 عط هذ ومتفوعومء18 أعومقة" م؛ صستحيه1 متطودعلمع.آ 111 عط (37) 
#لاء]8 ولانتطوعط ارمع 4 نوممعيظ ما ععماوي ]ا عط ما ووافوع ممعم“ 
014 ,مططمء.تتماققع رصع لاع وعهما ,عل0معرآ قوع تتتفياظ صروعا ماتطعتده1آ 


الفصل السادس 
لسعم عادرمء2 #غلننت عه علنطاعومن"' بإعاعمامء8 -متصسكالوت أه مضتوعجامتا (1) 
عطتوعناه21 26 بمروء لله لععمعاعو ,”لمووه8؟ 16 تروط" بإغطآ معط للا عموكة 
: 2012 
عع هع نالع .لك تاتف ةبرعم ,'4 صعطة ععمك8 15 1 + 3 معط للا موإللع.آ عاعسك (2) 
0 ؟عطمك0 24 
(3) استقصيت هذه المسألة بدرجة أكبر في: 
ولمع مقن لقعلاتاه8 ,'تمستسمتاعة تصن ستموءمع71 ورسنو ع8 عط]" روعتجو تسممتللةآا 
عط كه عومعبعظ عط لمة متمتلةءء طنامء1ة' ,معاجوط تصعللل16 ممه :2012 ,4 :83 , 
2013 طنط[ 16 بأعتوع مقعم تع لتعجه ,*”لواعوة“ 
(4) هذا هو الفرض الأساسي في مجال إستراتيجية رأس امال. انظر: 
01 راكنا لممتصضقط ,تج 5221 ع#مقطة دععمه80 ع +أاناء م د00 م21" لععروط اعقطء 1841 
1979 طععملم جع جع 
© 21011 قلع تون -أق80 عكلة1' أقط1' قعمة2 ناملا علتتقط]' 7 ,دمأقعاع قط ومعفن1 (5) 
4 أتعجق 2 ,صامع.عع صتامطصنا ,للعبع] برعل عط 
4 ناز 10 متطمء .ناو سيوع سعط ,'تعا]' عغةعو ج00 لزه ةا" رعقوه1 غ194 (6) 
رأقع76عمع1ع22 ععسصعنلسسم واأعلالع8 لأاتكلاعم منتوحظ لممقطة' ,نلموئومت مك3 (7) 
تإأن[ 31 ,حمء.سقتل ممدوعط) 
,315 ةأقتاطتصظ ويستقصوءظ لندصمتا عه لمعك عدملا 15" ,لمعصعه عمزمم (8) 
.4 "إتقتاصة[ 13 ,تمع سمتلممتوعغط 


274 





الهوامش 
كلعء قوع ماقناط .,8م00)ءء مصرون) لم50 ده عملع2 3 وصنغه2' رتعلد8 معطدمة (و) 
.2009 اتوجرم 8 ,رمدمء 
20 35[ مقتصنط :وعسصتاعدم]1 بولعتعوط ممهنالة8؟ قهة م«ممماعوكت صطاه[ (10) 
لإقمة تله قصمامهل؟ :14 اا عجارملا عا« ,درم 1اءعصمه0 لمكءه5 مم1 لعولة عط 
,2009 
116 تاد واأمعلقه8 لعنقامة1 ترالقاءه5" لإمعوتية لماعممة +45 لماتمدمك؟ (11) 
أ طهاء0 27 ,تلمع لت 0ععمع 5 امعصعء و امع جنتة معقم4 مندم عروقز 
لماعه5 طغابب ععصهنامممه0 ماء137م نا متمم8' بطأعتكنات ذه ونويع جلوتآ (12) 
00106 3 بلاتوء([تهلععمعاءة قصومولة 
لقأء50 سمه قصملؤمصظط امخدعسائم]1 +1603" لاعلجع1 بومامصطءة1 5411 (13) 
عع طاتعامء5 16 ممع و ااء روه [مصطعع ,'لعلوع 26 مامه ببوعلة 
صقط!" كنام تع ةاممن ععه31 عقف دفعصتاعهمآ لضة ممأووعويء' ,عماللا نرتت (14) 
أقناوناف 9 ,تمع جه منترهه 1م طع تروط ,علصاط؟ ناملا 
(15) ورد في: 
بقتقة ل مطع رو أه ععغطنج8 :1974 -1889 ,مصعءهك8 برعا طمع3[ للع ماعول8 ممعم 
ملع نام /علعهأقاة!' بمملصم.آ زفي طامطعروط مناه لهو باع مم50 
.0 ,1989 
(16) ورد في: 
4 ,رمضة :110 بع[ طأمعور[ ,لمعأ مولة 
نان لاع طتدماعه5 كه قصهاأفلصيده] :تعجاصيرة القطة مطئةا ,رمصعءمك1 طمعورز (17) 
,1953 عقندت11 تموعوع8 :5آ21 رممعوعظ8 ,ممموعلماعه5 قصة بإروععطاه طاء روط 
ناكد لبقا تلقصم علدمهساع71 لواعه5 أه امع صطماعبع2 عط مممصعع8 ممخصنآ (18) 
.4 ,قوع لقعأ أمحصظ ع لامع صولا ,ععمعاع5 له برووام50 عطا صا 
(19) انظر: 
طافتايمظ لو«مناء لله أعمعغصة صسمع ع5 وسمعتعصة غه امعمممط 38 يوبن" 
اتنا[ 24 ,نا هل نوو 
5235 50107 ,قعااء عقوتت سقط عطناءنللم عمماة عاممطمعة؟' ريعتط1 عحقط© (20) 
212 طععفقة 2 رمعو جاءن] 
لللقاءه5 ما علمنا ملصلط بوفجمة :”5106 عأمد" ملممطاءعو8" رعقموعط معتصوط (21) 
لطاع م11 17 592.601 ةنعط ,للق لقاع نيو1] ع تلووعموع م 
-للء/18 مجناءء زطناة صذ عصتاءعء12 وأعناعء2 عونا علامهطععة8' ,له أء مومي1 مقطاظ (22) 
.3 ,8 :8 056 21.05 كالدلة معدملا مذ وصاءعظ 
,1007 ناملا مقطا" ملسعاء8 26و14 مجدك1 ولسمعم8 رووتا لطا" رمتاع8 غأمء5 (23) 
,6 :96 بروره[ماء50 كه لقغناه[ نوع عمق 
2 متاوء.عناصة ل أقعط) ,'#واعدما ونا وسنلدة3 عاممطععةظ 15' ,طععهلاة معطدعئة (24) 
212 لصف 
عأقبطة عطا صذ متكتوت عط ممه با لمعو رسكتلة امون" بأمعطلنت بإصعي[ (25) 
2 تن طاسعامء5 14 ,أعص نوع وى ممدع لمعمه ,#صأمسلم1 


5آ2 





صناعة الشعادة 


الفصل السابع 
5 نععهامإعطاموة8 لقصم اهم عامط عغطا صذا وومغقللاء54" ,مملضوعة معتتصدع[ (1) 
عط" ممعت طاعلصعم1 رامو عط هذ معتيعسق ملئما ما ومتملامعل0م 
,77:3 ماع11 121602 ممع سافيظ 
انا اصقاظ عط ذه 1772615اقدم) رواعمه8 ورستاكيا2' ,بممسع1خ3 قمع[ (2) 
مساكنامع للق لمسمتاقسممعكمة 'وعمغهل8 لممعمعءن طاتم عأووتصمة ومموحرصمط]" 
.999 ,3 :73 مماعاتاع1 1119607[ ووعصاقتظ عط" ,19208 عط صل أممامععم 


(3) المرجع السابق. 


216 


عط كه طول أفعلت5 عط1 بأماخصعكق5 قنو ,لفوع ,[ ,2 تبه 11 فقحصمط' (4) 
2 «عطماء0 ماع موعساكياظ لمو صوق ,"ممعت ]219 

هسام جع كح نمعو©ا ولق متعنطنت طاعصدع؟1 لصة معو طمصمطء ةمع نوو11] ومغطتلا (5) 
تنه[ :قم0تمآ علمتطك" لمة عاعملل؟ا عا علا و17 وسعرو كفصو الالل؟ أمط؟ 
الاح اانا 

+066 عط لالنة رورععل 1713 عااأن) ,8غة0آ واظ نوع لالت التقطرة ,لتعفصصجه؟' بتممطعمق (6) 
7 ,2013 ,ملزقفة رهن عقمم و8 ,/8ا ,إلا مارملا معلا رواممان] بعل ع مم1 

العملا وسمتمتده 1 م[إمبع8 19 ععمعهللاععه1] لقاءه5 ولط" ,ممنه مدت عأمدكة (7) 
3 عتتا 20 رمع طالمتسصسمء 2 دوع صتقيط طعروعوم 2 

ناملا ععلئا مكاممةآ غ1 لمق-امر طءغهة13 فلم عنمغو نم1 وأمعوع1” باع ها نوكظ5 امعوه (8) 
2013 ع طحصع:2109 4 بحرم .عاعء ججووع صاقباط ,'عع008 و لععل3 

قاع 586 #عأوع طعصما! مك لعصمواظ علخ ومتكتمومعع2 لماعو؟' ,تطوامظ علممكة (9) 
3 1437 28 بددمء.ء ستتصملعمكلهة 

بإلناز ١1‏ ,نان101.6, 836 0تتاعت ,أقوه1)مسرظ8 ع0) اعاتقاة ه' بدممعط )و34 مه (10) 
2014 

عصلتلهه فامعولوعظ علعهط1 دمه5 نروق8 مغممجم1" رهممفصسنم معتصور (11) 
قصلئطة5 :2013 عصد[ 17 ,وء.ووعستوطماع ,مععاجةة وله أممطمق امعسارعة 
عا فليامن أقطط' قمع1 وستومسظ سم ةلهم 5" بلقله18 
متاو جاع أن علمغارده طوعع عع ,عممعاوعمعدظ8 أمعلعوط مذ عهل8 سه فلقغامومقر 
3 1164[ 28 

لاغذ قدمنغوعمصحمهت ماع11 مطلؤا معطامم8 منو0 عط غععك/ة' بومفاءطء نآ[ مموط (12) 
.201 #عطصععء 17 عع طتصعيده1! ,قعهه[ تعطاوك8ة ,لآ لوأتواط حداملا 

لمع تمع مر ' كك معصدط رعطقعز اسه بإممللتندت عتتصةرز متعصوت1 سدلم (13) 
لقاء50 طونتمغطا صمتهفاصمت لمدمخامجم8 علمءؤ-ءجادممكة 2ه ععمعماع 
عممعكك5 عط كه بتمسعلهعة لممملولة عط كه ووستلعععمءط , معاتموحعةد 
4 ,24 

اعمعع5 وألموتاءءة2 غنتمطة مس1 18/6 وستط ع8" بوعترعق8 وممصاطم2 (14) 
4 عصدز 28 ,تقوععءعسمملأدعط) غمعصاءء و8 ممكه[نجتصمك8 

رأقاهه1' غاعة منص م0 وصاونا 84000 عماموع84 0غ 1ط" روععتسصقظ مأمعممظ (15) 
تلإتقتتمة[ 17 ,مطحم 15[ء03 6 كأتأسقنن 

صة كآ لصنل ومست لصةلك ه' رأعطلتكت أعنهة2 هسه طامرمسووسصتللك1 معطج31 (16) 
2010 ,6006 :330 عممعاع5 لحممنا8 وممقطدتن] 





الهوامشس 

بدنلا بمعل5 م046 نمل ومامقسامسميعلط' وعتدعت لوعنلء86 أمملة غمناوكة (17) 
تمتها :2013 عصنز ك5 ,مع نر[نه0ععمعكة ,معلعهو11 عوامما8 عومسمهوواط 0غ 
.2012 لإتقتتصةز 28 بددمع.مه1ة8 ,قوع مأمم 112 ذه معسصعكومميع711 م1" ,جرمع 111 

عممعاء5 وآ د وعمسرمعع8 أءء زوموظ امعصمماءبء معل2 عوبتط' خطما عبم86 (18) 
14 أتعصف 14 ,صدمء.وع سن جص.ديه اط ,قغاط ,'طقب1 

,12815 عأماع تم طءتزوط قبرهه8 أيه نوعدت م علول8 ومعماءعوطو[ عاللهق8 للطزة (19) 
لتأذجف 30 ,تدمع صةنلمه نجعطا 

لط هعلخ عط ؛آ غ11 05#[ 0 ة وضتمل ععنامم علصنط1" مسفاعنظ مإلصم8 (20) 
2013 أقتامناة 27 :1تل35,0 تمه تدده قطاتصرة ,مم ععأنامل9 قوق 

4 أقنامناة 20 ,تتزوء,قء طنتاتزه عتطء تروط 354904 يسامممطة' يستعأفصسرة دوو (21) 

فطع 111 :06 م1 ممع و1 وااحلاعم وعونا علصم8- مكلف ' رمعقه8 مولظ (22) 
4 تإقاة 30 ردصمه.10نه عقت ,عو اعمعءظ8 مطللا ومعتصماقيات مغ وعنهه 

1016 ,30118]5 هل عمو8 نرو8 ومعوومعذموط قاعآ عملة5 برومتطب58 بومعوه1ة' (23) 
23 ععطصعجو[ة 14 بصم 


الفصل الثامن 
81135 مه بروأةا واصاوظ ,لم1 وصاءطللء6؟ ,قسععه2 ممصلة قصة معتجوط عتمعاءآ (1) 
نا[ 24 ,تامع ضة لل تمنوغطا ,لها مه لصة ملصمان1 عأمصسعه وده عجار 
2012 
(2) مملمجقمط ,"تال معنن عند0 كأعدرة عمعء5 مععيت ها رومعطمع مم 1كة تيده 
2 طعمواة 28 ,حرمء. ومع معطم 
)3( في ربيع العام 1؛» نشرت الجمعية النفسية البريطائية رسالة مفتوحة كتبها مختصون 
في علم النفس السريريء ينتقدون فيها الطبعة الخامسة للدليل التشخيصي والإحصالي. 
(4) انظر: 
أععآ العاجة غط]' رأأععلءاط م أقك1 لصة مممصتن لاا لتقطعتر 
(5) وفق تقدير أجراه عالم اقتصاد السعادة البريطاني أندرو أوزوالد 4ل068 مععتلصف. 
فإن شخصا عاطلا عن العمل يحتاج إلى إعانة قدرها 250 ألف جنيه إسترليني سنويا 
لتعويض الأثر السيكولوجي السلبي الناجم عن البطالة. 
أه5 ره لسة 5635015 عتنامف' لإمعصع؟1 اأمموويهة1 لهة ممودعيكلط برلله5 (6) 
مغةوطهآ 4ه واوعطاصرة سه «ملمجوعكم1 لمعلاء معط 4 بوعفممموقم 
8 لقة علعقهمق؟1 امعطم 2004 ,130:3 سلاعللمظ لمعتوم 1م طع تروط طعموعوع8 
كه تمتاعص امممعع 1 عط 4صة ,لجاع سوعط ,ومع م5 علارمكةا جطتلوع11 للعتمفط1 
2 ,رفعلهمه8 عتمو8 ادهل بع21 علئآ منرملا 
عع زم اصصظ كه عرصاءطلاء/98 لصه طتلمع11 عاعمكة؟ ره غ81" ,.لة أ لتمبوء14 للقدم8 (7) 
.2012 مكلباءهء.متطفمعهجدمعع تزه [صصيء ,مدع صتمم8 لعصمح0 ععتره [تيدظ صذ 
للع كسم جط/اا نوع اتسمدمع8 8003 عط1 ,مد8 تزوزمة5 لمة معلعاعين5 10و« (8) 
3 مرقه ل ممعم مهت عاعملا علد ,1115 
(9) انظر: 
لناءمء.لمك ,لإعناقتاة لمتاصسة امعطوعع ممدل8 ععمعوطم طن 
ما عمنءظ8 -لاء18 قصة معملهلا عناعنها لم812 يمتحسطة صمعقة لصة نعدمد؟1 سكل" (10) 


277 





صناعة الشعادة 
20 ,1 :32 توه امطعنرو2 أقاع50 ذه افمهناه[ معد معداظ ,مأمعلن56 فوعستقيظ 
أت طم نومع عخص1 صخ :وصاءظ -لاء/3ا سه “104:م/ل! برعدصمكة"“" .50 ,أعمنة1 سداعلقة (11) 
لقصعده[ ممتعقطعظ لعنقاعظ-ععلعط لصة ممكتلواعع ه161 ,مملغتقممقلط رعموقز 
0 ,1 :23 روه [مطعرزوط عامممعظ8 04 
نك ستاعممآ لضق دسوالفتت 8426 كه وعتصسمص(1 لمممنءع 8101 ,وعاعاط علله (12) 
3 :40 لالعتقعوع1 تعمسدهووت 01 لممعنهر[ ,أعلننز0 مبماعلا م أدداز أملز 
0 ع85مطوع1 م :تموامعص نفممت لمة وسلاعايةك5؟" ,ماعطف برععقدمة (13) 
مصتاعاعمكة 5ه لمصعيات] ممعم ممياظ ,'ترموع مط سقطة"0 اسه تزوقع ستائنتقط0'5 
/2, 2006, 116-5 :40 
عولاا 0010 عط :بإعوعمصعط<ا أوللماتميوكت ووستعناقمه2ه8 ,عمقصية .5.81 (14) 
مومعنطن كه تالومع امنا بميمعنطن ممعتلوععطلآ عمتمطت لقصم تمه غه مملوتره 
بقوع رط 
عط دمل لمعع8 الزن وقمل8 م15 ومأعمومعءط ومعقاصءط' ,لعصسطف مععكوةة2 (15) 
4 11556[ 12 ,تارمع.ائة لل مقناع 
(16) حصل الكاتب على معلوماته بشأن هذه الأجور من المكتبين الناطقين باسم دان أريلي 
وريتشارد ثالر. 
(17) فيما يتعلق بهذه النقطة, راجع كتابات الفيلسوف الفيتغينشتايني بيتر هاكر جعاء5 
مك113 مما فيها: 
6ع طعأ ومعناء 71 كه كده تأ ملصنا0] اقعتطمهوهانطط زعاعة1]1 ععاء2 مره اأعصمعظ8 سمال 
3 ,18116 :مععامطه1] 
ودراسته غير المنشورة: 
غطا ما برومامطعوط كه برطمهومالئطه مماء)فمعع 1116 كله ععسموماع8 عطك 
'قععرعاء5 أقعاعه 1م طء بوط 
(18) «بشكل لافت للنظرء يعزو علم الأعصاب للدماغ مجموعة الخصائص نفسها تقريبا 
التي ينسبها الديكارتيون إلى العقل». ى 
نععمعاءموقيع]؟ أه قدصم لأهلصينه2 لمعتكرمده[لطط جرععاعوة2 لسة اأأعوممع8 
ملاع وعاءها8 :رمدت ,كممتتهواءوعتحم1 لمعنطمهمملتطع ,ماع أمصعع ةا واجلسة (19) 
4 هتوم ,1 عأموط ,2001 
كنا تقطء8 لقنعه5 4ه وملاأممقاعودظ عط ,لرمئءع5 اننوء لسة عسوة] دمع (20) 
,ملاعب واعه8!1 لتفدظ بلعمقت0 
له 2001 ,لقع 1م119 01487 أوعاهع02 عط الإطصرمء صطمز (21) 
1 ,11 :5 ومةصصرمي رومامطع روط بوالقدسمومء2 قصة إهقاعه5 ,روه امطع روط 
نه كتمع صاوعع]' علوتقتطء روط نطلا بلصنلة عط وستءمغعه2 ,الخدءظ8 لمقطعته (22) 
.11ب ,2009 ,اتتتاع دوع /26ة.آ تعلام نطسملوم.] 
7 ,2007 ,م8 :0:00 بوصتصع افآ 4ه مف غط1' بماعوظ وعنآ (23) 
7 كناو اتقطع8 لم50 5ه صمتأقصة[صدظ عط ,لرمعع5 لصة عمموةة (24) 
(25) انظر: 
كلع عصة ل مصهدم[ جزعاصما عأمماا زووعص 520 كه دوم]آ عط ملاعم عكلة؟! لصة جغتجومه15] 
رو هأمطعءترة2 لزمامتطعووظ بمروعسن/1 ووسمتعتلمء نل»6-34 .قلء ,بمملائط دوعر مضه 
21 بتنهلاتصعو]8 عمجدعولوط :عام انع ستمدظ رصمل 1م صه2© تقطناك؟ عط تيه 


28 





الهوامش 
رقكله800 ممتطامد تصمئنلعه ,ممتسامع28 عصما عط ,قسمنالة؟ لممسحيومج (26) 
ْ .2011358 
أنا ممتن لجيرمي غيلبرت لأنه نبهني إلى هذا الكتاب. 
لقنا ععتامعة5 عتلطن2 8 وستسصمعع8' ,ممصمعلآا طابظ لصة معتجوط الثلةا (27) 
ع8 لمتمساط 10 معتصعن م0 ,عوممطت اسه ممنغتمموا وسمتلمة ململ 
عل عط مماغمع اماعظ' ,معاجو للللاآ :2013 ,ومعصتمب8 لعصهه-ععترمامصظر 
كلنا.مء.قه ضوع 
,58635 الطدصون 6 عاعع/ل؟ بإوناعيده8 قلعع51 ع1" ,لاعطديسيوت قتمءط (28) 
تلن[ 1 مدمء.صقتلتمدجعط ,«ماعه1 م10" 
(29) فلسفياء الإقرار بأن المقاييس المتنافسة أو مجالات القيمة لا بد أن تظل بعيدة بعضها 
عن بعضء هي دعوىي ترتبط ب: 
.83 ,رقعله80 عتفدظ عاتملا بعل« ,عم امس[ كه عمعطمة مععلةة؟ اعمط 1ك8 


219 





المؤلف في سطور 


ويليام ديفيز 

© أستاذ علم الاجتماع والاقتصاد السيامي. 

#ا يكتب في «بوليتيكال كوارتارلي» إ1تعامهت0 201161 و«ديلي بيست» 
أقهع85 103117 و«فاينانشال تامز» 112165 [12عصوص81 و«بروسبيكت» 
6م2205 و«نيو ليفت ريفيو» 169166 1ع[ ه212 

#ا مُحرر مُشارك في «أوبن دموكراسي رينيوال» 1625881 همع وصيء <1دعمه. 
9 مؤلف كتاب «حدود النيوليبرالية» دموتلهوءء طتامع71 04 وانتصاآ عط1. 

#ا يعمل بالتدريس في كلية غولدسميئثز بلندن 4ه 167وم156م] وطغتمو010 © 


1000 


المترجم في سطور 


مجدي عبد المجيد خاطر 

كاتب ومترجم من مصر. 

#ه ولد بالإسكندرية 1976. 

#ا شرت ترجماته في المركز القومي للترجمة: والهيئة المصرية العامة للكتاب, 
ودار «أزمنة» في الأردن» ودار «كلمات» للنشر في الشارقة بالإمارات العربية 
المتحدة... إلى جانب العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية. 

© بكالوريوس العلوم والتربيّة 1998. دبلوم الدراسات العليا في التربية 2017, 
#ا سافر إلى المملكة المتحدة في بعثة تدريبيّة بجامعة أدنبرا في العام 2004. 

ا ترجم.رواية «إفطار عند تيفاني» لترومان كابوق. وصدرت طبعتها الأولى عن 


281 





202 


دار «أزمنة» للنشر والتوزيع: الأردن2011, والطبعة الثانية عن دار «كلمات» 
للنشر في الإمارات العربية المتحدة في العام 2017. 

#ا ترجم للمركز القومي للترجمة في القاهرة: روايتي «1876» و«هوليوود» 
لغور فيدالء (في العامين 2014, و2015 على التوالي. 

#ا ترجم لسلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامّة للكتاب في القاهرة: رواية «أن 
نصبح أغرابًا» للويز دين» 2011. و«حكاية أوزوالد: لغز أمريكي» لنورمان ميلر 
«في جزأين» 2012. 

© ترجم لدار كلمات للنشر بالشارقة في الإمارات العربية: رواية «حرب 
أمريكيّة» للكاتب المصري المقيم بالولايات المتحدة عمر العقاد 2017. 

© له مجموعة قصصية بعنوان: «مجرّد شكل». عن المجلس الأعلى للثقافة 
05. 








يُسلط هذا الكتاب الضوء على مشروع فكري مُضلل بدأ منذ مائتي ي عام تقريبًاء 
اقتخمت من خلاله صناعة السّعادة قلعة إدارة الاقتصاد العامي» . وؤغدت جبهة قتاله 
الجديدة. بحيث بات مستقبل الرأسماليّة متوقفا على قدرتنا على التصدّي للضغوط 
النفسيّة والبؤس والمرض. يسعى هذا المشروع الذي تنفق عليه الحكومات والشركات 
الكبرى ووكالات الإعلان الآن عشرات. المليارات. إلى رصد أقل التقلبات التي تطرأ على 
عقولنا ومشاعرنا وأدمغتنا وتوقعها ومعالجتها وتصوّرها والتنبؤ بهاء بذريعة مزعومة 
هي جعلٌ البشر أكثر سعادة. وتحسينُ المجتمعات: وذلك من خلال فهم «علمي». لكنه 
يستهدف في حقيقته التلاعبَ السلوكي بالبشرء وإخضاعهم لمجموعة من التصورات النفعيّة 
والبيولوجيّة والسلوكية التي صارت اليوم هي التصورات الوجيهة الوحيدة تقريبًا. 

هكذا ير دع بانفعالاتنا ورفاهيتنا إلى قلب حسابات الكفاءة الاقتصادية الأوسع؛ إِذ 

يُشير مثلا تقدير للمؤسسة غالوب للعام 2013 إلى أن عدم إحساس الموظفين بالسعادة 

يُكلّف اقتصاد الولايات المتحدة نصف تريليون دولار سنويًا بسبب تدني الإنتاجيّة 
والإيرادات الضريبيّة وارتفاع تكاليف الرعاية الصحيّة. لكنْ ا لمشكلة هي أنه خلال التاريخ 
الطويل للتحليل «العلمي» للعلاقة بين مشاعرنا والظروف الخارجية, دائهًا ما بيرز لطيل 
إلى رؤية الأولى على أنها الأيسر قابلية للتغيّر من الثانية. وهنا تكمن خطورة هذا العلم 
الذي دائهًا ما تنتهي به الحال إلى تحميل الأقراد مسؤولية تعاستهم وعلاج هذه التعاسة, 
في الوقت الذي يتجاهل فيه السياق الذي أدى إلى ذلك. 

لا يتبنّى الكتاب موققا مُعاديًا من السعادة, لكنه يسعى إلى الكشف عن أسباب 
عدم الارتياح للطريقة التي تبئى بها صُنَاع القرار السياسي والاقتصاديون مفهومي السعادة 
والرُفاهيّة. والدّعوة إلى تصميم وتنفيذ أشكال بديلة للتنظيم السياسي والاقتصادي تقوم 
على التشاور والحوار بعيدًا عن محاولات السيطرة السيكولوجيّة. 






إصدارات المجلس متوافرة إلكترونيا على موقعنا لم 


111115 / بلاعا. 001 لم )6 لز ملكا 


م 
5 
>> 
1 
© 
44 
عه 
0 
0 
:0 


- 978 لخدا